مجله البيان (صفحة 239)

نظرة فى كتاب (الكامل) لابن الأثير

نظرة في كتاب (الكامل)

لابن الأثير

د. سليمان الدخيل

هناك فرق بين أن ننسب ابن الأثير - عليه رحمة الله - إلى التشيع وحاشاه

عن ذلك ونحن لا نملك عليه دليلاً، بل نجد في ترجمته ثناء العلماء والحفاظ من

مشاهير أهل السنة [1] ؛ وبين أن نقف عند نزعة التشيع في كتابه (الكامل في

التاريخ) وقفة لا تقلل من قدر الكتاب وقيمته بقدر ما تلفت النظر إلى ملاحظة يحسن

التنبه لها.

وقد اطلعت على ما كتبه الأخ الكريم (محمد العبدة) عن (ابن الأثير وموقفه

من الدولة العبيدية وبعض الدول المعاصرة لها) في العدد التاسع من هذه المجلة

الغراء (البيان) وقد لفت نظري ما أشار إليه صاحب المقال مما يدل على نزعة

تشيع عند ابن الأثير في هذا السفر العظيم، وقد تساءلت بيني وبين نفسي: من أين

لابن الأثير هذه النزعة في الكامل؟

أترى هو الجهل بعقائد الشيعة الأمر الذي قال معه ابن الأثير - حين حديثه

عن دعوة العبيديين (الفاطميين) ولم يخرج فيه -يعني المعز- إلى حد يذم ... به!! [2] .

قال في موضع آخر-وهو يتحدث عن واحدة من عقائد الشيعة (الرجعة) - ما

نصه: (قال عمرو ابن الأصم: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشيعة تزعم أن

علياً مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: كذب والله هؤلاء الشيعة، لو علمنا أنه مبعوث

قبل يوم القيامة ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله) . ثم يعلق ابن الأثير بعد ذلك قائلاً:

(أما قوله هذه الشيعة فلا شك أنه يعنى طائفة منها فإن كل شيعة علي لا تقول هذا،

إنما تقوله طائفة يسيرة منهم، ومن مشهوري هذه الطائفة جابر بن يزيد الجعفي

الكوفي، وقد انقرض القائلون بهذه المقالة فيما نعلمه) [3] .

وعلى كل حال فالقول بانقراض (الإمامية) وهم القائلون (بالرجعة والوصية)

غير مقبول من ابن الأثير، لاسيما وقد عاش في عصر تكاثر فيه الشيعة وأصبح

لهم وجود ظاهر إلى حد قال معه أحد الشيعة: (ولولا مجيء المغول لرفرف لواء

التشيع على الشرق الإسلامي) [4] .

وهو العصر الذي ألفت عنه كتب خاصة بأعيان الشيعة، وفيهم الإمامية ومن

أبرزها (الأنوار الساطعة في المائة السابعة) للشيخ أغا بزرك الطهراني، وقد

أحصى فيه مؤلفه قرابة ثلاثمائة رجل من أعيان الشيعة ومع ذلك قال محققه أنه ... لا يمثل بشيء تاريخ الشيعة في ذلك القرن الذي تغلغلوا فيه في بيوت ... الأمراء، ودخلوا بلاط الخلفاء، وكان منهم الوزراء والعلماء [5] .

وكان من هؤلاء من كان في الموصل أمثال (محمد بن أبي الفوارس الحلي) [6] .

وفي عقيدة الرجعة - بالذات - والتي نفى ابن الأثير وجودها في عصره

تطالعنا مصنفات الشيعة بالأعداد الكبيرة المؤلفة فيها على امتداد القرون، وفيها ما

هو في القرن السابع - وقد عايشه ابن الأثير - من أمثال: كتاب (الغيبة للحجة وما

جاء فيها عن النبي والأئمة ووجوب الإيمان بها) للأشرف بن الأغر المعروف بتاج

العلا العلوي الحسيني المتوفي سنة 610 هـ، فهل كانت هذه الكتب سرية حتى لم

يطلع عليها أمثال ابن الأثير؟ أم أنها ألفت في عصور متأخرة ونسبت للأوائل؟ !

ووفق ذلك كله فالسمعاني (ت 562) يشهد بوجود أصحاب هذه العقيدة في

عصره [7] .

أم هي لظروف العصر وملابسات البيئة التي عاش فيها ابن الأثير؟ وهي

بيئة كان للشيعة فيها وجود ليس على مستوى الأفراد فحسب وإنما على مستوى

الولاة والحكام. ومن أمثلة ذلك: الملك الرحيم (ت 657) الذي ملك (الموصل)

نحواً من خمسين سنة [8] وهو الذي أزال الدولة الأتابكية (وهم أسياده قبل) ، وكان

يبعث في كل سنة إلى مشهد علي قنديلاً ذهبياً زنته ألف دينار، وهذا-كما قال

الحافظ ابن كثير-دليل على تشيعه، بل على قلة عقله [9] .

وكان في الأصل أرمنياً، حتى نقل (الذهبي) عنه أنه كان يحتفل لعيد

(الشعانين) لبقايا فيه من شعار أهله، فيمد سماطاً عظيماً إلى الغاية، ويحضر

المغاني، وفي غضون ذلك أواني الخمور فيفرح وينثر الذهب من القلعة ويتخاطفه

الرجال؟ فمقت لإحياء شعار النصارى، وقيل فيه:

يعظم أعياد النصارى محبة ... ويزعم أن الله عيسى بن مريم

إذا نبهته نخوة أريحية ... إلى المجد قالت أرمنيته: نعم [10]

وإذا كان الأمر كذلك فيه، فلا غرابة أن يسير إلى (هولاكو) التتري - بعد أن

أوقع ببغداد ما أوقع، ثم انفصل عنها- على هيئة الخادم المتلطف له، ومعه الهدايا

والتحف! ! حتى رجع إلى بلاده متولياً من قبله [11] .

هذا الملك أثنى عليه ابن الأثير في مقدمة كتابه، فقال: ( ... مولانا مالك

الملك (! !) الرحيم، العالم المؤيد، المنصور المظفر بدر الدين، ركن الإسلام

والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلد الله دولته) ! ! [12] . بل الأمر أعجب

من ذلك، فابن الأثير إنما انساق في إتمام تأليف كتابه (الكامل) عن أمر الملك

الرحيم هذا، وهذا ما حكاه ابن الأثير نفسه في مقدمة كتابه حين قال: (فلما جمعت

أكثره أعرضت عنه مدة طويلة لحوادث تجددت وقواطع توالت وتعددت، لأن

معرفتي بهذا النوع كملت وتمت، ثم إن نفراً من إخواني وذوي المعارف والفضائل

من خلاني.. رغبوا إلي في أن يسمعوه مني، ليرووه عني، فاعتذرت بالأعراض

عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسودته ولم أصلح ما أصلح فيه من

غلط وسهو.. إلى أن قال: فبينما الأمر كذلك إذ برز من طاعته فرض واجب

واتباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافعة.. مولانا مالك الملك

الرحيم.. فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألفت الدواة

وأصلحت القلم وقلت: هذا أوان الشد فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب،

وإذا أراد الله أمراً هيأ له السبب وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن

السكيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنة

لأقوال اللوام ... ) [13] .

وقال ابن كثير-في ترجمته للملك الرحيم -: وقد جمع له الشيخ عز الدين

كتابه المسمى بالكامل في التاريخ فأجازه عليه وأحسن إليه [14] .

وإذا كان الأمر كذلك فهل بإمكاننا أن نفسر نزعة التشيع في (الكامل) بهذا

الأمر وهي نزعة لا يمكن تجاهلها ولا قبولها - مهما كانت أسبابها - فبالإضافة إلى

الأمثلة التي ساقها الأستاذ محمد العبدة في مقاله الآنف الذكر أسوق الأمثلة التالية:

1 - في أحداث الفتنة الواقعة بين الصحابة يلحظ القارئ (للكامل) تغليب

الروايات التي تصف خصوم (علي) -رضي الله عنه- بصفات يبعد قبولها، بل

يبعد أن يقول بها علي نفسه، ومنها أن علياً يصف معاوية ويقول: ( ... وخلاف

معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق بن

طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حرباً لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في

الإسلام كارهين ... ) [15] .

وحين رفعت المصاحف (للتحكيم) في (صفين) من قبل أهل الشام، قال

أصحاب علي:

نجيب إلى كتاب الله، فقال لهم علي: (عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم

وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمراً، وابن أبي معيط، وحبيباً، وابن أبي سرح،

والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، فقد صحبتهم أطفالاً

ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال ... ) [16] .

إذا كانت هذه الرواية - وأمثالها كثير- لا تليق بمقام الصحابة فلا أدري لماذا

يكثر من ذكرها (ابن الأثير) ؟ دون أن يعلق على كثير منها.

فإن قيل: إن مجمل الروايات التي ساقها إنما سبقه بذكرها الإمام الطبري في

(تاريخه) وابن الأثير في (مقدمته) أبان أنه اعتمد فيما شجر بين الصحابة على

الطبري، فلا لوم عليه في ذلك؛ أجيب بأن هناك فارقاً في المنهج بينهما، فالطبري

وإن لم يعلق على هذه الروايات المنكرة فقد صرح في مقدمته أن في تاريخه ما

يستشنع وإن ذلك كان من قبل الرواة، ورأى الطبري أن إسناده كل رواية إلى

رواتها يعفيه من التبعة، ويجعل الحكم للقارئ يحكم معرفته بالرواة، والأمر يختلف

عند ابن الأثير الذي جعل من منهجه -أحياناً - الحكم على الروايات، والتعليق

على بعض الروايات، وكان جديراً به أن يعلق على هذه المرويات المنكرة، كما

صنع الحافظ (ابن كثير) الذي قال -في معرض حديثه عن هذه الروايات -: «ثم

ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم -يعني معاوية وأصحابه - وبين علي،

وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص

فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك [17] .

وحين تعرض لرواية أبي مخنف في لعن علي معاوية ومن معه، ثم لعن

معاوية علياً ومن معه، قال:

» ولا يصح هذا والله أعلم « [18] .

2- وفي الدولة العباسية، وحين حديثه عن الخليفة (المتوكل) قال:

وفي سنة 236 هـ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام،

وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع

الناس من إتيانه.. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام

ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أن يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم وكان

من ندمائه من يسخر من علي -رضي الله عنه- وقيل أن المتوكل كان يبغض من

تقدمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق في محبة علي وأهل بيته، وإنما

كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن

الجهم الشاعر الشامي من بني شامة ابن لؤي، وعمر بن فرح الرخجي، وأبو

السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالى بني أمية، وعبد الله ابن محمد بن

داود الهاشمي المعروف بابن أترجه، وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه

بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين

يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر فيه ما كان، فغطت

هذه السيئة جميع حسناته، وكان من أحسن الناس سيرة، ومنع الناس من القول

بخلق القرآن إلى غير ذلك من المحاسن) [19] .

وهذه الرواية حين نرجع إلى الطبري لا نجدها بهذا السياق، بل نجد الطبري

يكتفي بسياق الحادثة (هدم قبر الحسن وما حوله، وحرث وإسقاء فوضع القبر) [20] .

فلماذا أطال ابن الأثير في ذكرها مؤكداً على بغض المتوكل لعلي وأهل بيته،

بل كان يبغض من كان محباً لعلي من الخلفاء قبله؟ وهل صحيح أن» ندماء

المتوكل كانوا مشهورين بالبغض لعلي؟ وإذا كان الإمام أحمد من مستشاري ... المتوكل [21] فهل لهذا اكتفى بالإشارة إلى وفاته مجرد إشارة؟ ! [22] .

وعلى فرض تسليمنا بكون المتوكل فيه (نصب) [23] فهل يستحق من ابن

الأثير أن يقول عنه: «إن هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتله! ويقول: إن هذه السيئة غطت جميع حسناته؟ ! وهو الخليفة الذي أثنى عليه طائفة من

العلماء فقال: خليفة بن خياط (ت 240 تقريبًا) :

استخلف المتوكل فأظهر السنة - وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق

برفع المحنة وبسط السنة ونصر أهلها [24] . وقال ابن خلكان: رفع المحنة في

الدين وأخرج أحمد بن حنبل من الحبس وخلع عليه [25] . وقال ابن تيمية:

» وفي أيام المتوكل عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا

الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم « [26] .

ويقول ابن كثير:» إن السنة قد ارتفعت جداً في أيامه [27] . وقد استبشر الناس

بولايته فإنه كان محباً للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا

يتكلم أحد في القول بخلق القرآن [28] .

وكان محبباً إلى رعيته قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم

بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق ورد عليهم حتى رجعوا إلى الدين،

وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بنى أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة،

وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله.

هذه بعض أقوال العلماء في المتوكل، وإذا كان يظهر منها تتبعه لأهل البدع

وقمعهم فإن قمعه لبدعة (التشيع) ظاهرة، فقد كان يتبع أخبارهم ويطارد مشايخهم

في أقطار الخلافة، وتتبعه للشيخ (بشر الجعاب) الذي كان يظهر التشيع (بالدينور)

وله أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه، كما ذكر قصته مطولة ابن خلكان [29]

نموذج لهذا التتبع، ولعل هدمه لقبر الحسين من هذا الباب، والسؤال المطروح

لماذا تستثير مثل هذه الأعمال ابن الأثير إلى حد يقول معه إنها غطت جميع ... حسناته؟ !

وفي معرض حديثه عن (المعتضد) ذكر أنه عزم في سنة 286هـ على لعن

معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس. قال ابن

الأثير: (وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته، إلا أنه استدل فيه بأحاديث كثيرة

على وجوب لعنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تصح ... ) [30] وهذا

الكتاب ساقه (الطبري) بطوله في أحداث سنة 284هـ[31] وفيه من الغرائب

والأحاديث المنكرة ما لا يتصور، وفوق ما فيه من أحاديث منكرة فهو صريح في

لعن أبي سفيان وابنه معاوية، ويزيد، ومروان بن الحكم بن الحكم وولده وهم -كما

في الكتاب - أئمة الكفر، وقادة ضلالة وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول،

ومغيري الأحكام، ومبدلي الكتاب، وسفاكي الدم الحرام؟ ! ! [32] إلى غير ذلك

من شناعات يحار القلم في تدوينها، ويعجز اللسان عن النطق بها والعجب أن يقول

(ابن الأثير) أن الكتاب قد أحسن كتابته! ! وكان ينتظر منه أن يقول كما قال ابن

كثير: إن هذا من هفوات المعتضد [33] .

ثالثاً: تعاطفه مع الشيعة:

يظهر للمتأمل في (كامل ابن الأثير) تعاطفه مع الشيعة، أو من لهم ميول

(علوية) على الأقل، فتراه كثيراً يترجم للشيعة وخاصة (الإمامية) وربما ذكر بعض

معتقداتهم ولم يعلق عليها، ففي أحداث سنة 305هـ قال: وفيها توفي أبو جعفر

بن محمد بن عثمان العسكري رئيس الإمامية، وكان يدعي أنه الباب إلى الإمام

المنتظر ... [34] ، وكما صنع مع (ورام بن أبي فراس) [35] الذي توفي سنة

605 هـ وقال عنه ابن الأثير: وكان صالحاً [36] ويطيل في تراجمهم كما فعل

مع الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن زريك الأرمني وزير العاضد العبيدي،

والمتوفي سنة 556 هـ، والذي نص ابن الأثير على إمامته، وقال عنه: وكان

الصالح كريماً فيه أدب، وله شعر جيد، وكان لأهل العلم عنده إنفاق، ويرسل

إليهم العطاء الكثير، فذكر نماذج لها، ونماذج من شعره أيضاً [37] ، وفي ترجمته

للملك الأفضل (علي بن صلاح الدين) [38] أطال في ترجمته كذلك وامتدحه بأشياء

لم يسبغها على أبيه (صلاح الدين) [39] وهو أفضل منه ومما قاله في الأفضل: «

وكان رحمه الله من محاسن الزمان، لم يكن في الملوك مثله، كان خيراً، عادلاً،

فاضلاً، حليماً، كريماً، قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالباً.. إلى أن قال:

وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم

حرم الملك والدنيا، وعاداه الدهر، ومات بموته كل فعل جليل، فرحمه الله ورضي

عنه» [40] .

وتعاطف (المنتصر) العباسي مع العلويين [41] جعلت (ابن الأثير) يقول في

وصفه: كان المنتصر عظيم الحلم، وراجح العقل، غزير المعروف، راغباً في

الخير جواداً كثير الإنصاف، حسن العشرة، وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين - عليهما السلام - فأمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه وأطلق وقوفهم وأمر برد

فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب عليه السلام [42] بل نقل

عن بعضهم: إن المنتصر كان شاور في قتل أبيه (المتوكل) جماعة من الفقهاء

وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرها، فأشاروا عليه بقتله فكان

كما ذكرنا بعضه [43] .

وفي مقابل هذا التعاطف كان ابن الأثير يعرض ببعض أهل السنة الذين يرى

منهم انحراف عن علي -رضي الله عنه-، كما ذكر في ترجمته لمصعب ابن عبد

الله بن ثابت بن عبد الله بن الزبير [44] وفي حديثه عن الحسن ابن زيد بن الحسن

ابن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذكره فيمن توفي سنة168 هـ ثم قال عنه:

«وكان قتد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله وحبسه ببغداد،

وأخذ ماله فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله، وكان جواداً إلا أنه كان منحرفاً

عن أهل بيته مائلاً إلى المنصور» [45] .

وأخيراً فهذا ما تيسر الوقوف عليه في (الكامل لابن الأثير) ويبقى بعد ذلك

كلمة أراها مهمة في نهاية هذه الدراسة، وهي أن هناك صنفين من القراء قد لا

يستفيدون من هذه الدراسة الفائدة المرجوة:

الصنف الأول: يفهم هذه الدراسة فهماً قاصراً ينتقض هذا السفر العظيم

(الكامل) ، بل ربما وصل به الأمر إلى انتقاص (ابن الأثير) نفسه، نظراً لوجود

هذه الملاحظات عليه فلا يرى حاجة إلى الاستفادة منه، وإذا ذكر عنده اشمأزت

نفسه، وتمنى لو غيره ذكر! !

والصنف الثاني: على النقيض وهؤلاء بلغت بهم الثقة، ووصل بهم

الإعجاب مبلغاً لا يمكن أن يقبلوا معه نقداً صحيحاً -لا يقلل من قدر الكتاب، ولا

ينقص من قدر مؤلفه - بل يعتبرون هذا النوع من الدراسة هدماً لكتب التراث

وتجنياً على جهود الأسلاف ... إلى غير ذلك من التهم الباطلة.

والحق أن كلا الأمرين قصور في الفهم لا تهدف إليه هذه الدراسة التي أريد

منها مزيد الثقة بهذه النفائس من كتب التراث بعد إيضاح ما فيها من هنات لا يكاد

ينجو منها عمل البشر. والله المستعان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015