مجله البيان (صفحة 2266)

القانون الدولى الاسلامى (3)

سياسة شرعية

القانون الدولي الإسلامي.. (علم السير)

مفهومه تدوينه خصائصه

بقلم: عثمان جمعة ضميرية

أخذ الكاتب في الحلقة الأولى في تعريف (القانون الدولي الإسلامي) (علم

السير) شارحاً ومحللاً، ومتطرقاً لبعض المسائل العلمية، وفي الحلقة الثانية عالج

بعض خصائص القانون الدولي الإسلامي، ويواصل في هذه الحلقة معالجة بعضها

الآخر.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

أحكام السير والعلاقات الدولية في الإسلام تخاطب الفرد والدولة:

إن الشريعة الإسلامية خطاب عام للمكلفين، أفراداً وجماعات، وهم محل

للتكليف بوصفهم أفراداً وبوصفهم جماعات، وقد قال الله (تعالى) : [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ

وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياً وَلا

نَصِيراً] [النساء: 123] .

وفي كثير من الآيات القرآنية الكريمة يتوجه الخطاب مباشرة إلى الإنسان

الفرد، كما يتوجه إلى الجماعة والأمة، وهذا أمر واضح في القرآن الكريم: ... [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ... [المائدة: 67] ، فالخطاب هنا موجه للفرد، ثم يتوجه إلى الجماعة بمثل قوله (تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .

وينبني على ذلك: أنه إذا أخذنا الخطاب المباشر معياراً للشخصية القانونية

وجب علينا أن نرت،، ب على ذلك نتيجة حتمية، وهي: أن الإنسان بوصفه

إنساناً هو محل التكليف في الشريعة الإسلامية؛ لأن النصوص الشرعية تخاطبه

خطاباً مباشراً، فتلزمه بالتكليف، وتكسبه الحقوق، وتبشره بالثواب، وتوقع عليه

الجزاء بطريق مباشر [1] . فليست أحكام العلاقات الدولية قاصرة على الدول، بل

هي مفتوحة عامة شاملة، تقوم أصلاً على الكيان الفردي، سواء أكان الفرد منفرداً، أو في جماعة، أو في تشكيل سياسي باسم (دولة) .

يقول الدكتور محمد طلعت الغنيمي: (وهكذا نجد أن النظرية الإسلامية أكثر

تقبلاً للفرد كشخص من أشخاص القانون الدولي، بيد أنها لا تحصر الشخصية

القانونية الدولية فيه، وإنما تقر إلى جانب ذلك بالشخصية القانونية الدولية للدولة.

ومن ثم: فإن الرأي المعاصر الذي يعترف لكل من الدولة والفرد بالشخصية

القانونية الدولية إنما يتفق مع النظرية الإسلامية في تحديد أشخاص القانون ... الدولي) [2] .

ولذلك: يصح مثلاً أن يعقد مسلم معاهدة أمان لغير مسلم [3] ، ولا يشترط أن

يكون ذلك من خلال كيان الدولة، وبهذا: أصبح للفرد شخصية دولية معترف بها،

فعقد الأمان الذي عقده المسلم للأجنبي ملزم للدولة كما تلزم المعاهدة بين دار الإسلام

ودار الحرب كدولتين مستقلتين، ولا يقدح في ذلك أن هناك أحكاماً تتطلب أن

يمارسها الإمام (رئيس الدولة) أو تتطلب إذنه [4] ، فإن هذا توزيع للاختصاص؛

لأن للمسلم الفرد أحوالاً يمثل فيها المجتمع الإسلامي كله، ولا تعني هذه

الاختصاصات الخاصة للإمام الإذن بالجهاد، وعقد الذمة ... ونحوها أن الشكل

الرسمي للدولة حجاب دون الأصل السابق ذكره، وهو أن الجماعة الدولية جماعة

أفراد، وأن الكيان الرسمي أمر غير لازم ولا مشترط في كثير من الأحيان، وأن

اشتراطه هو استثناء من الأصل [5] .

بينما يثير مركز الفرد في القانون الدولي الوضعي جدلاً كبيراً، حيث يصر

الشراح التقليديون على أن القانون الدولي هو قانون الدول فحسب، ولايرتبون للفرد

حقوقاً أو واجبات دولية بصفة مباشرة، وإنما اعتبروه مجرد محل لهذه القواعد، أما

الإسلام فقد اعترف للفرد بالشخصية القانونية الدولية منذ خمسة عشر قرناً، دون

تفريق بين الرجال والنساء، ودون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الإقليم [6] .

ومن هنا: فإن الرأي المعاصر الذي يعترف لكل من الدولة والفرد بالشخصية

القانونية، إنما يتفق مع الأحكام الإسلامية في تحديد أشخاص القانون الدولي.

والشريعة ليست نظاماً قانونيّاً داخليّاً فحسب أدمجت فيه الأحكام والقواعد

الدولية، وليست نظاماً دوليّاً فحسب أدمجت فيه الأحكام والقواعد القانونية الداخلية.

وإنما هي نظام وشريعة عالمية تنتظم العلاقات الداخلية والدولية معاً، ويسري الفرع

الداخلي منها في النطاق الإقليمي للدولة الإسلامية العالمية، بينما تسري أحكام الفرع

الدولي منها على العلاقات ما بين الدولة الإسلامية، وغيرها من الدول الأخرى [7] .

ويذهب الدكتور حسني جابر إلي أن الشريعة الإسلامية قد قررت قاعدة: أن القانون الدولي له الأولوية على القانون الداخلي عند التعارض، والأصل في ذلك قوله (تعالى) : [وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] [الأنفال: 72] ، فمناصرة الأقليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية إذا تعرضوا لاضطهاد ديني هو واجب، بناء على تشريع داخلي إسلامي يندرج في عموميات الجهاد، إلا أن ذلك يمتنع إذا كان بين الدولة الإسلامية وبين إحدى تلك الدول معاهدة لا تمكن المسلمين من تلك المناصرة، كمعاهدة عدم اعتداء أو نحوها [8] .

إلا أننا نلاحظ: أنه حتى في هذه الحالة، فإن ذلك لا يعني أولوية في قانون

ثنائي، وإنما هو سريان لحكم شرعي في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم

في الفرع الدولي من القانون أو الفقه الإسلامي.

وهذه الوحدة في النظام القانوني الإسلامي ليست مماثلة تماماً لنظرية وحدة

القانون عند الغربيين؛ لأنهم لا يكتفون بأن النظم القانونية المختلفة يربطها رباط

الوحدة، بل يبحثون بعد ذلك عن القاعدة الأساسية في البناء القانوني، وعن مكان

وجودها، وذلك لكي يعترفوا للفرع القانوني الذي توجد فيه بالصدارة أو التفوق

القانوني لأحكامه على سائر الأحكام في الفروع الأخرى. أما الأحكام في الشريعة

الإسلامية: فهي كلها متساوية ما دام أن مصدرها واحد، فالأحكام الواردة في القرآن

الكريم كلها متساوية من حيث طبيعتها القانونية، وكذلك الأحكام الواردة في السنة

النبوية، غير أن الاختلاف في القوة القانونية قائم على أساس التدرج في قوة

المصدر، كما جاء ذلك في حديث معاذ (رضي الله عنه) [9] من ترتيب المصادر،

بحيث يكون القرآن أولاً، ثم السنة، ثم الاجتهاد [10] .

كما أن النظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية من حيث قصد الشارع في وضع

الشريعة ابتداءً إنما يقوم على حفظ مقاصدها، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون

تحسينية، والمقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية.

فالضروريات أهم هذه المقاصد؛ لأنه يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة،

وشيوع الفوضى بين الناس، وضياع مصالحهم، وتليها الحاجيات؛ لأنه يترتب

على فقدها وقوع الناس في الحرج والعسر، واحتمال المشقات، وتليها التحسينيات؛ لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة ولا الوقوع في الحرج، ولكن

يترتب على فقدها خروج الناس عن مقتضى الكمال الإنساني والمروءة وما

تستحسنه العقول.

وعلى هذا: فالأحكام التي شرعت لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها

بالمراعاة، ثم الأحكام التي شرعت لتتوفير الحاجيات، ثم الأحكام التي شرعت

للتحسينيات، فهي مرتبة من الأعلى إلى الأدنى [11] .

وتأسيساً على هذه الخاصية؛ فإن أحكام العلاقات الدولية في الإسلام تستمد من

مصادر التشريع الإسلامي كأي فرع من فروع الفقه، وهي المصادر الأصلية:

(الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس) ، ثم المصادر التبعية الأخرى [12] .

ففي القرآن الكريم نجد: أصول العلاقات الدولية في حالي السلم والحرب،

وطريقة معاملة المسلمين لغير المسلمين في دار الإسلام وفي دار الحرب، فكل ما

يتعلق بأصل العلاقات وطبيعتها والمعاهدات والوفاء بها، والجهاد وما يترتب عليه

من آثار ... كل هذا نجد قواعده في كليّ الشريعة وعمدة الملة، وهو القرآن الكريم، ثم تأتي السنة النبوية القولية والعملية والتقريرية، فتبين هذه القواعد والأصول

خير بيان، وترسي قواعد وأصولاً جديدة، وقد ألمعنا فيما سبق إلى أبواب الجهاد

والسير والمغازي والأمان والجزية في كتب الحديث والسنة، بل إن (علم السير) ،

إنما سمي بهذا الاسم أخذاً من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في معاملاته

للآخرين.

وأما الإجماع والقياس: فإنهما يستندان إلى المصدرين السابقين، فالإجماع

لا بد أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي من الكتاب أو السنة يسمى (مستند ... الإجماع) [13] ، وإذا لم يكن في الواقعة نص فاجتهادهم لايتعدى استنباط حكمه بواسطة قياسه على ما فيه نص أو تطبيق قواعدالشريعة ومبادئها العامة أو بالاستدلال بما أقامته الشريعة من دلائل، كالاستحسان والاستصحاب أو مراعاة العرف والاستصلاح أو المصالح المرسلة [14] .

فإذا استعملنا التعبيرات التي يعرفها القانون المعاصر، أمكننا أن نقول: إن

مصادر القانون الدولي في الإسلام هي:

أولاً: سلطة، ونقصد بها سلطة العقيدة باعتبارها مصدر الالتزام بالأحكام

التي وردت في الكتاب والسنة.

ثانياً: المعاهدات والمواثيق التي تبرم بين الدولة الإسلامية وبين غيرها من

الدول، ثم: الفقه، ويندرج تحته الفتاوى والتعليقات والآراء المستنبطة بالاجتهاد

أو القياس.

وأخيراً: العرف، وهو في القانون الدولي الوضعي من أكبر المصادر

وأغزرها، مع أنه في الإسلام مصدر ثانوي، إلا أن له أهميته وقيمته [15] .

والأحكام الإسلامية في ذلك تتلافى الخلاف القائم بين القانونيين في طبيعة

القواعد القانونية الدولية والمذاهب التي تفرقت وتعددت في تحديد الصلة بين القانون

الدولي والقانون الداخلي، وما يترتب على ذلك من آثار ومشكلات، وإن كان

يجمعها مدرستان اثنتان: مدرسة ثنائية القانون، ومدرسة وحدة القانون، وإن كان

ما جرى عليه العمل في علاقات الدول لا يؤدي إلى اعتماد نظرية منهما وكلتاهما

تعرضت لنقد شديد واعتراضات [16] .

أساس الإلزام في القانون الدولي الإسلامي:

يقوم النظام الإسلامي على الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية كجزء من

قانونها الداخلي، أي ولو بدون معاهدة أو عرف دولي، وبصرف النظر عن قوة

الدولة الإسلامية وسيادتها وقدرتها على الدول الأخرى، فالقانون الدولي الإسلامي

يستند إلى إرادة الدولة الإسلامية، شأنه في ذلك شأن أي قانون إسلامي آخر في

البلاد، وحتى الالتزامات المفروضة بمقتضى معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف

(دولية) فإن لها الأساس نفسه، وهي ما لم تنل التصديق والنشر من جانب الدولة

الإسلامية فإنها تغدو غير ملزمة، فهو التزام ذاتي سببه التكليف الشرعي، باعتبار

أن أحكام الشريعة الإسلامية خطاب ملزم للمسلم في ذاته، فهو يطبق أحكام وقواعد

السِّيَر في مجالها، كما تطبق أي قاعدة شرعية أخرى في مجالها، وكلها على وجه

الالتزام، وعلى وجه حكمها الشرعي من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة

أو التحريم؛ فإنه على سبيل المثال إذا طلب العدو الأمان أو الهدنة أو الذمة، فيجب

إجابته إلى ذلك فرضاً بنص القرآن الكريم على ذلك [وَإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ

اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَاًمَنَهُ] [التوبة: 6] .

وفي الحديث الصحيح عن سليمان بن بريدة عن أبيه في الدعوة إلى الإسلام

قبل القتال: (.. فإن هم أبوا الإسلام) فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم

وكفّ عنهم) [17] ؛ وكذلك: اعتبار عقد الأمن ملزم لنا وحدنا دون من يعقد معهم

من المشركين، وكذلك: ولا ننتهز فرصة ضعف للإجهاز عليه، ولا يجوز

للمسلمين قتل الصبي أو المرأة في الحرب إلا في أحوال خاصة كما سيأتي ولا

يجوز الغدر بهم حتى ولو غدروا هم [18] .

وهذا الالتزام الخاص منشؤه: أننا مخاطبون بأحكام الشريعة دونهم، وهم

ليسوا مخاطبين بفروعها ولايلتزمونها [19] ، فالتزامنا بها التزام أصيل وناشيء

عن خضوعنا لله (تعالى) في كل أعمالنا، وقد كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها

وعنفوان سيادتها تلزم نفسها بنفسها بأدق آداب الإسلام في القتال والمعاهدات [20] ، ولو لم يلتزمها من تحاربهم، إلا إذا ساغ في الشرع رد العدوان بمثله [21] .

وأساس الإلزام بهذه الأحكام وسائر الأحكام أنها أوامر الله (سبحانه وتعالى)

لعباده، فهو وحده الحاكم الآمر الواجب الطاعة، وهذا مقتضى الإيمان بالله وتوحيده

وعبادته؛ ولذلك: اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله (سبحانه وتعالى) ، وأنه لا

أحد يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر (سبحانه وتعالى) .

وقد أوسع العز بن عبد السلام (رحمه الله) هذا المعنى شرحاً في كتابه (قواعد

الأحكام في مصالح الأنام) حيث قال في قاعدة: من تجب طاعته، ومن تجوز ومن

لا تجوز طاعته: (لا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته،

كالرسل، والعلماء، والأئمة، والقضاة، والولاة، والآباء، والأمهات، والسادات، والأزواج، والمستأجرين على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد في معصية

الله (عز وجل) لما فيها من المفسدة الموبقة في الدارين أو في إحداهما، فمن أمر

بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنساناً على أمر يبيحه الإكراه، فلا إثم

على مطيعه) [22] .

وعلى هذا: فما يوجد عند الدول الأخرى من قواعد في العلاقات الدولية لا

يلزم الدولة الإسلامية، ولا يعتبر من قواعد قانونها الدولي إلا إذا أرادته ورضيته

صراحة كما في المعاهدات، أو ضمناً كما في العرف. ومن البدهي: أن إرادتها

مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية، فلا تملك الخروج عليها، فإذا اختارت ورضيت

بما هو خارج عن هذه الحدود كان رضاها باطلاً لا يلزمها بشيء، حتى لو كان ما

رضيت به مشروطاً عليها في معاهدة هي طرف فيها، وعلى هذا: فلو عقدت

معاهدة بين المسلمين والكفار على ما لا يجوز كمنع فك أسرى المسلمين وردّ مسلم

أسروه وأفلت منهم، وترك ما لنا عندهم من مسلم أو غيره، وعقد ذمة لهم بدون

جزية، أو أن يقيموا ببلاد الحجاز، أو يظهروا الخمر بدار الإسلام ... : فسد

الشرط؛ لأنه أحل حراماً، وفسد العقد؛ لاقترانه بشرط مفسد [23] .

قال الإمام محمد بن الحسن: (وما يتعذر الوفاء به شرعاً لا يجوز إعطاء

العهد عليه، فإن فعلوا ذلك فلينقضوا هذا العهد ... لأن هذا شرط مخالف لحكم

الشرع، وقد قال: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة

شرط) ..) [24] .

أما في القانون الدولي فقد نشأت مدارس متعددة لتفسير طبيعة القانون الدولي

ومصادره وأساس الإلزام بقواعده، (ويمكن أن تجمع النظريات المختلفة في إطار

مدرستين رئيستين؛ المدرسة الأولى هي: المدرسة الإرادية، أو الوضعية،

والمدرسة الثانية هي: المدرسة الموضوعية) [25] .

وبالمقارنة بين الأحكام الإسلامية والقانون الوضعي في ذلك نلمح شبهاً بين

أفكار نظرية القانون الطبيعي التي تنتمي إلى المدرسة الموضوعية والأصول التي

تقوم عليها الشريعة الإسلامية، فهناك إطار ثابت من القواعد الشرعية، هو الذي

وردت فيه النصوص القطعية أو المحكمة [26] ، وهو ما يتفق مع فكرة وجود

قواعد أبدية سرمدية ثابتة وخالدة مع الزمن التي يقوم عليها القانون الطبيعي.

يبقى خلاف جوهري بين أفكار شرّاح القانون الطبيعي في جملتهم والشريعة،

تصل بمصدر هذه القواعد؛ ففي الشريعة: المصدر هو إرادة الله (تعالى) ، أما في

القانون الطبيعي: فهو طبيعة الأشياء، أو مقتضيات العقل، إلى غير ذلك من

الأفكار [27] ، وهذا الشبه بين القانون والشريعة إنما جاء نتيجة التأثير الإسلامي

على أصحاب هذا الاتجاه، الذين درسوا الثقافة الإسلامية وعلوم الإسلام، وكانت

فكرة القانون الطبيعي قد ملكت أفئدة رجال الدين والفلسفة والقانون في أوروبا

العصور الوسطى، وكلهم نشؤوا في بيئة إسلامية الثقافة، ودرسوا الثقافة الإسلامية، وكان رائدهم الأول (توما الإكويني) ، ثم أمثال: (سوارز) و (إيالا) و (فتيوريا) ،

ويكفي للكشف عن ثقافتهم الإسلامية أنهم ما بين علماء في الفلسفة والتاريخ والقانون، وأنهم من بيئة إسلامية الثقافة من أسبانيا، إحدى مراكز الإشعاع الإسلامي.

ثم جاء من هولندا عالمها الشهير (جروسيوس) الذي تأثر بكتابات المسلمين،

وعلى الأخص الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وإن كانوا يخفون مصادر تأثرهم

خشية الإرهاب الديني الذي كانت تعيشه أوروبا في تلك العصور [28] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015