مجله البيان (صفحة 2363)

في دائرة الضوء

هل الإسلام دين علماني؟ ! !

العلمانيون.. وعلمنة الإسلام

بقلم: د.محمد يحيى

أثارت الفكرَ في نفسي عبارةٌ وردت عرضاً ولعلها بحسن نية في مقال لكاتب

يتحدث عن تشكيل الحكومة التركية برئاسة «نجم الدين أربكان» زعيم حزب

الرفاه.

قال الكاتب: إن هناك حقيقة غائبة في الإعلام الإسلامي، ألا وهي: وجود

تقارب بين العلمانية في رفضها للكهنوت والإسلام في رفضه المماثل لادعاء الحق

الإلهي كما جاء في المقال.

والحق: إن القول أو الزعم بوجود تقارب أو تشابه بين العلمانية والإسلام

ليس بجديد، لقد ذهب كثيرون غير الكاتب مثلاً منذ فترة إلى القول نفسه، حيث

قالوا: إن الإسلام بطبعه دين علماني؛ لأنه يهتم بأمور الدنيا والحياة الحاضرة بدلاً

من أمور الآخرة، وقالوا: إن الإسلام والعلمانية يلتقيان في الإيمان بالعقل وتحبيذه، وفي اعتناق الديمقراطية والليبرالية، وفي الاهتمام بالنزعات المادية، وقبل كل

شيء: في الإيمان بالتوجه الإنساني (هيومانزم) وقبول مبادئ النسبية والتاريخية

وما أشبهها.

وقبل الخوض في هذه الدعوى العريضة ينبغي أن نوضح سياقها: فهي تجيء

في معرض محاولة اكتساب القبول للعلمانية بين الجماهير المسلمة، بتصويرها

وكأنها تكاد تتفق بل تتطابق مع الإسلام، وهي محاولة تعمل كذلك وفي الاتجاه

المقابل إلى تطويع الإسلام للعلمانية، بإلغاء تميزه وتفرده، وهويته التشريعية

والعقائدية، ولكن في كلتا الحالتين فإن الهدف واحد، سواء في أسلمة العلمانية أو

علمنة الإسلام، وهو: نزع الخشية الجماهيرية من العلمانية باعتبارها نبتاً غربيّاً

غريباً، يراد فرضه على الواقع الإسلامي.

ونلاحظ في هذا الصدد أن تلك العملية مرحلية فقط، وأنها تتم في سياقٍ تكون

فيه العلمانية جديدة أو غير متمكنة إلى الحد الكامل؛ مما يستدعي القيام بالتمويه

والخداع وتصوير الإسلام بأنه علمانية أو العلمانية على أنها الإسلام، ولكن ما أن

تتمكن العلمانية فإن الخطاب يتغير إلى لغة الإقصاء والإبعاد والرفض، وهذا هو ما

تشير إليه، ليس فقط التجارب التاريخية القديمة في تركيا أو إيران أو أفغانستان،

بل التجارب الراهنة، وبالذات في الوسط الثقافي والفكري في بلدان كمصر

والجزائر مثلاً.

والسؤال الذي ينبغي مواجهته رأساً هو: هل يوجد تقارب بأي درجة بين

الإسلام والعلمانية؟ ، وهل يكفي مجرد ذكر رؤوس مواضيع، يوحى بأن فيها

تشابهاً في المواقف للقول بوجود مثل هذا التقارب؟ ، والأهم من هذا كله: هل

يوجد تشابه أو تقارب حقيقي في المواقف، أم إن المسألة لا تعدو عملية تفسير

وتأويل وتأول بارعة ماكرة توحي بوجود مثل هذا التقارب؟ ، ولنأخذ هذا التساؤل

الأخير مدخلاً لنا، ونسأل: هل فعلاً يوجد تقارب بين العلمانية والإسلام لمجرد

مثلاً أن هذه ترفض الكهنوت وهذا يرفضه؟ ، لقد ساق الكاتب المشار إليه هذا

المثال باعتباره حقيقة لا يتطرق إليها الشك، وقد تكون كذلك، لكن ذكر الأمور

على هذا المستوى من العمومية والتجريد يدخلنا إلى حد الإبهام والغموض، فهل حقّاً

ترفض العلمانية الكهنوت؟ ! ، إننا نجد تكريساً له في مفهوم «أوجست كومت»

أحد أبرز دعاة الوضعية إلى دين صناعي فلسفي تكون له كنيسة وكهنوت خاص به، وهل ترفض العلمانية الكهنوت أم إنها ترفض الكنيسة كلها والدين (المسيحي

والإسلامي) والعقائد والأفكار الدينية، حتى ولو كانت بدون كهنوت؟ .

إن القول برفض العلمانية للكهنوت يخفي حقيقة أن العلمانية ترفض الدين

نفسه، وإلا فإن البروتستانتية وهي مذهب مسيحي كبير ترفض الكهنوت الكنسي،

حتى وهي تدعو في تجلياتها الحديثة إلى أصولية مسيحية طاغية ومتطرفة.

وبالمثل: فهل عندما يرفض الإسلام الكهنوت يرفض معه الدين والعقيدة؟

لا أحد يستطيع القول بذلك؛ لأن الإسلام نفسه دين.

وإذا قلنا: إن الإسلام يرفض الكهنوت، فإن هذا يعني أنه يرفض الأسلوب

الكنسي المعروف، في ضرورة وجود عناصر خاصة لا تكتمل العبادة ولا ترفع إلا

بها، بل لا يكتمل الدين والإيمان نفسه إلا بمباركتها وتطويبها، لكن هذا لا يستتبع

أبداً رفض وجود فئة من الفقهاء والعلماء تدرس الدين، عقيدته وشريعته،

وتتخصص فيهما، وتنصح وتوجه غيرها من فئات الأمة التي لا تسمح لها ظروف

الحياة وكفاحها بمثل هذا التخصص، لكن هذا لا يمنع أي فرد أو أي جماعة من

الدراسة والتخصص والاطلاع على هذا النحو، فالدين مفتوح، وهذا هو معنى

رفض الإسلام للكهنوت.

ونلاحظ أن العلمانيين عندما يرفعون الصوت عالياً بأن الإسلام يرفض

الكهنوت، فإنهم يقصدون كما تدل الأحداث رفض آراء وفتاوى وشروحات الفقهاء

والعلماء المسلمين التي تزعجهم؛ لقيامها على العلم الصحيح بالإسلام.

وينطبق التحليل نفسه على سائر النقاط التي يقال عادة: إن هناك تقارباً بين

الإسلام والعلمانية فيها، والتي كان حظ بعضها في المعالجة وفيراً، كمفهوم

الديمقراطية والليبرالية بين الإسلام والعلمانية مثلاً، أو مفهوم العقل فيهما، ولكننا

هنا نضرب مثلاً لرأس موضوع آخر يقال إن فيه مِثْلَ هذا التقارب، ألا وهو:

التركيز على النزعة الإنسانية، أو ما يعرف بـ (الهيومانزم) ، لقد قيل كلام كثير

عن التقاء الإسلام بالعلمانية في هذه النقطة؛ لأن الإسلام قد كرم الإنسان وأعلى من

شأنه؛ بينما تدعي العلمانية في جوهرها أنها هي الفكر الذي جعل من الإنسان ... «معيار كل شيء» ، كما يقول المثل العلماني الأشهر، ولكن: هل إعلاء الإسلام لشأن الإنسان مثل إعلاء العلمانية لشأنه؟ من الواضح أن الاتجاهين على طرفي نقيض في هذه الناحية؛ فالعلمانية تجعل الإنسان (ككائن مجرد مطلق) بديلاً عن الإله الذي رفضته أو أبعدته عن العالم، وتجعله الواضع لكل القيم والمعايير، كما تجعله الهدف الأسمى الذي يصب كل شيء في خدمته مهما كان، أما الإسلام: فلا يجعل الإنسان على هذه الدرجة أو الكيفية من التأله والإطلاق والغائية، كما أنه ليس هو واضع القيم العليا والمبادئ الكلية، وهو يستمد تكريمه من خالقه، وليس من مجرد كينونته هو، كما أن هذا التكريم مقصور على النواحي المادية الدنيوية بالنسبة للجميع، لكنه في الآخرة يقتصر على المؤمنين المقبولين وحدهم.

إذن: نلاحظ مرة أخرى أن هناك خلطاً متعمداً، فيكفي عند هؤلاء أن يجيء

في القرآن أن الله كرم بني آدم حتى تعقد المقارنات مع العلمانية التي كرمت الإنسان

كما زعمت حتى وإن كان العالم قد عرف في عهود العلمانية من الجرائم في حق

الإنسانية والإنسان ما لم يعرفه في عهود الوثنية والأديان السالفة.

إن الطرح القائل بوجود تقارب بين مواقف الإسلام والعلمانية حول عدد معين

من القضايا الفكرية والاجتماعية يعبر في ضحالته عن اتجاه في المحاججة، نلمسه

عند بعضهم في تناولهم لشتى المسائل والأفكار، ونعني بهذا الاتجاه المعيب:

الوقوف عند ظواهر المصطلحات أو على معانيها الأولية المبهمة غير الدقيقة؛ مما

يسهل تمرير أي موقف، ويسهل كذلك من القول بالتقارب أو حتى التماثل بين ذلك

المذهب وتلك الفلسفة، ولكن ما إن نبدأ في بحث دقيق حول نطاق المعاني

والمضامين المبثوثة في مصطلحات أو مقولات معينة.. إلا ونلاحظ الفروق الجلية

بين المذاهب، ومن الأمثلة على ذلك: مفهوم «الإله» في الإسلام والمسيحية،

فقد درج بعض الناس على القول بتوحد الأديان السماوية كما يطلق عليها؛ لأنها

كلها تعبد الإله نفسه! ، ولكن مفهوم «الألوهية» في الإسلام يختلف اختلافاً نوعيّاً

وجذريّاً عن مفهوم «الرب» في النصرانية المتداولة، أو في اليهودية.

وقد يكون لدعوى التقارب بين الإسلام والعلمانية مبرراتها السياسية الآنية عند

بعض أولئك ممن ينشغلون بالمناورات والتحركات السياسية، لكنها غير مبررة ولا

منطقية في عرف الفكر الصحيح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015