المسلمون والعالم
وقفة مع مأساة الشعب الكردي المسلم
بقلم: جابان الكردي
الأكراد شعب عريق له تاريخ موغل في القدم، فهو من أقدم الشعوب التي
وجدت في (الشرق الأوسط) ، وقد أسهم بدور فاعل ومهم مع شعوب المنطقة في
بناء الحضارة البشرية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وقد دخل الإسلام بلادهم
سنة 18هـ، على يد الصحابي الجليل عياض بن غنم (رضي الله عنه) ، ويذكر
التاريخ أنه الشعب الوحيد الذي دخل في الإسلام طواعية.
ولقد وهب هذا الشعب نفسه لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله وقد أنجب هذا
الشعب العديد من العظماء أمثال: صلاح الدين الأيوبي، وبنو الأثير، وابن خلكان، وابن تيمية، وابن حجر، وبديع الزمان النورسي ... وغيرهم، ولن يعجز الكرد
أن يأتوا بغيرهم متى ما توفرت لهم الظروف المناسبة.
اشترك الأكراد في كافة الفتوحات الإسلامية وكانوا دوماً في المقدمة.
بلادهم تسمى كردستان (Kurdstan) ? وتعني (وطن الكرد) ، ويقدر عددهم
بـ (35) مليون نسمة.
أغلب الأكراد سنيون شافعيون، وهناك نسبة قليلة من النصارى، والأكراد
يميلون إلى التدين ويتمسكون بالشريعة الإسلامية، وللشعب الكردي لغته التي تنتمي
إلى فصيلة اللغات الهندوأوربية، وهي اللغة الأم لهذه الفصيلة.
لمحة عن البنية الأخلاقية لهذا الشعب:
يمتاز هذا الشعب بحبه للإسلام وتفانيه في الدفاع عنه، ويتسم أيضاً بالكرم،
يقول سعد الدين أستاذ السلطان: مراد خان في تاريخه واصفاً الأكراد: (إن كل
واحد منهم يفضل الحياة الحرة المستقلة في قمم الجبال وأعماق الوهاد، لا تجمعهم
سوى رابطة العقيدة الإسلامية) ، وهم يثورون لأتفه الأسباب ويتصفون بالشجاعة
والإقدام، فلقد علمت الحياة الكردي أن العالم ملك الشّجَاع: (أشد من الأسود إذا
غضبوا وأخف من البروق إذا وثبوا) ، ويطلق على الأكراد (قريش العجم) تعظيماً
لهم، وأطلق المؤلفون الغربيون على بلادهم (بلاد الشجعان) وأطلق عليهم أحد
الكتاب المسلمين (يتامى المسلمين) .
بداية المشكلة الكردية:
بدأت مأساة الكرد عشية التقسيم الاستعماري للشرق، المعروف باتفاقية
(سايكس - بيكو) ، حيث لم ينس العالم الصليبي أن (صلاح الدين) الذي أذاق ملوك
أوروبا مرارة الهزيمة، وحرر من براثنهم المسجد الأقصى، وطردهم من ديار
المسلمين بعد أن دخلوها: كان من الأكراد (رأس حربة الإسلام) ، نعم لم ينس
الصليبيون - إبان الحرب الكونية الأولى - الأكراد أبداً، عندما رفس (جورو)
الفرنسي قبر صلاح الدين بقدمه وهو يقول: (ها قد عدنا يا صلاح الدين) .
لقد أخذوا بثأرهم تماماً، فقد قسموا بلاد الكرد إلى خمسة أقسام ملحقة بكل من: إيران، والعراق، وتركيا، وروسيا التي هي بدورها قسمتهم بين أرمينيا
المسيحية، وأذربيجان المسلمة، ولم يكتفوا بذلك الحد من تلك المؤامرة الدنيئة، بل
أوكلوهم إلى حكام محليين هدفهم محاربة الإسلام وأهله، إما علناً كأتاتورك، وإما
سرًّا كدعاة القومية العربية.
ولقد فعل هؤلاء الحكام بالأكراد ما يندى له جبين البشرية؛ من أعمال مخزية
تنفطر لها القلوب، فأذاقوهم سوء العذاب، ففي مجزرة واحدة فقط قتلت قوات
طاغية العراق (صدام حسين) (5000) إنسان بالغازات السامة، وتجاوز عدد
الجرحى (25) ألفاً: إنها مأساة (حلبجة) الحزينة، التي سويت بالأرض، وأبيد
المواطنون فيها عن بكرة أبيهم، ومن استطاع الهرب لم ينج من تشوه وجهه وجلده، إن ما حصل أصعب من أن يوصف ويدركه الخيال، بل ما يفوق كل وصف
وتعبير.
وقد دمر النظام الحاكم في بغداد ما يقارب (6500) قرية تدميراً كاملاً، وقد
دفن (147) شخصاً كرديًّا وهم أحياء، وقتل (531) جريحاً ومريضاً كرديًّا داخل
مستشفى السليمانية، وقد اعتقل (300) طفل في محافظة السليمانية وحدها،
وعذبوا، وقيل: إن بعضهم قلعت عيونهم وتعرضوا لاعتداءات وحشية بالصدمات
الكهربائية، وبقي مصيرهم مجهولاً.
هناك الكثير جدًا مما يعجز القلم عن كتابته، وقد تهون عنده جرائم الصهاينة
والصرب! ! !
وفي تركيا: المزيد من القتل وإهدار الدماء البريئة، فلم تدخر الحكومة
الطورانية الفاشية العلمانية التركية جهداً في سبيل إبادة هذا الشعب المسلم وإسكات
صوت الحق فيه: انتهكت أبسط حقوق الإنسان على الوجود، أنكرت عليهم مجرد
الاسم فضلاً عن اللغة، أسمتهم أتراك الجبال، قتلت منهم آلاف المدنيين، وأحرقت
(3000) ، قرية حيث دمرت البنية الاقتصادية والثقافية للشعب الكردي، حاولت
بكل الأساليب صهر الأكراد ودمجهم في المجتمع التركي، وما زال مسلسل الأحداث
لإذلال الشعب الكردي مستمرًّا، فحسبنا الله ونعم والوكيل.
إنها مأساة تفوق مأساة أي شعب على هذه الأرض، إنها من أكبر جراحات
العالم الإسلامي وأشدها استنزافاً حتى الآن، وأشدها حساسية وتجاهلاً؛ فلقد عوملت
هذه القضية العادلة بسياسة التجاهل والقمع فوق ذلك: بالمعالجة المشوهة على
مستوى الإعلام السلطوي الذي ينطلق من واقع التجزئة الاستعمارية، وعلى مستوى
الحوار الأجوف غير المجدي من قِبَل الحكام العلمانيين.
إن اللوم الأكبر - على هذا التجاهل - يقع على عاتق المسلمين الذين وقفوا
إزاء هذه المأساة وتلك المعاناة بصمت مريب أشبه بصمت أهل القبور، ولا معنى
لذلك سوى الخنوع والاستسلام للسياسات البعيدة عن شرع الله.
بل يعطي الإسلاميون اهتماماً كبيراً لمشكلات المسلمين في كل من الفلبين،
وبورما، ويتناسون إخوانهم الأكراد الأقرب موطناً من غيرهم.
إنه لم يعد الصمت ممكناً يا أخوة الإسلام، فالسكوت عن قضية الأكراد سكوت
عن الحق والعدل الذي هو جوهر الإسلام [وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]
[الأنعام: 152] وإني لمستيقن كل اليقين، ولا يخالجني أدنى شك: أنه لولا
الأحداث الأخيرة وما أحدثته من منعطفات في سياسة بعض دول المنطقة، لما التُفِتَ
إلى الأكراد أبداً، ولظلوا يتعاملون مع القضية بتجاهل مريب وصمت عجيب
غريب، ومع ذلك: يبقى المسلمون مقصرين مهملين للقضية الكردية حتى الآن؛
ففي حين آوت أوروبا النصرانية الأكراد، وقدمت لهم المساعدات الإنسانية
والإعانات والمنح الدراسية، ظل المسلمون متمسكين بموقف المتفرج، اللهم إلا
بعض المساعدات القليلة التي تكاد لا تذكر.
ولذلك: فإن الشعب الكردي المسلم في هذ الأوقات بأمس الحاجة إلى دعم
إخوانة المسلمين - من منطلق الأخوة الإسلامية - بخاصة العاملين باسم الإسلام
للتدخل السريع في قضيتهم بشكل عملي أكبر وأكثر جدية، وبخطوات سريعة، قبل
أن يفوت الأوان ونضرب أكف الندم حيث لا ينفع الندم.
يجب أن نتحمل مسئوليتنا بجدية، ونقف بحزم أمام مسلسل الخزي والعار
الذي يعاني منه الشعب الكردي المسلم.
حل المشكلة الكردية:
القضية الكردية من أعقد القضايا في الشرق الأوسط، وهي قضية شائكة جدًّا
وحساسة، ولكن ما لا بد منه هو معالجتها بكل جدية ووضوح ... ومحاولات دفنها
وتجاهلها يزيد الأمر تعقيداً وتفاقماً.
ولقد طرح بعض قادة الأكراد الحكم الذاتي باعتباره حلاًّ مؤقتاً لمأساة هذا
الشعب، وكأنهم ليس لهم الحق في حياة حرة كريمة مستقلة عن غيرهم.
وأجزم بأن أي أمة عزيزة الجانب ترفض ما يسمى بـ (الحكم الذاتي) ، الذي
هو في حقيقته عبودية وذل، ولكن بأسلوب حضاري ... إنه استعمار جديد تنعدم
فيه المساواة بين أبناء الحكم الذاتي مع أبناء الدولة المسيطرة.
والحكم الذاتي غير كفيل بإنهاء هذه المعاناة، والحل الآخر هو استقلال
كردستان، وهو أصعب من أن ينال؛ فكردستان تحتوي على 70% من بترول
المنطقة، كما أن منابع الأنهار من أرضها، ومن يسيطر على نبع النهر يسيطر
على مصبه، ناهيك عما فيها من خيرات زراعية ومعادن نفيسة.
وتنازل الدول عن كردستان يعني نهاية أكثر الدول المحتلة لكردستان، ولا
أتوقع أبداً أن تجعل تلك الدول نفسها تحت رحمة الأكراد.
ولهذه الأسباب تصبح استقلالية كردستان أمراً صعباً جدًّا، وغير وارد على
المدى القريب، ولو بحث هذا الشعب عن الحل لقضيته والمنفذ لخروجه من هذه
المأساة، فسيرى أن كل حل لقضيته بعيداً عن الإسلام لا يجدي، إذن: الحل يكمن
في عودة جذرية للإسلام، طليعتها ورأس رمحها وأساسها هم أبناء كردستان،
بالتعاون مع العلماء والدعاة ... ومن هنا: فبإمكاننا القول: بأن المستقبل - بإذن
الله - لهذا الشعب لن يكون إلا بذلك الأسلوب، لا سيما وقد جرب الأكراد
الاتجاهات العلمانية في الساحة، التي لم تفد قضية الأكراد شيئاً، بل عرضتها
للدمار والخلاف الحزبي البغيض.
حل القضية حلاًّ نهائيًا مرتبط بمفاجأة عظيمة: ألا وهي خلافة إسلامية عالمية
يشارك فيها أحفاد صلاح الدين وابن تيمية، ولكن ذلك - فيما يبدو - بعيد على
الأقل في المستقبل المنظور إلا أن يشاء الله؛ لتشرذم الأمة وغلبة القوميات عليها،
وتغلب الأحزاب العلمانية على مقدّراتها، ولكن لو تبنى الأكراد فكرة أسلمة القضية
الكردية، فإنهم سيصلون إلى حريتهم وخلاصهم بإذن الله.
وهنا ندرك بأن الحل لمعاناة الأكراد، لا يمكن أن يكون في بلاد الصليب
وعقد المؤتمرات واللجوء إليهم واستدرار عطفهم والبحث في الأمم المتحدة عن حل، الحل يكمن في العودة إلى الإسلام الذي ما تمسك قوم به إلا أعزهم الله ونصرهم،
وما تركه قوم إلا أذلهم الله وأخزاهم.
أهمية منطقة كردستان مستقبلاً:
مما لا جدال فيه أن المنطقة الكردية لها أهمية قصوى في المرحلة المستقبلية
وستكون هي محور الأحداث في الفترات القادمة، وسيكون لها النصيب الأوفر في
دهاليز السياسة وأروقة الدول العظمى؛ ويَرجع ذلك إلى أهمية المنطقة.
وقد كان المؤرخون الغربيون الذي درسوا تاريخ هذا الشعب ولمسوا سماته قد
أشاروا إلى أن المنطقة ستحمل الكثير من التيارات والمفاجآت المستقبلية؛ ولأجل
هذا، فقد أسرع الصليبيون - وبخطوات عملية كعادتهم - إلى استغلال الوضع
لصالحهم، فيما بات المسلمون في سبات عميق، غير مدركين خطورة الأمر إلا في
آخر المطاف؛ فليس الوجود الأجنبي في تلك المنطقة إلا نتيجة خطط مدروسة
مدبرة مسبقاً وبأسلوب خبيث ماكر دنيء تحت الزعم خداعاً بحماية الشعب الكردي
المسلم من خطر الطاغية صدام، مع العلم أنهم هم الذين نفخوا فيه، وسكتوا عن
ظلمه للأكراد، وهكذا استطاعوا الدخول بين هذا الشعب بصورة المنقذ، وما هم إلا
غزاة طامعون.
فلقد غزوا المنطقة عن طريق: بعثات التنصير، والمستشفيات والأطباء،
وتوزيع الأغذية، وتوفير المنح الدراسية للشباب لإعداده من جديد على منهجهم؛
لكي يقوم بدوره المستقبلي الذي سيسندونه إليهم.
وهكذا.. لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها لإبعاد هذا الشعب المسلم عن دينه
وتعريته عن أخلاقه، نعم.. لقد أدركوا جانب الشجاعة في الشخصية الكردية
والوضع الراهن له؛ فأرادوا استغلال هذا الوضع لصالحهم وهذه الشجاعة في خدمة
مبادئهم وأهدافهم.
لقد بينوا للأكراد بأن أحفاد الصليبيين الذين قتلهم صلاح الدين وشردهم
وطردهم وأذاقهم مرارة الهزيمة جاؤوا ليمدوا لهم يد العون، ولم يفعل ذلك العرب
والترك والفرس، الذين دافع عنهم صلاح الدين، وهم الآن يقتلونهم ويظلمونهم ...
بهذه الأفكار الخبيثة دخلت أمريكا بين الأكراد، حيث عجزت إسرائيل عن الدخول
واستمالة الشعب الكردي معها ضد العرب كجبهة خلفية (نسأل الله أن يخيب
مساعيهم) .
ومن هنا: تظهر حاجة الأكراد الماسة إلى جهود كل إخوانهم المسلمين
لاجتياز محنتهم بسلام. وواجب الإسلاميين المحتّم عليهم مع القضية: التعامل معها
بكل وضوح وصراحة وبدون انسياق مع الإثارة التي ستجلبها لدول المنطقة
وحكوماتها؛ لأن الحق لا يعرف الهوادة ولا حياء فيه، فهو واضح وضوح الشمس
في رابعة النهار.
والجدير بالاهتمام والذكر: أن الأكراد - الآن - مهيؤون لامتطاء جواد النعرة
القومية مما يحقق مآرب الغرب، وذلك رد فعل لما ذاقوه من القوميين العرب،
والطورانيين الأتراك، والمتعصبين الفرس على حد سواء: من ويلات ومآس،
وذلك ينتشر لدى كثير من شبابهم الذين ليس لديهم خلفية شرعية صحيحة، ممن
تربوا على أدبيات الحزبين الكرديين العلمانيين، حزب (الطالباني) وحزب (مسعود
البرزاني) .
فيجب على المسلمين إدراك الوضع مع العمل العاجل لدعم ومساندة إخوانهم
الأكراد، لئلا يخسروا شعباً كان رأس حربة الإسلام في جل فتوحاته - إن لم يكن
كلها - نتيجة تقاعسهم عن نصرته، أو سكوتهم عن الحق.
والله من وراء القصد.