دراسات تاريخية
نموذج للحاكم المستنير! !
بقلم:ياسر القارئ
بعد مقدمة عن ملامح المخطط الأوروبي لمواجهة الإسلام وتغريب الأمة بأيد
تنتمي إليها، استعرض الكاتب في الحلقة الماضية سيرة (محمد علي) ونشأته،
والعوامل الداخلية والمحلية والشخصية التي مكنته من اعتلاء هرم السلطة في مصر،
ثم ختم بسياساته الاقتصادية، ويستكمل في هذه الحلقة معالجة بقية الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
رابعاً: حروب محمد علي ومؤامراته:
لقد خاض محمد علي باشا حروباً مختلفة في الجزيرة العربية والشام،
والسودان، واليونان، مرة لحسابه الشخصي، ومرات عديدة لمصلحة قوى خارجية
استطاعت أن تجعل منه رجل الأمن في المنطقة بأسرها، ولكن قبل الخوض في
ذلك: ينبغي التساؤل عن الأسباب أو الأخطار المحتملة التي دفعت الباشا لتكوين
جيش قوي منظم بعد توليه السلطة مباشرة، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة
التي كانت تمر بها بلاد الإسلام بصفة عامة، خاصة أن العرب والمماليك
والعثمانيين وهم جيران الباشا القريبون أضعف من أن يقاتلوه، أما بالنسبة لصده
لقوى أوروبا المتربصة فهو في حكم المستحيل؛ إذ عجزت دار الخلافة بكل
مواردها عن فعل ذلك [1] .
إن السبب الرئيس لغزو محمد علي للسودان هو تأمين حدود دولته، وجلب
(الرقيق) ليكونوا نواة لجيشه الجديد؛ حتى يكون ولاء الجنود له وحده، وما ذاك إلا
لكون الباشا غريباً بذاته عن الشعب المصري، الذي أصبح يكن له كل البغض
والكراهية؛ بسبب سياساته الغاشمة، هذا بالإضافة إلى رغبة الباشا في إبعاد
الشعور الوطني عن الجيش، واستعباد الشعب المصري لخدمة مصالح بريطانيا،
ولضرب القوى الناهضة، كما سيحدث في الجزيرة العربية واليونان والشام [2] ،
بينما نجد أن بريطانيا التي أرهقها وأقلقها تنامي قوة الدولة السعودية الأولى التي
باتت تشكل خطراً على طريق التجارة بين الهند وأوروبا، ولعدم وجود عامل
مشترك لتكوين علاقة بينهما: لجأت إلى الاعتماد على عناصر محلية يمكن الوثوق
بها للقضاء عليها، فكان محمد علي باشا هو ذراعها في المنطقة [3] ، ومما يؤكد
هذه الحقيقة: أنّ تكليف السلطان للباشا اقتصر على تخليص الحجاز فقط، وليس
تعقب (الوهابيين) ، بيد أن الباشا وضع شروطاً تعجيزية للصلح، مما يعني
استمرار القتال، ولذا: فهي حملة صليبية في ثوب إسلامي [4] ، ونجد أن
بريطانيا قد أوفدت (فورستر سادلير) إلى الجزيرة العربية لتهنئة إبراهيم باشا
بقضائه على الوهابية! ، وبحث استعداده للتعاون في القضاء على القرصنة في
الخليج العربي التي تهدد الرعايا العثمانيين! ! ، والملاحظ هنا: أن مقاومة الغزو
البريطاني لسواحل الخليج، الذي كانت تتزعمه الدولة السعودية الأولى وحلفاؤها
سمته بريطانيا قرصنة بحرية، في الوقت الذي كانت تدعي فيه الحرص فيه على
رعايا الدولة العثمانية في المنطقة! تلكم هي بريطانيا التي قتلت المسلمين في الهند، والتي ترفض التدخل الأجنبي في المنطقة.
يقول محمد فريد بك: رأى السلطان محمود الثاني قمع الوهابية خشية امتداد
دعوتهم، وبالتالي: تفريق كلمة الإسلام! ، مما يخدم أوروبا المتربصة، فكلّف
محمد علي بتلك المهمة في سنة 1222هـ/ 1807م الذي عهد بدوره إلى ابنه طوسون برئاسة الحملة الأولى، ثم إبراهيم لقيادة الحملة الثانية سنة 1231هـ/ 1816م [5] ، وقد أشرت فيما سبق إلى عرض الباشا التوجه إلى الحجاز مقابل منصب والي مصر، لكن محمد فريد بك متحامل على السعوديين؛ كونه من عمّال حفيد محمد علي باشا الخديوي عباس حلمي الثاني! ، ثم كيف يمكن لـ (دعوة هدامة!) تهدف إلى تفريق المسلمين بالانتشار في أرجاء الجزيرة كلها وحتى العراق والشام لو لم تكن على الحق؟ !
ثم إن إبراهيم باشا استعان بالقادة العسكريين الفرنسيين مثل (ميير) إبان حملته
سنة 1235هـ[6] في الوقت الذي يقول الجبرتي عن معسكر إبراهيم بأنه: لا تقام
فيه صلاة، وأكثر عساكره على غير الملة، وبصحبتهم صناديق المسكرات، وقد
كشفوا عن كثير من قتلى عسكره فوجدوهم غلفاً غير مختونين [7] .
وبهزيمته للسعوديين قضى الباشا على محاولة جادة لقيام وحدة إسلامية من
الخليج إلى البحر الأحمر، ومن الأناضول إلى بحر العرب؛ بسبب عمالته لصالح
الأوربيين وضد شعوب المنطقة [8] .
لماذا اتجه الباشا إلى اليونان؟ :
بعد ذلك توجه الباشا بأمر السلطان إلى اليونان لمحاربة الثوار الذين تدعمهم
روسيا القيصرية، واضطر إلى الإذعان لأمر الباشا؛ لأن قوته الحربية ما كانت
تساعده على العصيان [9] ، وفي هذا دلالة على ما يخفيه الباشا في جعبته للسلطان
في المستقبل القريب كما سيأتي معنا، بينما نجد أن الشعراء في أوروبا مثل (فكتور
هوجو) و (اللورد بايرون) والرسامين والصحفيين بكوا على نجاح إبراهيم باشا في
إخماد الثورة، ووضعوا مؤلفات محزنة، ونسجوا حكايات خيالية حول وحشية
الأتراك في أوروبا [10] .. أين منها الحداثيون المعاصرون الذين ابتليت بهم الأمة، وأين مواقفهم بالنسبة للصومال والبوسنة وكشمير والفلبين والأكراد وفلسطين
الحبيبة! .
وبسبب الدعم الأوروبي والتبرعات التي انهالت على الثورة التي تولى كبرها
الشعراء المثقفون انتفض اليونانيون في جزر المورة، فعهد السلطان إلى والي
مصر ثانية، وأسند إليه حكم المنطقة إن هو أخضعها لسيطرته، لكن روسيا
وبريطانيا وفرنسا لم تكن لترضى عن استقلال سائر بلاد اليونان بديلاً، فافتعلوا
الأحداث وضربوا أسطول الدولة العثمانية في ميناء نافارين سنة 1827م/1242هـ
واعتذرت أوروبا عن خطئها! ، لكنها لم تلتزم بدفع أي تعويضات للسلطان، وقد
وصفت صحف أوروبا تلك المهزلة بـ (لطخة عار) ، لكن المهمة قد تحققت، وهي
القضاء على أسطول السلطان فقط [11] ، في الوقت الذي سمح الباشا لرعاياه
اليونانيين بالمشاركة في ثورة جزر (المورة) ، وقام بتحرير مماليكه اليونانيين الذين
أُهْدُوا إليه لذلك الغرض؛ ليعبر للأوروبيين عن تعاطفه مع كل ما هو أوروبي
ونصراني [12] ، بالإضافة إلى ذلك: فإن الباشا اتفق سراً مع الأميرال الإنجليزي
(كودرنجتون) على سحب الأسطول المصري من المورة [13] .
لقد فتحت هزيمة وتدمير أسطول الدولة العثمانية في حرب (المورة) الباب
أمام روسيا المتربصة؛ إذ إن السلطان محمود الثاني كان قد ألغى طائفة الانكشارية، فأصبحت الدولة بلا جيش ولا أسطول يدافع عنها، فأعلنت روسيا الحرب،
واستولت على سواحل البحر الأسود الشرقية (كان بحيرة عثمانية قبل ذلك)
ورومانيا و (أدرنة) ، وتقدمت حتى الأناضول، حيث عقدت معاهدة ضمنت
بموجبها النفاذ إلى سواحل البحر الأسود وإرغام السلطان على دفع التعويضات عن
الحرب بقيمة (11. 5) مليون قطعة ذهبية، وذلك لوضع العراقيل المالية أمام
إصلاحات محمود الثاني [14] ، ومرة ثانية: امتنع الباشا عن إرسال قوة لمواجهة
روسيا، في الوقت الذي كان يتصور المجيء إلى استانبول ليتبوأ مقام الصدارة
العظمى وإدخال السلطان تحت نفوذه [15] .
في هذه الأثناء حاول المستشار النمساوي (مترنخ) إقناع الباشا بالإجهاز على
الثورة في اليونان، ونصحه بأن هذا يخدم مصالحه التجارية، وأنّ الإنجليز لا
يمكن أن يؤيدوه ليصبح قويّاً مهما بدت نصائحهم مفيدة، فإنهم لا يريدون مصر إلا
ضعيفة، فكان جوابه: (إذا كانت بريطانيا لا تريدني أن أفعل ذلك، فماذا بوسعي
أن أفعل؟) ، وقد طلب الباشا من القنصل البريطاني أن يظهر الأسطول الإنجليزي
أمام سواحل الإسكندرية، وأن تحاصر الدول الثلاث القسم الآخر من أسطوله في
المياه اليونانية، والعجيب: أن إبراهيم باشا لم يكن موجوداً أثناء إطلاق النار
العفوي الذي استغل لضرب أسطول السلطان [16] ، وعلى الرغم من أن بريطانيا
ظنت أنها سوف تبعد شبح الروس عن المنطقة بتصرفاتها تلك: إلا أنّ الذي حصل
هو عقد السلطان المعاهدة المجحفة التي سبق ذكرها.
بعد أن تأكد الباشا أو بالأحرى القوى الخفية التي تحركه من ضعف السلطان،
أتت المهمة الأخيرة لوالي مصر، لكي يوجه ضربته القوية لدار الخلافة ذاتها بحجة
استرداد رعاياه الهاربين إلى الشام، فقد أعد الباشا حملة جديدة، وأسند قيادتها إلى
إبراهيم ابنه الذي حقق انتصارات متتالية حتى فدى يهود الأستانة، الأمر الذي دفع
الروس لإنزال 15 ألف جندي في استانبول للدفاع عنها، مما حدى ببريطانيا
وفرنسا للتدخل وتوقيع معاهدة (كوتاهيه) (سنة 1833م/ 1248هـ) ، التي تحفظ للباشا حكم مصر وعكا وحلب ودمشق وطرابلس وجزيرة كريت مدة حياته فقط، بينما وقعت روسيا حلفاً دفاعيّاً مع السلطان عرف باسم معاهدة (خونكاراسكله سي) في الفترة نفسها لحماية العاصمة لو هاجمها المصريون أو غيرهم [17] .
ثم إن الإنجليز سعوا إلى تحريض السلطان على التحرش بالجيش المصري
في الشام وإرغامه على خوض الحرب مجدداً [18] ، في الوقت الذي حاول اللورد
(بالمرستون) زعزعة حكومة الباشا في الشام، بتحريضه على الاستمرار في تجنيد
أهل الشام، قاصداً من ذلك إثارتهم عليه وإعاقة طموحات الباشا [19] .
في المقابل: ألغى إبراهيم باشا كافة القيود المفروضة على النصارى واليهود
في كل بلد سيطر عليه بدعوى المساواة والحرية، وهي أمور تشير إلى تأثير
المحفل الماسوني عليه، كما فتح المجال أمام الإرساليات النصرانية الفرنسية
والأمريكية، وتم نقل المطابع؛ من مالطا، وتأسيس مدرسة للبنات، بالإضافة إلى
تزويد الأديرة بالمطابع ليسيطروا على الفكر والثقافة في المنطقة [20] .
إن الهدنة التي توصل إليها السلطان مع الباشا كانت مؤقتة لتربص كل منهما
بالآخر، فالأول قَبِل بها بسبب تمزق جيشه وسعيه إلى عدم الاعتماد على الروس،
بينما الثاني دعاه خوفه من التخلي عن كل البلاد التي انتزعها مع كونه عازماً على
الاستقلال التام عن الدولة عند سنوح الفرصة [21] . وبسبب إصرار الباشا على
إبقاء جبال طوروس تحت يده، وكما ذكرت آنفاً تحريض الإنجليز للطرفين على
القتال: اندلعت الحرب مجدداً، فكانت موقعة (نصيبين) أو (نزيب) سنة 1255 هـ/ 1839م، التي انتهت بالقضاء على جيش السلطان (محمود الثاني) الذي وافاه الأجل قبل أن تصله أخبار المعركة، ثم إنّ القائد العام للبحرية العثمانية انسحب بأسطول الدولة إلى مصر؛ وذلك بسبب خوفه على حد زعمه من وقوع الأسطول تحت أيدي الروس، بينما الوقائع تشير إلى حلقة جديدة من الخيانة كون الصدر الأعظم الجديد هو (خسرو باشا) الذي نفاه محمد علي من مصر وتولى السلطة مكانه.
فزعت أوروبا مما آل إليه أمر الدولة العلية، فسعت بريطانيا والنمسا لعقد
صلح جديد بين الطرفين في الوقت الذي عارضت فرنسا إرجاع بلاد الشام للسلطان
كشرط لعقد الصلح، وأيدتها روسيا التي كانت ترغب في تقليص نفوذ الباشا في
حديقتها الخلفية، في الوقت الذي لم تمانع ببقائه في مصر لكي يظل عصاً يضرب
بها السلطان متى شاءت دول أوروبا، وقد رأى الساسة الروس أن الدولة العثمانية
سوف تتوجه نحو روسيا في حالة إخراج محمد علي من مصر [22] ، وبعد
مداولات كثيرة توصلت دول أوروبا إلى عقد مؤتمر لندن سنة (1256هـ / 1840 م) الذي يقضي بانسحاب الباشا من الشام، وحق إنجلترا والنمسا في حماية الأهالي الذين يرغبون في الانضمام إلى السلطان؛ كالدروز والموارنة والنصيرية، وفي حالة رفض الباشا فإنه يُخلع من كل ولاياته [23] .
وبالفعل نفذ الحلفاء بنود الاتفاقية، وقاموا بمحاربة جيش إبراهيم باشا، وتم
إخراجه من الشام، لكن (الكومودور نابير) عرض على محمد علي وساطة الحكومة
الإنجليزية لدى الباب العالي في إعطاء مصر له ولورثته لو تنازل عن الشام وردّ
الأسطول العثماني، فقبل هذه الشروط لحفظ مصر لذريته، وتم ذلك في سنة
1256هـ/1841م [24] واشترطوا عليه تخفيض الجيش، وعدم بناء سفن حربية إلا
بإذن السلطان، ويبدو لي أن مهمة الباشا العسكرية قد انتهت تماماً، فلم يسجل
التاريخ أي مغامرات أخرى للباشا وأولاده! ، وبدأت مرحلة الحصاد بالنسبة
لأوروبا.
قامت روسيا التي لم تفلح في الاتفاق مع نابليون على تقسيم الدولة، بسبب
اختلافهما على تبعية مدينة (استنبول) بمحاربة الدولة العثمانية مجدداً فيما يعرف
بحرب (القرم) ، بينما احتلت فرنسا بلاد الشام بحجة قمع الفتنة الطائفية (التي
أوجدها الأوروبيون أنفسهم) ، وبحجة عجز الجيش العثماني عن إعادة هذه المنطقة! وظلت هناك لمدة ثلاث سنوات أوهمت الأهالي النصارى خلالها بحمايتهم من
تعدي المسلمين المتعصبين المتوحشين عليهم! ! [25] .
المطالبة بالدستور المشبوه:
كذلك: فإن الحلفاء ضغطوا على السلطان عبد المجيد الثاني لإصدار دستور
للبلاد يساوي فيه بين الرعايا جميعاً، وتم استقدام قانوني فرنسي لتلك المهمة، ومن
المفارقات أن المستشار النمساوي (مترنخ) حذّر الدولة العثمانية من الخطر الكامن
وراء اقتفاء أثر أوروبا وتنظيماتها التي لا تجاري منطق النظام العثماني، ولقد فتح
الدستور البلاد أمام جحافل التنصير من كل حدب وصوب [26] ، في الوقت الذي
أغدقت فيه الصحافة الأوروبية المديح على وزير الخارجية رشيد باشا، إثر قيامه
بضربته المسرحية (إعلان الدستور) ، كما مدحها السفير الروسي في الأستانة [27] ، وقد كان هذا الوزير سفيراً فوق العادة في لندن وأعجب بنظام الحكم البرلماني.
ثم إن حروب الباشا للدولة العلية قد عرقل في مسيرة الإصلاح فيها، وبغض
النظر عن أسلوب العلاج الذي اتبعه السلطان محمود الثاني، فإن واقع الحال يشهد
بأن أوروبا كانت متخوفة من نهضة إسلامية جديدة، فالسفير الروسي بباريس
(بوتزودي بورجو (صرح بأن القوات الروسية لاقت من الجيش العثماني الجديد ما
لم تلاقه من قبل من طائفة الانكشارية، ولو تأخرت روسيا في إشهار الحرب على
الباب العالي سنة واحدة لما أمكنها أن تتحصل على النتائج نفسها [28] ، أما
القنصل البريطاني في مصر (هودجز) فقد أرسل لوزير خارجيته (بالمرستون)
يخبره أن السلطان محمود الثاني لو استمر به العمر أكثر لاستطاع التغلب على كل
أعدائه بمن فيهم تابعه القوي محمد علي باشا [29] ، ومما يؤيد هذا القول: أن
السفير الروسي في الأستانة (دبيتر) كتب لبلاده في سنة 1784م محذراً من أن
الروس لا يلبثون أن يأخذوا تركيا في مدة عشر سنوات، وكذلك توقع نابليون من
قبله [30] ، وذلك قبل أن يتولى السلطان محمود الثاني الحكم ويضع برنامجه
الإصلاحي!
احتلال الجزائر والحادثة المفتعلة:
ساهمت حروب الباشا كذلك في احتلال فرنسا للجزائر سنة1830م، إذ تعذر
على السلطان (في فترة تكوين جيش جديد ومواجهة خصوم أشداء، وبالذات الروس
والباشا) إرسال جيش لإنقاذ البلاد، ولقد افتعلت فرنسا حادثة ضرب (الباي حسين)
للقنصل الفرنسي (بمنشّة) كانت بيده؛ لخروجه عن الأدب ولمطالبة تجار جزائريين
لديونهم المستحقة على فرنسيين، مما اعتبره مجلس الوزراء الفرنسي إهانة، فقرر
وجوب الاستيلاء على الإقليم [31] ، ولقد سبق لفرنسا أن عرضت على الباشا
احتلال الجزائر وتونس وليبيا سوية، على أن تدعمه ماليّاً وعسكريّاً بشرط أن يقيم
حكومة تمنح فرنسا مزايا تجارية واقتصادية فيها، لكنه رفض بسبب اعتراض
بريطانيا، وليس لأي اعتبارات دينية أو وطنية أو غيرها، فكتب يقول: (وثقوا أن
قراري لا ينبع من عاطفة دينية، فأنتم تعرفون وتعلمون أنني متحرر من هذه
الاعتبارات التي يتقيد بها قومي، قد تقولون: إن مواطني حمير وثيران، هذه
حقيقة أعلمها) [32] .
استطاع محمد علي أن يقوم بما لم يستطع الاستعمار الغربي أن يقوم به بشكل
مباشر في العمل على تحطيم الهوية الإسلامية التي كانت أساساً في صمود الشرق
الإسلامي ضد الموجات المعادية، وهيأ المناخ لقيام مؤسسات ماسونية ونصرانية
وقومية، بينما رهن الاقتصاد الإقليمي للغرب [33] ، ولقد قال عنه (أرنولد
توينبي) : (إنه ديكتاتور تمكن من تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في
مصر) [34] ، بل وفي المشرق الإسلامي بأسره! .
وجد الإنجليز في شخص محمد علي رجلاً قويّاً يستطيع حماية خط التجارة
إلى المشرق، وبالتالي: المصالح البريطانية، على أن يراعي المشاعر الدينية،
وألا يعارض مصالح إنجلترا، ولو تظاهر بعكس ذلك [35] ، ولقد صرّح الباشا
بتلك العلاقة الوطيدة بقوله: (بدون أصدقائي الإنجليز لا أستطيع أن أعمل شيئاً،
لقد أدركت منذ زمن طويل أنني لا أستطيع أن أحقق أي شيء عظيم بدون إذن
بريطانيا) [36] ، ولإظهار غيرته الدينية (!) : أعلن الباشا خلال حروب الشام
أنه سيخلّص الدولة العثمانية من السلطان الفاسد الذي قضى على التقاليد الإسلامية
واتبع أساليب الغرب [37] ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك (وضمن مزيد من التناقض
في شخصيته) ، إذ أخبر القناصل الأوربيين بأنه مستعد لمساعدة إخوانه في الأستانة
فيما لو زحف الروس إليها للدفاع عن أراضي المسلمين وديارهم [38] ، (ونقول:
إذا لم تستح فاصنع ما شئت!) ولقد سار على نهجه حفيده الخديوي الأخير لمصر، إذ يقول: إن جده الباشا محمد علي خضع خضوعاً كاملاً للسلطان، وساعده،
وقدم له خدمات، منها إخماد ثورة اليونان [39] ، ونسي خيانة حرب جزر المورة
وحروب الشام وموقعة نصيبين! .
إن بريطانيا لم تكن راغبة في إسقاط الباشا نهائيّاً، فصفاته الشخصية ونظام
حكمه تتلاءم مع متطلبات سياستها في مصر، كما أن نهجه المعادي للإسلام
باعتباره أيديولوجية سياسية ومفهوماً حضاريّاً، وتعلقه بالمظاهر والمفاهيم الغربية
في الحكم والإدارة والمؤسسات الثقافية والاجتماعية يكفل إضعاف روابط مصر
بتراثها وعلاقتها بأمتها، وبالتالي: يفقدها هويتها الحقيقية، ويجعلها تدور في حلقة
مفرغة تبحث عن هويتها [40] في الوقت الذي فتح الباشا الطريق أمام التغلغل
الاستعماري الغربي، إذ زاد اعتماد مصر على الأسواق الأجنبية ورؤوس الأموال
الأوروبية، بينما قوّض قوى المعارضة الرئيسة، وهم العلماء، وأشاع الفرقة بينهم، وضرب بعضهم ببعض، وذلك بسبب اشتغالهم بالدنيا، والتحاسد عليها، والتطلع
إلى الدعوات والولائم [41] بينما تكفل الإنجليز بصنعه بطلاً قوميّاً (حرر مصر من
الأجانب هكذا زعموا بعد جلائهم عن الإسكندرية) [42] تماماً مثل ما فعل الحلفاء
مع مصطفى كمال أتاتورك في حربه مع اليونان!
تلكم هي سيرة فرعون مصر في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، الذي
يوازي عصر النهضة والتنوير في القارة الأوروبية، وقد ظهرت من خلالها
السمات العامة والمؤهلات المطلوبة من الغرب في ساسة الشرق الإسلامي.
والعجيب: أنه ليس هناك كبير خلاف بين الماضي والحاضر فيما يتعلق بالمنطقة
وأحداثها وشخصياتها، وهذا في حد ذاته يشبه الروايات العالمية الشهيرة التي يُعاد
تمثيلها باستخدام وسائل عصرية ومتطورة دون المساس بالنص الأصلي أو
الشخصيات الرئيسة، إن هذه السيرة تذكرنا أو تعلمنا أن الغرب مهما بدا متحضراً
ولطيفاً ومتعاطفاً، فإن ذلك مردّه إلى وجود من يقوم عنه بتنفيذ رغباته وأهدافه
دونما حاجة إلى بذل الجهد؛ لذا: اقتضت الأخلاق الأوروبية الرفيعة والتقاليد
العريقة معاملة الآخر بكل تحضّر ومدنيّة!
كذلك: فإن البرلمانات الغربية ووكالات الأنباء العالمية تبنت هي الأخرى لغة
لطيفة ومتعاطفة في الماضي والحاضر مع المصلحين المستنيرين! من أبناء الأمة،
وقدمتهم على أنهم حملة الإسلام الصحيح، ولا عجب في ذلك؛ فالأرواح جنود
مجندة! لكن تبادل الأدوار أو تغيير العبارات والألفاظ لم يعد يجدي في ظل تكشف
الحقائق وتصحيح المسار لدى الأجيال الجديدة، ولربما تكون هذه هي المرحلة
الأخيرة التي يسجل فيها التاريخ بعض النماذج المتكررة للفرعون المستنير؛ لأن
المسرحية قد أوشكت على الانتهاء، وسوف يسدل الستار، وحينئذ سنعلم حقّاً عدد
الباشوات منذ فرعون العصر الحديث.