في دائرة الضوء
بقلم: د. محمد يحيى
يُبْرِزُ المسلم تحديداً هويته بأنه: مسلم، فإنه يواجه في المناخ الراهن من قبل
التوجهات (اللادينية) بعدة طروحات مضادة، تبدأ بمواجهة الهوية الإسلامية بعدة
هويات أخرى، وتنتهي برفض قضية الهوية والذاتية نفسها؛ باعتبارها تنتمي في
زعمهم إلى عهد غابر من الفكر.
والهويات المضادة التي تطرح في مواجهة الهوية الإسلامية ورفضاً لها
تتراوح بين الانتماء الجغرافي (إفريقي آسيوي، شرق أوسطي، بحر متوسطي،
أوروبي) ، والانتماء العرقي (عربي، تركي، إيراني، زنجي، أبيض) ، والانتماء
الزماني: إلى الحاضر (في دعاوى العصرية) ، وإلى الماضي في دعاوى
(كالفرعونية، والفينيقية، والبابلية، والطورانية ... وغيرها) ، وقبل كل شيء:
الانتماء الثقافي (اللاديني) (كاتخاذ المذاهب الفلسفية والوضعية المختلفة ذات الأصل
الغربي مثل: الماركسية، والليبرالية، والعلمانية محكّاً للهوية) .
وفي الواقع تزدحم الساحة في البلاد الإسلامية والعربية بدعوات إلى هويات
مضادة للهوية الإسلامية، تتخذ شتى الأشكال والمظاهر نفسها، لكنها تتفنن في أنها
تزعم لنفسها الأولوية على الهوية الإسلامية، إن لم تنفها وتلغها كلية، وعلى هذا
المستوى تزعم هذه الدعوات لنفسها أنها: هي الأصل الذي يسبق الإسلام في
الزمان والمكان واللغة والثقافة، والذي يتسع لجوانب شاملة من الخبرة الإنسانية
يضيق عنها الإسلام، وبجانب مزاعم الأسبقية في الأصل والسعة في الانطباق
توجد مزاعم بأن الهوية الإسلامية هي هوية طفيلية مفروضة على هويات أصلية،
وأنها على أفضل الأحوال لا تعدو أن تكون هوية ثانوية هامشية لها مجال محدود
جدّاً تنطبق فيه، وهو مجال لا يتعدى ما يسمى بعلاقة الفرد بربه.
إن قسماً كبيراً من الصراع والمحاجّة الفكرية الدائرين الآن على الساحة
العربية الإسلامية يدور حول محور القضية التي نحن بصددها؛ حيث تتخذ
التيارات المضادة للإسلام من الهويات المضادة سلاحاً تحارب به الهوية والذاتية
الإسلامية؛ وأصبح من المألوف الآن أن يسمع المرء صيحات من نوعية (إننا
مصريون، أو عرب، أو أوروبيون.. قبل أن نكون مسلمين) أو (الديموقراطية،
والاشتراكية، والحرية، قبل الإسلام) أو (نعم للحضارة العالمية، ولا للانغلاق
الإسلامي) !
وكل هذه التطورات مألوفة على مر السنوات أو حتى العقود الماضية، لكن
الجديد في الأمر في الفترة القريبة هو نفي قضية الهوية عندما تطرح من الوجهة
الإسلامية في مواجهة الطروحات المتغربة العلمانية، والحجة التي تتكرر كثيراً في
كتابات من يطلق عليهم الآن ممثلو النخبة الثقافية والفكرية العربية هي: أن قضية
الهوية والذاتية والانتماء الديني قد أصبحت جزءاً من ماضٍ بائد، وأن التمسك بهذه
المفاهيم والتأكيد عليها لا محل ولا معنى له في عالم تسيطر عليه مفاهيم العالمية
الثقافية والاندماج الدولي والتعددية الثقافية والحضارية والتقرب من (الآخر)
واحترامه.
وفي إطار هذه المفاهيم يصبح الحديث عن الهوية والذاتية (لاسيما الإسلامية) : نوعاً من الأنانية والتقوقع والعزلة، بل وضرباً من التخلف المتعمد عن مواكبة
العصر، ونوعاً من إعلان الحرب العدوانية غير المبررة على (العالم) .
والواقع: أن هذه الصيحات لا تسمع إلا عندما يرفع شعار الهوية الإسلامية
وحده، ولكن عندما ترفع الدعوة إلى تأكيد هويات أخرى دينية وعرقية وثقافية:
فإننا نسمع صيحات الترحيب والتحبيذ والدفاع؛ فعندما يتحدث بعضهم عن هوية
مسيحية أصلية لبعض الأقليات في بلدان عربية، أو عن هوية عرقية لزنوج في
بعض البلدان العربية الإفريقية: نجد أصوات النخب العلمانية نفسها التي تهاجم
شعار الهوية الإسلامية بضراوة تدافع بالضراوة نفسها عن تلك الهويات الأخرى
حتى المستندة منها إلى مزاعم دينية غير إسلامية، والغريب أن الهجوم في الحالة
الأولى والدفاع في الحالة الثانية يجريان وفق حجة واحدة، هي مثلاً: مناصرة
حقوق الإنسان؛ فرفع لواء الهوية الإسلامية في البلدان ذات الغالبية المسلمة يوصف
عند أهل النخبة العلمانية بأنه انتهاك لحقوق غير المسلمين وافتئات عليها، أما رفع
شعار الهويات المسيحية أو البهائية أو الآشورية أو الزنجية ... إلى آخره،
فيوصف بأنه تحقيق وتجسيد لمبادئ حقوق الإنسان، حتى وإن صاحبته دعاوى
انفصالية أو لجوء إلى العنف والإرهاب. فلماذا التناقض؟ !
إن سبب هذا التناقض الذي لا يكاد يلاحظه أحد في طروحات الفكر الثقافي
اللاديني الراهن هو أن الرغبة الحقيقية التي تحرك هذا الفكر لا تكمن في إلغاء
مفهوم الهوية ذاته كما يزعمون الآن لصالح مفاهيم العالمية والاندماج الحضاري،
وإنما تكمن في إلغاء مفهوم الهوية الإسلامية وحده، وتأكيد سائر الهويات والذاتيات
على حساب هذه الهوية الإسلامية، المطلوب الحقيقي كان ولا يزال إلغاء التمسك
بالهوية الإسلامية وحدها، مع تأكيد الهويات الدينية والثقافية الأخرى المخالفة لها
ورفعها في وجهها، لكن الذي حدث هو أن أصحاب الدعوة (اللادينية) الآن، وفي
مواجهة الصحوة الإسلامية في بلدان عدة، لا يستطيعون طرح هذا الأمر بشكل
مباشر وواضح؛ لذا: فقد لجؤوا كحيلة في المحاججة إلى نفي واستبعاد مفهوم
الذاتية والهوية كله وفي حد ذاته، وذلك على المستوى الإعلامي الظاهري؛ حتى
يخدعوا جمهور القراء والمتابعين من المسلمين بتصوير الأمر لهم: وكأن هذا
المفهوم قد انتهت صلاحيته أو (موضته) على الساحة الفكرية، وأن السائد أو
العصري الآن هو مفاهيم العالمية وتمازج وذوبان الحضارات والتفاعل مع الآخر
... إلى آخره، ولكن حينما يتصور المخدوعون أن قضية الهوية قد أصبحت بالفعل
من التراث الغابر يأتي أهل النخبة اللادينية ومن باب خلفي بطروحات جديدة أو
متسربلة بأقنعة مختلفة، تبرر تأكيد الهويات الدينية والثقافية غير الإسلامية،
ويكتشف بعض المخدوعين أنه في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بنبذ مفاهيم
الهوية والذاتية الإسلامية وحدها، بحجة الاندماج في العالمية الثقافية والتعددية
الحضارية، فإن الهويات (اللاإسلامية) دينية كانت أم ثقافية تطرح بشدة، وتجد
(لا دينيين) مستميتين في الدفاع عنها، ليس تحت شعار الذاتية والهوية وحده، ولكن
(على سبيل التعمية) تحت شعارات حقوق الإنسان (التعددية والديموقراطية) ، وهي
الشعارات نفسها التي يجري رفض الهوية الإسلامية بالاستناد إليها.
ويلاحظ المتتبع لمجريات الأمور أن هذه الخدعة العلمانية قد نجحت إلى حد
كبير في دهاليز سياسات بعض المؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي، فالندوات
والمؤتمرات يكثر عقدها هذه الأيام من جانب هذه المؤسسات والمرتبطين بها حول
(الحوار الحضاري) و (تقارب الأديان) و (لقاء الثقافات) .. وغير ذلك، ويخفت في
الوقت نفسه الحديث عند أهل هذه المؤسسات عن الهوية والذاتية الإسلامية؛ بحجة
أن ترديد هذا الحديث أصبح ضرباً من التطرف والمغالاة والتعصب واحتقار مشاعر
الغير، بل وتحقيرهم، ولكن بينما نجد من أصحاب الفكر الإسلامي (أو من يفترض
أنهم كذلك) من ينساق وراء هذا التصور ويلفظ الحديث عن الهوية الإسلامية، نجد
في المقابل بل وفي المؤتمرات نفسها والتجمعات ذاتها من يرفعون شعار الهويات
والذاتيات المضادة أو المخالفة، بل ويتهمون المسلمين بأنهم إن تكلموا عن هويتهم
فهم عدوانيون متسلطون.
إن الموضوع برمته لا يعدو أن يكون حيلة بارعة من حيل الحجاج الفكري،
وأصحاب هذه الحيلة يرفعون في وجه المنادين بالهوية الإسلامية دعوة (تذويب
(اختفاء الهويات الخاصة في الهوية العالمية الحضارية الجديدة (في زعمهم) ، التي
تتشكل من تفاعل وتمازج وتغير الهويات الخاصة، ولكن عندما يقبل المرء على
التعرف على هذه الهوية العالمية الجديدة يجد بالتحليل أنها ليست سوى الهويات
الغربية المعروفة من دينية (مسيحية يهودية) وثقافية (وثنية) وفكرية (علمانية
المذاهب المتعددة) ، وقد ضخمت وحولت إلى (عالمية) تفرض وتطبق على الجميع.
إن الهوية العالمية الجديدة التي يقال إنها قد نسخت كل الهويات الخاصة
(وبالتحديد الهوية الإسلامية) ليست في الواقع سوى هوية خاصة (غربية علمانية
مسيحية) اتخذت لها قناع التمويه والتدليس لكي تفرض على الجميع وتبرر سحق
الهوية الإسلامية التي ينكرون عليه الاتساع والشمولية، ويحولونها إلى مجرد (هوية
خاصة) أو (ذاتية محدودة) ، ولكن هذا الموضوع يتصل بما يسمى (السياسات
الثقافية) ، وله مجال آخر في البلاد الإسلامية والعربية.