افتتاحية العدد
قالها اليهود
نعم للتوراة ... لا للشرق أوسطية
(كان سعيداً تلك الليلة، يطلق النكات هنا وهناك، ويمازح المراسلين
والمراسلات بصورة غير معهودة ... وحينما انتصف الليل تلقى مكالمة (كهربت)
الجو وانقلب ذلك المرِح إلى مخلوق كئيب وحزين جدّاً) .
هكذا وصف مراسل محطة التلفزيون الفرنسي الثانية مشاعر رئيس السلطة
الفلسطينية عرفات، وتقبله لخبر صعود نتنياهو، إلى سدة السلطة في الكيان الصهيوني ... وفي تلك الليلة التاريخية اختارت يهود أن ترجع إلى نفسها، وأن تعبر عن ذاتها، فأتت بهذه القائمة المجرمة من شذاد الصهاينة إلى موقع ... السلطة ... نعم، لقد اختارت يهود، ولم يختر العرب سوى أسلوب ردود الأفعال بعد أن تلطخت أيدٍ واسودت وجوه.
هذا المستوى من الانحدار والصغار لخصته الحقيقة الفجة العارية: أن مصير
طابور التطبيع والاستسلام قد أصبح في يد عدوهم.. مهاجر روسي من أصقاع
سيبيريا، أو (فلاشا) أثيوبي أصبح يكتب مصير هذا الطابور البئيس من المراهنين
على الحصان الخاسر (بيريز) .
ماذا نتصور من زعامات وضعت مصيرها في يد عدوها.. وكيف كانت
النتيجة ستختلف بعد أن رهن هؤلاء ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم في أيدي
الحاخامات، وقبّلوا أيديهم وفتحوا لهم قلوبهم وقصورهم وعقولهم.
كانت ظاهرة وربما تستمر في هذا الزمن المتصهين أن يستقبل رموز (سلام
الشجعان) حاخامات يهود، بقبعاتهم السوداء، ومعاطفهم الصوفية، ووجوههم
الشائهة ... يستضيفونهم، ويسمعون منهم، ويصغون لمواعظهم ... بينما شعوبهم
ودعاتها ونبضها الصافي لا يعرف سوى عنواناً وحيداً يسهل الوصول إليه:
المحاكمات العسكرية ثم الإعدامات.
كانت الانتخابات حافلة بالضجيج والتحضر والإثارة.. كانت من الإثارة حتى
إن شعوب المنطقة العربية سهرت حتى الصباح تتابع، كيف يمكن أن تجري
انتخابات حقيقية يتقدم فيها مرشح في بداية المساء ... وما أن ينشر الفجر خيوطه
حتى يتبدل المنتصر إلى خاسر وينقلب الخاسر منتصراً، وكأن لسان حال أبطال
(الخمس تسعات العربية) : أن هاكم انتخابات تشاهدونها إذا لم نذقكم طعم الاختيار
الحر.. هكذا أكدت الدويلة الصهيونية مبدأ أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة في
بحر الديكتاتوريات المحمية.. كما يقول الكاتب الفلسطيني (إدوارد سعيد) حينما
تطرق إلى أسلوب الطرفين الحاكمين في التعامل مع شعوبهما، فضرب لحادثة
اعتقال الدكتور (إياد السراج) رئيس رابطة حقوق الإنسان الفلسطينية، الذي تحدث
عن الانتهاكات المتعمدة من قبل عرفات ورجاله ضد العزل من شعبه، فما كان
مصيره إلا الاعتقال.. قارن الكاتب بين هذه الحادثة المتزامنة مع إعلان نتائج
الانتخابات اليهودية، فقال: (نظام الحكم النموذجي وفقاً لعرفات هو النظام الذي
يعتمد على القسر والمنفعة الشخصية.. ما لا يرغب فيه، أو يعتقد أنه مناوئ له: يجب أن يزول ويختفي، أو يوضع وراء القضبان على الأقل ... فالتاريخ يعلمنا
أن قوة الفكر الإنساني وإبداعه بلا حدود، وأن اعتقال (إياد السراج) بسبب شجاعته، يستنهض الهمم أكثر، ويؤدي إلى المزيد من الاحتجاج والمقاومة وسط
الفلسطينيين، وليس العكس مثلما يعتقد عرفات.
وها هي إسرائيل، بعد أقل من شهرين على هجماتها الوحشية على لبنان،
تعود إلى مركز الأحداث عن طريق انتخاباتها التي استحوذت على اهتمام العالم
(إلى حد كبير بفضل شبكة (سي. إن. إن) التلفزيونية) ، بل ها هو (نتنياهو)
يصبح رجل الساعة بمجرد إعلان فوزه في الانتخابات.
إن قدرة (إسرائيل) على كسب القبول هي القضية الأساسية هنا، وبغض
النظر عن فوز (نتنياهو) من عدمه، فإن أسلوب (السلام) كان وسيظل مفروضاً من
جانب (إسرائيل) ، التي تستطيع أن تملي كل شروطها على العرب، خصوصاً
الفلسطينيين الضعفاء، ومأساتنا الحقيقية هي أننا لم نتحرر بعد من التصور البدائي
للقوة، وأننا لم ندرك بعد أن المعرفة والمعلومات والقبول أهم من القوة الغاشمة
والشرطة. والطريقة الوحيدة لإحداث التغيير الضروري هي: أن نشرع في العمل، على غرار ما فعل الدكتور (إياد السراج) وأمثاله، أي نعمل على نقل ميدان
المعركة إلى حيز الذهن، وليس الشارع فقط، علينا أن نجهر بأفكارنا، وأن نصر
على الحقيقة، ونرفض الوصفات الجاهزة والتخيلات الأيديولوجية، وأن نتفحص
بعناية الهراء الذي يفيض من وسائل الإعلام) .
نعم.. هنا يكمن الفرق بين أمة صغيرة تملك خياراً حتى لو كان شريراً
وأخرى ترهن نفسها حين تسلب منها الإرادة الحرة ... وهذا درس بليغ..
تنبع من هذه النقطة قضية مهمة، هي حقيقة الصراع: إن تاريخ الصراع مع
صهيون منذ قرن شهد ثباتاً في نظرة الطرفين حياله.. فاليهود ظلوا دوماً متدرعين
بالحلم التوراتي أساساً، واختلفوا حول أسلوب تحقيق الحلم وحصد أكبر قدر من
الغنائم له.. ظلت المواجهة تحكمها نظرة شمولية تختلف في جزئيات دقيقة وتلتقي
في قواسم مشتركة ضخمة ... ما انتزع بالقوة المباشرة أو بالدهاء والتدجين السياسي
صب في تأكيد حلم إقامة الكيان أولاً، ثم توسعه وجعله حقيقة واقعة حتى المرحلة
الأخيرة، حيث أصبحت هذه الدويلة الصغيرة مركز استقطاب إقليمي ودولي،
وتسابق المهرولون المتاجرون بدماء شعوبهم إلى كسب ودها، ثم تقديمها إلى
شعوبهم على أنها النموذج الفذّ الذي يجب الاقتداء به! .
ومع شراسة الصهاينة ووضوح هدفهم البعيد: ظلت القيادات العربية تتعامل
بفنون من التحرك السياسي الساخر والعبثي، تماماً كما يفعل أبطال (مسرحيات
اللامعقول) أو العبث في وقت الكارثة ... واستمر الخطاب السياسي العربي يجتر
شخصيات شعراء الهجاء والقدح والعنتريات الفارغة لعقود.. وحصر نفسه في
دائرة رد الفعل والمتاجرة بالصراع لتحقيق مطامع هزيلة وصغيرة، وافتقد الرؤية
العقدية التي ظلت باستمرار درع عدوه.. وانتهى المطاف بنا إلى (شرم الشيخ)
حيث تحول الهجاء إلى مديح، والقدح إلى ثناء جماعي، يشيد بدم يهود المسفوك
على تراب فلسطين المغتصب.. تحولت عبارات منتفشة ضخمة إلى كلمات تثير
السخرية: السليبة، المحتلة، المغتصبة.. والسخرية الأعظم أن الشفاه نفسها هي
التي تتغنى بالسلام، والشرق أوسطية، والتطبيع، والويل والثبور من (الأصولية)
الإسلامية.
هذا الدرس الذي يتكرر وهو مرشح للاستمرار طالما افتقدت شعوب المنطقة
أمرين: رؤية شاملة للصراع، وخيار حر، وهذه الرؤية هي التي تحارب اليوم
باسم القضاء على الإرهاب ... والتطرف.
وفي روسيا: المفكرون الغربيون علقوا على تودد (يلتسين) للكنيسة،
وحرصه على أن يختتم برنامجه الانتخابي بالظهور مع رموز وبطاركة الكنيسة
الأرثوذكسية: بأنه زمن الأصوليات التي يمكن أن ترتكب مجازر بشعة كتلك التي
جرت في البوسنة طالما أن الكنيسة تباركها.
زمن صعود الليكود حطم خرافة أخرى عزف عليها إعلام التطبيع و (البيريزيون) العرب، وهي: أن الشعوب في وقت الخيار تنحاز إلى أولئك الذين
يعدونها بالرخاء والاستقرار وجني الثمار الاقتصادية، كما وعد (بيريز) ناخبيه،
وأنجر ذلك عبر الاستثمارات الهائلة التي تدفقت على اليهود بعد جهوده الضخمة في
هذا المجال.
في تلك الأمسية التي تلقى فيها (حزب بيريز) العربي الضربة القاضية:
صوت اليهود مرة أخرى لمشروعهم الصهيوني؛ ليثبتوا خيارهم الحر ورفعهم
لأصولية يهودية مغضوب عليها، وليزيحوا وهم الشرق أوسطية، ويؤكدوا واقع
(إسرائيل الكبرى) ، حتى ولو شحب وجه أنصار التطبيع، أو أصيبوا بقارعة
مزلزلة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -