في دائرة الضوء
حتى لا نصل إلى الانهيار الداخلي
بقلم: محمد محمد بدري
حين: نتجاهل مستقبلنا حتى يصبح حاضراً، ونغفل عن حاضرنا حتى
يصير تاريخاً، ونهمل بناءنا الداخلي حتى يفرز في أنفسنا (الوهن الحضاري) .. ... و (القابلية للهزيمة) و (القابلية للسقوط) .. حينئذ تتداعى علينا برابرة الأمم ليأخذ كل منهم نصيبه من أشلائنا، كما تتداعى الكلاب وصغار الوحوش لنهش لحم الأسد الميت، بعد أن كانت في حياته تمتلئ رعباً من منظره.. بل من مجرد سماع زئيره! !
إن المنهاج الإسلامي يبين في تشخيصه لنكبات الأمم: أن هذه النكبات إنما
هي النتيجة الحتمية لما كسبت أيدي أفرادها..
-ففي القرآن: التأكيد على هذه السنة العامة التي لا تتخلف ولا تتبدل ... [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] [الشورى: 30] ، ولذلك: فإنه حين تساءل المسلمون بعد هزيمة (أحد) : [أَنَّى هَذَا] .. جاءهم الجواب من الله: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ... ... [آل عمران: 165] ، وتحت العنوان نفسه: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] كان تعقيب القرآن على غزوة حنين: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] .
-وفي السنة: يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه
ثوبان أن مصائب أمتنا إنما تكون بما في أنفسنا، فيقول: ( ... وإني سألت ربي
لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة (قحط شامل أو مجاعة مهلكة) وأن لا يسلط عليهم
عدوّاً من سوى أنفسهم [] قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ [] فيستبيح بيضتهم، وإن ربي
قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا
أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم،
ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال مَنْ بين أقطارها (يعني: أهل المعمورة)
حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) [1] .
فالحديث كما نرى ظاهر في أن تسلط العدو علينا إنما هو بسبب ما في أنفسنا
وبنائنا الداخلي من إصابات حضارية.. وأن هذه (الإصابات الحضارية) الداخلية
هي الأخطر؛ لأنها هي التي تعطي الإصابات الخارجية إشارة العمل والفاعلية..
ويؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في حديثه الآخر: (يوشك
الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. فقال قائل: ومن قلة نحن
يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من
صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [2] .
فتداعي الأمم إنما يكون بسبب من (الوهن الحضاري) في الأمة، ذلك
(الوهن) الذي يجعل الأمة بمثابة غثاء من النفايات البشرية التي تخاف من تكاليف
مجابهة الظلم في الداخل، وتجبن عن صد الغزاة في الخارج..
وكما تؤكد آيات القرآن وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن سبب
الهزائم ينشأ من داخل الأمة بـ (الوهن) الحضاري الذي لا يُنْتج إلا الاستسلام للأعداء، والكف عن منازلتهم.. كذلك تشهد لهذه القاعدة آيات الآفاق والأنفس [3] .. ونظرة واحدة في تاريخ المسلمين تؤكد أن ما لحق بالأمة ولا يزال يلحق بها إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقّة.. وأن كل أمة تستسلم للنوم، فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها.. سواء أكان هذا (السوط) عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل:
برابرة التتار:
كانت غارة التتار كاسحة.. خربّت بغداد وقتلت أكثر من مليون مسلم حسب
رواية ابن كثير والسيوطي ولم يسلم من القتل إلا من اختفى في بئر أو قناة! ،
وقتل الخليفة رفساً وركلاً بأقدام التتار.. وجرى النهر أربعين ليلة أحمر اللون من
كثرة ما أريق فيه من دماء المسلمين..
فهل كانت قوة التتار وحدها هي السبب وراء هذه المذبحة؟ أم أن الخيانة
والتآمر من العلقمي وبطانة السوء من جانب، وضعف الأمة من جانب آخر هو
السبب المباشر والأقوى؟ ..
إن ابن كثير يحدثنا أمراً عجباً.. يحدثنا أن جنديّاً تتريّاً أراد قتل مسلم ولم
يكن معه (أي: التتري) سلاح.. فقال للمسلم: ابق هنا لا تتحرك، فبقي المسلم
بسبب من الهزيمة الداخلية حتى غاب الجندي التتري، ثم عاد وبيده السلاح،
فذبحه! ! .. هكذا.. لم يبد المسلم أدنى مقاومة.. حتى لو كانت هذه المقاومة هي
مجرد الفرار! !
بل إن ابن كثير (رحمه الله) يحكي لنا قصة أخرى أقسى وأكثر دلالة على أن
من يهزمه عدوه من داخله لا يبقى أمامه إلا أن يصفي ساحة المواجهة معه من فلوله
العاجزة المذعورة دون جهد أو تعب..
يحكي لنا ابن كثير أن مُلَثّماً من جنود التتار دخل خاناً فيه الكثير من المسلمين، فبدأ في قتلهم.. وهو واحد وهم كثرة.. وهم لا يفعلون شيئاً إلا أن يسلموا رقابهم
للذبح.. حتى رأى أحدهم أن من يقوم بقتل الجميع هي فتاة ضعيفة! ! هنا.. وهنا
فقط! ! اجتمعوا عليها فقتلوها! ! [4]
ويتساءل المرء: ما الفرق بين أن تكون فتاة ضعيفة أو رجلاً قويّاً في مواجهة
هذه الكثرة من المسلمين؟ .. ولكنه الوهن.. والهزيمة الداخلية، التي تُوجِدُ في
النفوس الرهبة والخوف، فتشلها عن المواجهة، وتقعدها عن المجاهدة فتلقي
بسلاحها قبل أن تبدأ المعركة..
المحاق الأندلسي:
ظهرت (القابلية للسقوط) في الأندلس على مستوى الفرد والأمة، بداية من
التناحر والصراع على السلطة، وإقامة الكيانات الطائفية الصغيرة، والاستعانة
بأعداء الله لحماية تلك الكيانات الهزيلة..
وكانت هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التي نشأت في (داخل) الأمة هي
التي أعطت (إشارة) العمل والقوة لأعداء الأمة، فقاموا بتفريغ كل حقدهم الكاثوليكي
على الإسلام والمسلمين.. ومن ثم: سقطت الأندلس، وشهد المسلمون هناك العمل
المتواصل لإزالة كل ما هو إسلامي..
أمّا نحن: فقد علمتنا الأندلس (المعادلة الصحيحة في تفسير التاريخ: خروج
على سنن الله.. إمهال نسبي من الله قد يغرى الخارجين على تلك السنن بالتمادي،
ثم تتجمع عوامل الفناء لتشكل عامل إغلاق لباب العودة.. إبادة وموت في شكل
مجموعة من الكوارث) [5] تلك الكوارث التي تمثل النتيجة الحتمية لمقدمات موت
الأمة، ووصولها إلى الطريق المسدود في حركتها داخل التاريخ.
سقوط آخر خلافة:
الدارس لسقوط الخلافة العثمانية على يد الطاغية: كمال أتاتورك، يوقن أن
هذا (الرجل) لم يكن يملك قوة خارقة أو يستند إلى قوة لا تقهر تمكنه من إسقاط ذلك
الكيان.. وإنما كان السقوط بسبب داخلي هو (الشيخوخة) السياسية لدولة الخلافة
بسبب الاستبداد، و (الشلل) العلمي بسبب إقفال باب الاجتهاد، واللذين أديا إلى
تسكير الأبصار وتوقف الاعتبار، مما جعل الأمة عالة على غيرها.. فعاش كل
فرد فيها همّه الفردي في الطعام واللباس والمسكن.. ومن ثم: تحولت الأمة إلى
أمة (ميتة) ، لم يدلنا على موتها إلا (كمال أتاتورك) الذي قام بدور دابة الأرض كما
حصل ذلك في قصة موت سليمان (عليه السلام) [فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ
عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَاًكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ] [سبأ: 14] .
وهكذا حال كل أمة (ميتة) : قد تبقى زمناً دون أن تسقط؛ لأنها (تتكئ على
منسأتها من أجهزة الأمن، فيخيل للرازحين تحت ظلمها أنها حية قائمة، فإذا بعث
الله عليها عناصر مقاومة من الداخل، أو قوة غازية من الخارج، فتأكل منسأتها
فتخر ساقطة، وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها أن لو كانوا يعلمون الغيب ما
لبثوا في العذاب المهين! !) [6] .
إن من يرى الحياة من خلال واقعه، وليس من خلال أمانيه.. يدرك أن واقع
أمتنا لا يخرج عن أن يكون النتيجة البدهية للمقدمات التي صغناها نحن بأيدينا..
وأنه لو زالت أمامنا كل عقبة خارجية تحول بيننا وبين التغيير، لما أمكنا أن نصنع
شيئاً قبل أن نغير ما بأنفسنا وداخل أمتنا، وندرك دون لبس أو غموض أو إيهام
الإجابة الشافية على السؤال التالي:
متى تبدأ هزائم أمتنا؟
إن سنة الله التي تحكم قيام الأمم أو سقوطها هي أن (السقوط) والهزيمة
(نتيجة) تتكرر كلما جاء (سببها) وهو (الوهن الداخلي) .
لقد فطن لتلك (السنة) أعداء أمتنا، بل وتحركوا من خلالها قديماً وحديثاً:
حكمة ملك الصين:
أرسل (يزدجرد) كسرى الفرس إلى ملك الصين يطلب منه العون والنجدة بعد
هزيمته في معركة (نهاوند) .. فقال ملك الصين لرسول كسرى: قد عرفتُ أن حقّاً
على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين
أخرجوكم من بلادكم، فقال رسول يزدجرد: سلني عما أحببت:
ملك الصين: أيوفون بالعهد؟ .
رسول يزدجرد: نعم.
ملك الصين: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ .
رسول يزدجرد: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم، فإن أجبناهم
أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.
ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ .
رسول يزدجرد: أطوع قوم لمرشدهم.
ملك الصين: فما يحلون وما يحرمون؟ .. ويخبره رسول يزدجرد.
ملك الصين: أيحرمون ما حلل لهم، أو يحلون ما حرم عليهم؟ .
رسول يزدجرد: لا.
ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لايهلكون أبداً حتى يحلّوا حرامهم، ويحرّموا
حلالهم....
ثم كتب ملك الصين كتاباً إلى يزدجرد جاء فيه: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك
بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين
وصف لي رسولك صفتهم لو يطاولون الجبال لهدوها، ولو خُليّ سربهم أزالوني
ماداموا على ما وصف، فسالمهم، وارض منهم بالمساكنة، ولا تهيجهم ما لم
يهيجوك [7] .
هذه هي حكمة ملك الصين: إن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يُحلّوا
حرامهم، ويُحَرّموا حلالهم..
إن الهزائم تبدأ من هنا.. من داخل الأمة، وليس من خارجها.. وهذه الحكمة
جديرة بأن نضعها نصب أعيننا ونحن نقرأ الماضي، ونبصر الحاضر، حتى نقدر
على القراءة الصحيحة لمستقبلنا..
درس من توينبي:
لم يتمكن علماء وفلاسفة الاجتماع والحضارة من الوصول إلى كثير من السنن
التي تحكم البناء أو السقوط الحضاري.. هذه حقيقة.. ولكن هذه الحقيقة لا تعني
جهلهم التام بها.. فقد أصاب المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه (دراسة تاريخ
العالم) حين أشار إلى أن علة انهيار الأمم وهزيمتها هي (الانتحار الداخلي) ، قبل
أي عامل خارجي لا يعدو دوره الكشف عن هذا الانتحار [8] .
ونحن هنا لا نستدل بآراء توينبي، فهذه الآراء ما زالت تستدعي الكثير من
الحوار والنقاش.. ولكن حسبنا أن هذه القاعدة التي ذكرها تدفعنا في رحلة للتفتيش
عن مواطن الخلل الداخلي لاستدراكها، ومراجعة أسباب القصور الذاتي لعلاجها،
ولتكن نتيجة هذه الرحلة هي: خطوة في الطريق الصحيح.
الهزيمة والتحدي:
إن أعداءنا يدفعوننا دائماً إلى الزهد في أخطائنا الداخلية تحت دعوى أولويات
مزعومة ننخدع لها نحن أحياناً بسذاجة غريبة.. بينما هذه الأخطاء الداخلية هي في
رأس قائمة الأولويات.. ذلك أن التأثير القوي في الخارج إنما هو النتيجة البدهية
لنظام دقيق وصحيح في الداخل..
إن من البدهي أن نتوقع من أعدائنا كل خبث وكيد وتخطيط مضاد، وليس لنا
أن نطالبهم بعدم الكيد لنا، والعمل على تحقيق ذلك الهدف.. فهذا لون من سفه العقل.. وإنما سيطرتنا على أعدائنا لها طريق واحد، هو: تطهير أنفسنا من الداخل، من أخلاقيات الضعف والخوف وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، والتي تمهد لقبولنا الاستعباد والخضوع..
إن واقعنا اليوم قد يكون (أزمة كبرى) .. ولكن الأزمات الكبرى هي التي
توقظ الأمم من سباتها، وتحفّزها للانطلاق من جديد.
فهل نقدر اليوم على أن نحوّل (الهزيمة النفسية) بعد شعورنا بوجودها إلى
دافع يفجر روح (التحدي) والرفض للواقع المزري؟ فنبدأ خطوة في الطريق
الصحيح تقضي على الخلايا الشائخة في الأمة، وتدفعها نحو بعث جديد من
(مرقدها الحضاري) .. هل نخطو هذه الخطوة في الطريق الصحيح، أم نُبْقي عجلة
التحكم في مصير أمتنا بيد أعدائنا بدعوى أن قوتهم هي التي تقتل بعثنا ... الحضاري.. بينما الحقيقة المرّة: أننا نحن الذين نقتل هذا البعث الحضاري عبر ما بأنفسنا من (الانحراف الفكري) .. و (القابلية للهزيمة) .. و (الانتحار الداخلي) ؟ !
هذا نذير.. فهل من مجيب؟ !