المسلمون والعالم
مصر في القرن الحادي والعشرين
(قراءة أصولي)
(1 من 3)
بقلم:عبد الرحمن الكناني
تمثل الدراسات المستقبلية إحدى أهم المرتكزات العلمية التي تقوم عليها
البرامج العملية لتوجيه طاقات وتنمية إمكانات تملكها مجموعة بشريةٌ ما نحو
مستقبل أفضل في ظل مبادئ وأهداف محددة.
وقد تنبه بعض المنتمين إلى التيار الإسلامي لأهمية استشراف المستقبل
ومحاولة رصده، ولكنها حتى الآن في نظري محاولات تعتمد الجانب النظري
التأصيلي، ولم تخرج بعد فيما أعلم إلى الإطار الواقعي الواضح المدروس، بما
يتوافق مع حجم انتشار وأهمية تفاعل حركة الصحوة الإسلامية في المجتمع، في
الوقت الذي بدا فيه العلمانيون آخذين بناصية هذه الدراسات، متظاهرين بـ
(العلمية) و (العقلانية) و (الحرص على مستقبل البلاد) .
ولا شك أن مِن هؤلاء مَن يُعَدّون أهلاً من منطلق توجهاتهم للتصدر للحديث
عن رؤاهم المستقبلية، ولكن هذا لا يمنعنا نحن الأصوليين [*] ! من متابعة وربما
نقد بعض الرؤى التي تُطرح على أنها (مشاريع مستقبلية) من قِبَل هؤلاء.. نفعل
ذلك ليس لهثاً وراء أطاريحهم، ولكن رصداً وفقهاً لواقع يؤثر فينا ونؤثر فيه،
وليس لتقديم حلول ومشاريع بديلة لهذه المشاريع على منوالها؛ فإن المشروع
الإسلامي لُحمة واحدة أساسها التوحيد لا يمكن فصل أسلاخ منها لترقيع مشروع
آخر يعترف أصحابه وأحياناً يفتخرون بأنه لم يقم على تصور إسلامي شامل للكون
والحياة والإنسان، بل ينكرون أن هذا التصور موجود خارج المسجد ومحكمة
الأحوال الشخصية في أحسن الأحوال! ! .. ولكن لمحاولة بيان حقيقة (العقلانية) ... و (الاستنارة) في مشروع علماني!
وعموماً: فإني أظن أن قراءتنا معاشر الأصوليين لهذه المشاريع مفيدة لنا من
باب استبانة السبيل، ومفيدة لهم أيضاً إن تجرأنا وقلنا: إن هناك ما يمكن إفادتهم
به! من باب (التعارف) والتصافح العقلي.
نعود إلى موضوعنا: فقد نُشرت في بعض الصحف اليومية دراسة بعنوان
(مصر في القرن الواحد والعشرين.. التحديات والآمال) [1] ، ومما يعطي لهذه
الدراسة أهمية كبرى: كونها عن (الشقيقة الكبرى) مصر، الدولة ذات الثقل الكبير
في المنطقة، وكون كاتبها علماً بارزاً من أعلام السياسة المصرية، هو: الدكتور
أسامة الباز، وقد طرح فيها رؤية وتصوراً لما ينبغي أن تحتذي به مصر في القرن
الميلادي المقبل.
عرض موجز للدراسة:
بدأت الدراسة بتمهيد يوضح أهمية الموضوع، وبيان لطبيعة القرن القادم، ثم
استعراض موجز للتحديات و (الإنجازات) السابقة، وتنويه بالآمال، وعناصر
التفاؤل التي تصاحب دخول مصر القرن الحادي والعشرين، ثم قدّم لرؤيته
المستقبلية بعرض اثنتي عشرة دراسة مستقبلية، كان (مركز الأهرام للترجمة
والنشر) كلف بها بعض المتخصصين، ودعاه أن يكون محرراً للكتاب الذي
سيصدر بها، ودارت هذه الدراسات حول محاور أربعة:
1- الثوابت والمتغيرات الأساسية في مصر: الجغرافيا، والسكان،
والاقتصاد، والمرأة.
2- التطور الذي تشهده القيم السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري:
مفاهيم التطور في الألفية الثالثة، الإحياء الديني، فكرة الوحدة الوطنية ودور
الأقباط.
3- التطور الذي تشهده المؤسسات السياسية والاجتماعية: قضية الديمقراطية
والنظام، فجوة العلم والتكنولوجيا، ودور المؤسسة العسكرية.
4- دور مصر: الإقليمي، والدولي.
وبعد عرض الدراسات الاثنتي عشرة قدم الدكتور أسامة الباز رؤيته الخاصة
للمشروع المستقبلي لمصر في القرن القادم، الذي حدد ملامحه بست ركائز:
1- تنمية الموارد البشرية، من خلال:
أ- خفض النمو السكاني باستخدام وسائل أكثر فعالية في الترويج لمفاهيم
تنظيم الأسرة، وإقناع الجماهير بأفضلية الأسرة الصغيرة.
ب- تبني برنامج صارم لمحو الأمية.
2- القيام بمسح شامل للموارد الطبيعية، وكيفية الاستفادة منها.
3- خطة طموحة للدخول في عالم البحوث العلمية والتكنولوجيا.
4- تطوير وإصلاح التعليم، ووضع خطة شاملة (لحماية) عقول الشعب من
السقوط في هوة التيارات الضالة المضللة، للانطلاق من أسار (الماضي) والحاضر
إلى التقدم في الدنيا الجديدة.
5- الدخول في (إصلاح) سياسي (بعد) الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية،
بحيث يشمل هذا الإصلاح تبني الأفراد والجماعات للديمقراطية قلباً وقالباً قبل
مطالبة الحكام بها.
6- الاهتمام بتنمية القدرات العسكرية، والحفاظ على موقع مصر باعتبارها
قوة رائدة إقليميّاً وعالميّاً، من حيث عدم تبعيتها، وقيادتها لدول أخرى.
ملحوظات عامة على الدراسة:
وقبل الخوض في مناقشة بعض التفصيلات لبعض القضايا التي أثارتها
الدراسة أود التنبيه إلى ملحوظات عامة عليها:
أولاً: تجنب الدكتور الباز المناقشة التفصيلية للدراسات الاثنتي عشرة التي
قدمها بين يدي رؤيته، ولم يعلق عليها بالقبول أو الرفض لما جاء فيها، ولكن
تقديمه لهذه الدراسات باعتبارها أبحاث المشروع المستقبلي مع عدم اعتراضه عليها
وإن تحفظ على بعض جزئياتها يجعلنا ننظر إلى رؤيته الخاصة على أنها إجمال،
تفصله الدراسات المذكورة، مع كوننا لا نلزم أحداً بكلام غيره، ولكننا نناقش
الدراسة باعتبارها مشروعاً علمانيّاً، وإن تعددت مدارسه.
ثانياً: كثير ممن شاركوا في تقديم الدراسات كما يقول الدكتور الباز: شارك
في صياغة برامج التنمية في مصر، أو في (صنع) تاريخ الحقبة السابقة، أو له
إسهام بارز في الفكر السياسي والاجتماعي في العقود الماضية ... ، فينبغي علينا
أولاً النظر بتأمل في نتيجة جهودهم الماضية، وبحث آثار الخطط الخمسية وبرامج
التنمية، وخطط النهوض والارتقاء بالمواطن، ورفع المعاناة ... هل سيكون
المستقبل امتداداً لفشل الماضي؟ ! ، وهل عقمت مصر عن ولادة آخرين (بدون
سوابق) قادرين على العبور بها إلى القرن القادم؟ ! .
ثالثاً: معظم المفكرين الذين صدّر الدكتور الباز رؤيته بدراساتهم: إما
خارجين من عباءة الماركسية بعد فشلهم في التبشير بها؛ إثر تيتمهم بوفاة الاتحاد
السوفييتي الذي وافته المنية على يد الرفيق جورباتشوف، أو قادمين من الرؤى
الأمريكية الليبرالية حاملين معهم رياح النظام العالمي الجديد (في شقه الإقليمي) على
أمل أن يكون لها موطئ قدم على الخارطة المصرية، فالجميع كتبوا بقلم علماني
وإن اختلف مداده، ولذا: كان موقع (الدين) في مشروعهم هو موقع (التوابل) ! ،
حيث لابد منها لإعطاء النكهة، ولكنها ليست ضرورية أو مفيدة، ولذا أيضاً: رأينا
الاضطراب عند معالجتهم علاقة (الدين) بالنسبة للفرد والمجتمع وتنميتهما.
رابعاً: يقر الدكتور الباز أن التحدي المستقبلي هو تحدٍّ حضاري، وهو كذلك
بالفعل، ولكن لم تقدم لنا الدراسة تصوراً محدداً وواضحاً أو غير واضح لرؤية
حضارية خاصة ومميزة تواجه الرؤى الحضارية الأخرى للدخول بها إلى القرن
القادم.
خامساً: ذُكر في الدراسة بعض النقاط التي لا يُختلف على إيجابيتها إجمالاً،
أما تفصيلاً فالأمر يختلف بحسب التوجه (الحضاري) الذي يتبناه (القارئ) ، وذلك
كالإحياء الحضاري، والاهتمام بتنمية الإنسان، ورفع فعاليته، وإصلاح وتطوير
التعليم، ودخول عالم التكنولوجيا، والمسح الشامل للموارد الطبيعية للاستفادة منها،
والاهتمام بتنمية قدرات البلاد العسكرية.
سادساً: وضع الدكتور الباز بداية لتدشين العمل بهذا المشروع، حددها في
سنة 2005م، آخذاً في الاعتبار من يتحفظون على موعد كهذا تعجيلاً أو تأخيراً،
وإذا كنا لا نناقش هذا الموعد أو غيره، ولكننا لا نستوعب كيف يمهد للعمل بهذا
المشروع في هذا الموعد بإجراءات وتوجهات لا تتفق إن لم نَقُل تتعارض معه كما
سيتضح لاحقاً إن شاء الله (تعالى) ، وذلك إذا اعتبرنا أن هذا المشروع هو ما يصلح
للمجتمع المصري في المرحلة المقبلة.
ملحوظات تفصيلية:
فتلك كانت بعض الملحوظات العامة على الدراسة، فإذا فحصناها بعين أكثر
مجهرية رصدنا بعض الملامح الأخرى التي تتمثل في الملحوظات الآتية:
الملحوظة الأولى: مكانة (الإنسان) في المشروع:
حيث وضح غياب البعد الإنساني عن التنمية، واعتبار (الإنسان) مجرد (أداة)
تنفيذ، ينبغي توجيه الاهتمام للجوانب التي تؤدي إلى تطويره من هذه الناحية،
وليس لأنه يستحق ذلك باعتباره كياناً له المكانة الأولى والتكريم الأوفر بين خلق الله، بل لأنه: (هو العمود الفقري لأي تنمية أو تقدم، وأن الاستثمار في البشر
وتنميتهم يمثل نقطة البدء في أي نهضة حقيقية) ، و (الإنسان المصري هو الثروة
الحقيقية المؤكدة في هذا المجتمع، وهو مصدر القوة الحقيقية متى أحسن إعداده
وأطلقت طاقته الإبداعية) ، وأهمية دور المرأة (باعتبارها جزءاً من عملية التنمية) ،
و (لأن السكان يمكن أن يكونوا عنصراً فعالاً في دفع عملية التنمية، بخاصة إذا
كانوا أصحاء ومنتجين) ، وينبغي النظر في (الضغوط والتوترات التي تتعرض لها
الطبقة الوسطى ذات الدخل الثابت، التي يمثل التدهور النسبي والمتزايد لوضعها
تهديداً للاستقرار الاجتماعي) .
ولا يختلف أحد على أن (الإنسان) هو المقصود بالتنمية، كما أنه عنصرها
الفعال، ولكن قصر الحديث عنه والاهتمام به على الجوانب المادية وما يقاس
ويوزن ويحصى ... وإهمال الجوانب المعنوية التي على رأسها تنمية روحه ... وعقله.. كل ذلك يشير إلى نبع المبادئ التي قامت عليها الحضارة الأوروبية التي تقدس القوة المادية، والتي ربما تأثرت بها ثقافات معظم من شارك في هذه الدراسة، وبالطبع فلن نسأل عن تربية أو (تنمية) إيمانية إسلامية لذلك الإنسان؛ لأنه لا ينبغي سؤال أرباب العلمانية عن أمر كهذا، بل ينبغي دعوتهم إليه.
الملحوظة الثانية: تحرير الإنسان أم الوصاية عليه؟
تحدّث كثير من المشاركين في الدراسة عن: (تحرير قدرات الإنسان
الإبداعية) ، و (زيادة الفاعلية) ، و (تحريك طاقات المجتمع) ، و (تعميق الممارسة
والمشاركة الديمقراطية) ..
والمفهوم: أن كل ذلك مبني على تحرير عقل الإنسان وإرادته في مناخ من
حرية تبني خيار، ويكون ذلك بتنمية عقلية ومعرفية واسعة، مع رفع الوصاية
على عقل وإرادة ذلك الإنسان..
فهل ما تمارسه الأجهزة الرسمية من إعلامية وأمنية وغيرها يتفق أو يمهد لهذا
التحرير؟ .. إن الحملات الإعلامية المكثفة، والأفلام والمسلسلات التلفزيونية
الموجهة، وتعديلات منهاج التعليم بما يتفق مع الرؤية العلمانية والرسمية.. ليدلنا
على وصاية كبرى على عقل الإنسان المصري.
وقد يعتبر بعض (المحايدين) أنه من الطبيعي أن يعبر القائمون على هذه
الأجهزة عن توجههم، أيّاً كان هذا التوجه، ولكن الصورة تكتمل إذا اتضح حجم
التضييق والملاحقات للدعاة الذين لا يسايرون الوجهة الرسمية، ومنع التيارات
الإسلامية من العمل الدعوي (السلمي) ، فلماذا لا تعطى الفرصة (للإنسان المصري)
ليسمع ما يشاء ويختار ما يريد؟ .
كما أن الممارسات الانتخابية المشبوهة من استغلال لمراكز النفوذ، والرشا
الانتخابية الصريحة والمقنّعة، إضافة إلى ما يذكر من تجاوزات وأحداث تزوير
صدرت بها أحكام قضائية أكثر من مرة، وملاحقة المنتسبين إلى التيار الإسلامي
في وظائفهم وأعمالهم، بل واستصدار (قرار) من وزير التعليم بمنع ارتداء
الطالبات للحجاب إلا إذا وقّع ولي أمرهن على إقرار بذلك في المدرسة (مع منع
النقاب نهائيّاً) إرهاباً لمن يُظهر مظهراً إسلاميّاً ... وغير ذلك من ممارسات تتحطم
عليها دعاوى الليبرالية والحرية الشخصية والديمقراطية المزعومة: تدل دلالة
واضحة على مصادرة إرادة الإنسان المصري.
إننا معشر الإسلاميين نعتقد أن التحرير الحقيقي للإنسان لا يكون إلا في
العبودية الحقة لله (عز وجل) ، حيث يتحرر الإنسان من المغريات التي قد تؤثر
على خياره من مال، أو جاه ورياسة، أو شهوة جنس كما في الحديث الصحيح:
(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم..) ، وكما في الحديث الآخر: (ما ذئبان
جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) ،
ويتحرر أيضاً من الموانع التي تكبل إرادته؛ لإيمانه بأن أكبر ما يخافه الإنسان
قطعه بيد الله وحده، وهو الرزق والأجل: [اللَّهُ الَذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ] [الروم: 40] ، [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (?) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] [قريش: 3، 4] ، (ألا يمنعن أحدَكم رهبةُ الناس أن يقول
بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو
يُذَكِّرَ بعظيم) .
الملحوظة الثالثة: الطفرات السياسية بين الوهم والحقيقة:
ومما له علاقة بالممارسات السابقة: ما ذُكر في مدخل الدراسة من أنه: (شهدت الحياة السياسية في مصر طفرات لا يمكن إنكارها في اتجاه الديمقراطية،
أساسها التعددية الحزبية، وحرية الصحافة، وتعميق سيادة القانون) ، وأغفلت
الدراسة أن هذه الطفرات صاحبتها ولاحقتها انتكاسات لا يستهان بها، فما زالت
تسيطر على الحياة السياسية (العلمانية!) عقلية وروح احتكار السلطة وعدم القبول
بمبدأ تداول السلطة، ولأننا لا نؤمن بأن الديمقراطية تفي بحاجات الإنسان من
الحرية والعدالة، فسنورد هنا شهادات، ليست لمتهمين بالانتماء للصحوة الإسلامية، بل من مصادر تؤمن بهذه الديمقراطية وتدعو إليها:
فعن التعددية الحزبية: يقول الأستاذ/ السيد ياسين وهو أحد المشاركين في
هذه الدراسة: (.. مشكلة تداول السلطة في مصر وتطوير النظام الديمقراطي،
وهل سيظل الحزب الوطني هو الحزب الأوحد الحاكم في القرن الواحد والعشرين
أم سيتم تداولها، وهذه قضية جوهرية لم يتم الإدلاء فيها بالرأي) [2] ، ويقول
الدكتور السيد عوض عثمان: (.. ومن ناحية أخرى: فإن مؤسسات القطاع
الخاص خاصة الكبرى منها ومؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها النقابات المهنية
والعمالية، والجمعيات الطوعية، والاتحادات التي برزت في كافة المجالات سوف
تضع ثقلها وراء قوى وأحزاب متباينة، وتسهم بالتالي في زيادة حدة المعركة
الانتخابية، وفي المقابل: فإن هناك خطراً حقيقيّاً من أن تصبح النقابات والجمعيات
ساحة للعمل السياسي، كامتداد للأحزاب أو حتى بديل لها.
والمشكلة هنا: أن الدولة مستعدة أن تؤيد هذا الاتجاه إذا كان في مصلحة
الحزب الوطني، ولكنها مستعدة أيضاً لمحاربته والحد منه إذا رأت أنه يسير في
الاتجاه المعاكس! !) (?) .
وتكمل الصورة عندما ندرك أن الحديث الدائر عن: الاتجاه نحو الممارسة
الليبرالية، وتقليص الهيمنة على المجتمع المدني، وإفساح المجال أمام النشاط
التطوعي، والاهتمام بالمنظمات الأهلية غير الحكومية ... كل ذلك المقصود منه
التحلي بمظهر مسايرة الاتجاه العالمي في ذلك، مع عدم تنفيذ إلا ما يخدم أهداف
الدولة، وما أدل على ذلك من محاربة الحكومة للنقابات المهنية المنتخبة من قِبَل
المنتسبين إليها، والتضييق على منظمات حقوق الإنسان المصرية بدعوى دفاعها
عن إرهابيين إذا تحدثت عن تجاوزات الأجهزة الرسمية، بل التضييق على
مشروع كفالة اليتيم الذي تبنته إحدى الجمعيات الدينية المسجلة منذ عشرات
السنوات بوزارة الشؤون الاجتماعية، بدعوى أن هذا المشروع سيخرج إرهابيين! .
وقد وضعت الدولة حاجزاً اسمه عدم السماح بظهور أي حزب سياسي/ديني،
معلنة تبرير ذلك: (لما قد يفرزه من أضرار واسعة المدى على الوحدة الوطنية،
وتماسك المجتمع المصري في المستقبل) ، ولكنه في الحقيقة حاجز لعدم السماح
بإفساح المجال أمام اتجاهات ذات وجهة حضارية مخالفة لتوجه الدولة السائد
بممارسة العمل السياسي والاجتماعي، حتى من خلال قنوات مصرح لها بذلك
بالفعل.. وهكذا أصبح (تعدد الأحزاب (مجرد (ديكور ديمقراطي) ، الغرض منه
إلهاء الجماهير، والإشباع النفسي الكاذب بمسايرة (روح العصر) .
أما حرية الصحافة: فمع الإقرار بوجود حرية نسبية للتعبير في إطار محدد،
إلا أن قانون الصحافة الأخير الذي رفضه ممثلو الصحفيين (القانون 93 لعام 1995 م وتعديلاته) أظهر أن الدولة ضاقت ذرعاً بهذه الحرية النسبية، حيث (جاء القانون
رقم 93 مفاجئاً وصادماً لجموع الصحفيين، الذين شعروا بخطر وتهديد غير
مسبوقين؛ فبالرغم من قسوة تشريعات الصحافة والنشر في مصر بشكل عام، ... وما تنطوي عليه من قيود شتى على حرية التعبير، إلا أن ما جاء به القانون ... المذكور ... تجاوز كل القيود السابقة) [4] ، و (المعروف أن هناك ترسانة من القوانين والمواد التي تكبل هذه الحرية، حتى قبل صدور القانون 93، لكن السياق العام في اللحظة الراهنة لا يتيح التطلع إلى تغيير وتعديل جوهري يطلق حرية التعبير والصحافة، رغم ضرورة ذلك لتجاوز حالة الركود، وإعطاء دفعة لعملية التطور الديمقراطي، فإلى جانب القانون 93 توجد قيود هائلة على حرية التعبير في عدد من القوانين الأخرى..) [5] .
وحتى إذا اكتملت حرية الصحافة التي هي إحدى صور التعبير فإنها حق
أصيل وليست منحة أو هبة ممن سمح بها.
و (تعميق سيادة القانون) يوضحها الدكتور السيد عوض عثمان، فيقول: (إن
إحدى المشكلات المزمنة في العلاقة بين السلطات في النظام السياسي المصري بعد
ثورة يوليو 1952م هي: ضعف السلطة التشريعية في مواجهة السلطة التنفيذية)
إلى أن يقول: (وبعبارة أخرى: فإن أبرز علامات التطور الديمقراطي التي
يتصور أن تتحقق في المرحلة القادمة، هي المزيد من فعالية مجلس الشعب في
مزاولة سلطاته التشريعية والرقابية، على نحو يختلف بشكل ملموس عن الفترة
السابقة، وإلا فإن الحديث عن الاقتراب نحو مزيد من الديمقراطية لن يكون سوى
شعارات فارغة! !) [6] .
فإذا أضفنا إلى ذلك: استمرار قانون الطوارئ وعائلته، والقوانين التي تُقَنن
حسب الطلب، مثل: قانون الصحافة المشار إليه سابقاً، والقانون 100 لسنة
1993م الخاص بإعادة تنظيم النقابات المهنية، بحيث تتوافر الضمانات بعدم
سيطرة الاتجاهات الإسلامية عليها، وتعديل قانون الحسبة بما يتفق وحرية تهجم
العلمانيين على الدين، ومحاولة تعديل القانون رقم 32 لسنة 1964م الخاص
بالجمعيات الأهلية.. وغيرها، عندها نفهم المقصود بتعميق سيادة القانون، وهو
أن تكون القوانين خاضعة لتوجهات السلطة لا غير، ثم المطالبة بعد ذلك بوجوب
الالتزام.