خواطر في الدعوة
محمد العبدة
من الأشياء الملفتة للنظر والمثيرة للإعجاب في تاريخ البعثة النبوية والحديث
عن مكة، أنه رغم اشتغال قريش بالتجارة لم يعترهم ما يعتري التجار من شدة
الحرص والخوف على المال والسعي لحمايته، فكانوا من أكرم الناس وفادة ورفادة، كما لم يعترهم الجبن والضعف رغم بعدهم عن الغزو والسلب كما كانت تفعل
سائر العرب، فكانوا من أشجع الناس، بل كانوا كالأسود على براثنها، وعندما
جاء الإسلام كان من الذين استجابوا له وانقادوا إليه أبو بكر الصديق، وعبد
الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.. وهم من تجار قريش، وقد قدموا أموالهم
دعماً للدعوة الناشئة ودعماً للدولة الناشئة في ساعة العسرة، وكان مال أبي بكر
خير مواساة للرسول في بداية الدعوة.
إن المال خير وبركة إذا سُخِّر لتقوية الدعوة ونشرها، وهو وسيلة ناجعة من
وسائل الإعداد، والدعوة بحاجة للمال في كل عصر، ولكن لا يعني هذا أن يكون
له الدور الأكبر، وأن يكون لصاحب المال الدور القيادي وإن كان ينقصه العلم
والفقه في الدعوة، كما ينقصه الحزم والعزم، إن ما يقدمه المسلم في هذا المجال
يبتغي به وجه الله، فله الأجر والثواب عند الله، وله الشكر والدعوات الصالحة من
الناس، أما أن يقدم صاحب المال لتكون له اليد الطولى في الأمور، فهذا سفه في
الرأي، وفشل في مسيرة الدعوة، ووضع للأمور في غير مواضعها، ونحن لا
نتكلم عن النيات، فذلك بين العبد وربه، ولكننا نتكلم عن ظاهر الأمر، كما إننا لا
نتكلم هنا من باب الاحتراس والتنظير للمسلمين، بل نتكلم عن واقع قد بلوناه
وعانينا منه في أكثر من قطر إسلامي، وهو موجود في واقع الدعوة المعاصرة (ولا
حاجة هنا طبعاً لذكر الأسماء (، ولكن هذا شيء يتعجب منه المرء، كيف يُبعد
أصحاب العلم والفكر والخبرة، ليتصدر أناس خليّون من كل هذا.
وإن هذه النظرة للأمور ما كانت لتحدث في الجاهلية قبل الإسلام، فقد شَرُف
أبو طالب ولم يكن غنيّاً، وكذلك والده عبد المطلب، وقد يَشْرُف الغني ولكن إذا
كان صاحب عقل ورئاسة، وشجاعة وكرم.
كما لا نجد هذا الخطل في الرأي عند أحزاب المناهج الوضعية، فلم نسمع أن
رجلاً أصبح زعيماً لغناه فقط، ولا يتمتع بمميزات القيادة، فلا ندري ماذا أصاب
المسلمين حتى خسروا الميزان، وإذا أرادوا التمثل بعثمان (رضي الله عنه) ، فإنما
اختاره ذلك الجيل لصفات عظيمة فيه، لا لشيء آخر.