دراسات دعوية
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد-صلى الله عليه وسلم-
وبعد، فلقد سبق في أعداد ماضية الحديث عن اليقين باليوم الآخر وثمراته، وفي
هذه الحلقة بمناسبة الحديث عن هذا الأمر العظيم سأتوجه بهذه الكلمات إلى ثلاث
فئات من الناس، هي التي تتألف منها مجتمعات المسلمين اليوم، ولا يكاد يخرج
فرد من الأفراد عنها، وهذه الفئات هي:
أولاً: الفئة المصلحة الداعية إلى الخير:
وهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً وأثراً في الناس، وأنبلهم غاية
وأسماهم هدفاً، وهؤلاء هم الذين عناهم الله (عز وجل) بقوله: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) ، وقوله
(تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) ، وهم الذين عناهم الرسول-
صلى الله عليه وسلم- بقوله: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا
يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله (تبارك وتعالى) [1] وإلى إخواني هؤلاء
أوجه هذه الكلمات:
اعلموا أنكم سادة المجتمعات وأشرافها بحق، وكيف لا ... وأنتم تحملون
أعظم رسالة وأنبل غاية، ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين وإخراجهم بإذن الله
(تعالى) من الظلمات إلى النور، كيف لا ... وأنتم تضحون بأوقاتكم وأموالكم
وراحتكم في سبيل إنقاذ أنفسكم وإنقاذ الناس من عذاب الله (تعالى) في الدنيا وعذابه
الأليم في الآخرة ... أيُّ غاية أشرف وأنبل من هذه الغاية؟ .
ولما كان هذا العمل بهذه المنزلة، فالله الله أن يضيع سدى أو يصير هباءً
بنزغة شيطان أو هوى نفس يلوثان العمل برياء أو إرادة دنيا فانية، أو ابتداع في
الدين بما لم يأذن به الله (سبحانه) ، إن صدور هذه الأمراض ممتنع من عبد أيقن
باليوم الآخر، وأيقن بيوم الحسرة التي يتحسر فيها العبد على كل عمل لم يخلص
فيه لله (عز وجل) ، ولم يتابع فيه الرسول. وإن ذلك - والله - لكائن في يوم التناد
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] [القصص: 65] ، ويا سعد من كان
جوابه: أجبناهم بالاتباع والانقياد وعدم الابتداع، وياخيبة وخسارة من كان حاله
كما قال (تعالى) : [فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ] [القصص: 66] .
وإن مما يحافظ على شرف الغاية في الدنيا وعظم الجزاء في الآخرة: سلامة
الصدور ووحدة الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف! لأن مما يضعف أثر أهل الخير
على الناس: تفرقهم ومنابذة بعضهم لبعض، لأنهم بذلك ينشغلون بأنفسهم عن دعوة
الناس؛ كما أن الناس تضعف ثقتهم بأهل الخير إذا رأوا ما بينهم من الأحقاد
والإحن، فالله الله في دعوة الله (عز وجل) ، والله الله في العمل الصالح أن يضيع
هباءً منثوراً في يوم الفاقة والحاجة، يوم يكون العبد في أمسّ الحاجة إلى حسنة
واحدة يثقل بها ميزانه، إنه لا يمكن لمن أيقن بيوم الجزاء والحساب والوقوف بين
يدي الديان (عز وجل) أن ينفق العمر القصير في قيل وقال وأحقاد وأضغان
وافتراق على أمور يجوز الاختلاف عليها، وبقدر ما يكون من هذه الأمراض في
النفوس بقدر ما تؤخر عجلة الدعوة، ويفتح المجال للفئة المفسدة لتبث سمومها في
الناس، وتجرهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (نسأل الله السلامة) .
وإن من أخطر ما تفرزه الفرقة والاختلاف بين أهل الخير: الظلم والعدوان
والانتصار للنفس وحظوظها بتأويل، وأحياناً بدون تأويل. وينبغي لمن أيقن بيوم
الفصل، وأيقن بيوم التلاق يوم أن يلتقي الظالم بالمظلوم والجائر بالمجار عليه..
أن يحسب لهذا المقام حسابه، وألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يراعي حرمة مال
المسلم وعرضه وجميع حقوقه، قبل أن يأتي يوم القصاص [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً] ... [آل عمران: 30] .
إن اليقين باليوم الآخر وأهواله واليقين بالتبعة الفردية المذكورة في قوله
(تعالى) : [وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] [مريم: 95] ، إن ذلك كله يفرض على
الفئة المصلحة أن يكون الحق رائد كل فرد فيها، وهذا بدوره يخلّص من الحزبية
المقيتة ولوثاتها، وما فيها من التعصب للأشخاص أو الهيئات، فكل هؤلاء لا
ينفعون عند الله (عز وجل) إذا لم يكن الحق هو الرائد والموجه للجميع، وهذا يؤكد
على الفئة المصلحة والداعية إلى الخير أن تربط الناس والأتباع بالدليل الصحيح من
الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لا بآراء الرجال وعقولهم، وهذا لا يعني
التنقص من أهل العلم والدعوة وعدم تقديرهم، كلا ... فلهم التقدير والمحبة
والإجلال، ولكن فرق بين التقدير والتقديس.
بما أن من سنة الله (عز وجل) ابتلاء أوليائه بأعدائه؛ ليبلي المؤمن بلاء
حسنا، فإن مما يثبت به الله عباده المؤمنين ودعاته الصادقين أن يرزقهم الإنابة إلى
دار الخلود رجاء ثواب الله (عز وجل) ، وأن الله (تعالى) ليس بغافل عن الظالمين،
فهناك يوم القصاص الأعظم، وذكر هذا اليوم مما يصبّر به الله (سبحانه) دعاته
المصلحين، وكلما كان ذكر هذا اليوم العظيم في قلوب الدعاة أكثر، كلما كان
صبرهم وتضحيتهم أعظم وأكبر، وهذا يقود إلى مسألة أخرى، وهي: أن ينتبه
أهل الخير والإصلاح إلى دور اليوم الآخر والتذكير به دائماً في تربية النفوس
وتهذيبها، وأن يعنوا به عناية كبيرة في البرامج التعليمية والمناهج الدعوية، بل
ينبغي أن تربط جميع المناهج على اختلافها باليوم الآخر وأعمال القلوب حتى يكون
للمناهج أثرها العملي والتعبدي والأخلاقي، وينبغي ألا يلتفت إلى من يقلل من شأن
الحديث في اليوم الآخر والوعظ بأيامه وأهواله بحجة أنه كلام وعظي أو عاطفي أو
إنشائي؛ فهذا غلط كبير وتفريط عظيم في رافد عظيم من روافد التربية والتزكية.
هذا وإن كان قصد ذلك المقلل الإشارة إلى أهمية العلم والتأصيل والاستدلال
وليس هو التهوين من ذلك اليوم العظيم، إلا أنه ينبغي التنبيه على أن العلم
والتأصيل والاستدلال ينبغي أن يربط ذلك كله بتعظيم الله (عز وجل) وعبادته
والاستعداد بالعلم والعمل للدار الآخرة، وهذا لا يتأتى إلا أن يقوم أهل العلم
والتوجيه والإرشاد إلى صبغ دروسهم وحلقات تعليمهم بهذا الأمر سواء أكان العلم
في العقيدة، أو في الفقه وأصوله، أو الحديث ومصطلحه، أو السيرة والتاريخ..
إلخ.
ثانياً: الفئة المفسدة الداعية إلى الشر والصادة عن الخير:
وهؤلاء هم سفلة المجتمع، وهم أراذل الناس؛ لأنهم خانوا ربهم، وخانوا
أمتهم، وظلموها، وعرّضوا الناس للشقاء والنكد في الدنيا والعذاب الأليم في
الآخرة، وهؤلاء هم الذين عناهم الله (عز وجل) في كتابه الكريم بقوله: [وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] [الأنعام: 123] يقول الشيخ السعدي - (رحمه الله تعالى) - عند هذه الآية: ... [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا] أي: الرؤساء الذين قد كبر جرمهم،
واشتد طغيانهم [لِيَمْكُرُوا فِيهَا] بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة
الرسل وأتباعهم، بالقول والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم؛ لأنهم
يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم يناضلون هؤلاء المجرمين،
ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله، ويسلكون بذلك السبل الموصلة
إلى ذلك، ويعينهم الله، ويسدد رأيهم، ويثبت أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين
أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته، بنصرهم وظهورهم، والعاقبة للمتقين) [2]
وبهذه المناسبة أوجه الكلمات التالية لأهل هذه الفئة لعل الله (عز وجل) أن ينفعهم
بها:
أذكركم بموعظة الله (تعالى) إذ يقول: [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] ، فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه
أو مع صاحبه، ثم فكرتم فيما أنتم عليه من فساد وصد عن سبيل الله (عز وجل) .
هل أنتم مقتنعون بما تفعلون، وبما تتسببون به لأمتكم من الشرور؟ وهل هذا
يرضي الله (تعالى) ويجلب النعيم لكم في الآخرة؟ إنكم إن قمتم لله (عز وجل)
متجردين مثنى أو فرادى، وفكرتم في ذلك فإن الجواب البدهي هو أن الفساد
والإفساد لا يحبه الله (عز وجل) ، بل يمقته ويمقت أهله، وسيأتي اليوم الذي يمقت
فيه أهلُ الفساد أنفسَهم، ويتحسرون على ما فرطوا وضيعوا وأفسدوا وذلك في يوم
الحسرة، حيث لا ينفع التحسر ولا التندم.
إن الذي يكره الخير وأهله، وينشر الفساد، ويصد عن سبيل الله (تعالى) إنما
هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وما الحياة
عنده إلا هذه الدنيا، فهو يسعى ليجمع فيها ويظلم ويبطش؛ لأنه لا يرجو اليوم
الآخر ولا يخافه، فهذا كافر مرتد، وإن كان يخفي هذا الكفر فهو منافق زنديق، أو
أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، لكن الدنيا وزخرفها ومناصبها أسكرت عقله ولبه؛
فأصبح في غفلة شديدة عن الآخرة ونعيمها وعذابها حتى استمرأ الفساد، وصارت
الدنيا أكبر همه يلهث وراءها، ويجمع حطامها ولو كان عن طريق الفساد والإفساد، ومثل هذا الذي يؤمن بالآخرة ولكنه في غفلة شديدة عنها، مثل هذا لا عقل له،
كما أن الأول لا إيمان له، وقد يخسر إيمانه في النهاية، والحاصل أن تتداركوا ما
بقي من عمركم في التوبة إلى الله (عز وجل) قبل حلول الأجل، حيث لا ينفع الندم، واعتبروا بمن ذهب ممن هو على شاكلتكم بدون توبة، وماذا بقي له من الذكر في
هذه الحياة الدنيا.
قارنوا من مات من أهل الخير والصلاح كشيخ الإسلام ابن تيمية، وقبله:
الإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وبعدهم الإمام محمد بن عبد الوهاب
(رحم الله الجميع) . لقد بقي ذكرهم عند الناس كأنهم لم يموتوا، مع ما نرجوه لهم
من الأجر العظيم في الآخرة، قارنوا هؤلاء بمن مات من أهل الشر والإفساد الذين
لم يبق لهم ذكر البتة، لا.. بل بقي الذكر السيئ ولعنات الأمة تلاحقهم عند ذكرهم، مع ما يُخشى عليهم من عذاب الله (سبحانه) يوم يقوم الناس لرب العالمين، فأي
الفريقين أشرف مكانةً وأهدى سبيلاً؟
نذكركم بيوم الحسرة والندامة، يوم يتبرأ منكم الأتباع، وتتبرؤون من الأتباع، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ، بل كما قال (تعالى) :
[إذْ تَبَرَّأََ الَذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأََوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأََسْبَابُ] ... [البقرة: 166] نذكركم بالأثقال العظيمة التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا، قال (تعالى) : [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ... [النحل: 25] .
لما كان الظلم قرين الفساد والإفساد، فإنه جدير بالظالمين الذين يظلمون
الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أن يتذكروا يوم الفصل والحساب [يَوْمَ لا
يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] [غافر: 52] ليتذكر الظالمون
هذا اليوم المشهود الذي يقتص فيه الحكم العدل من الظالمين للمظلومين، ليتذكروا
هذا اليوم العظيم إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما داموا في دار الدنيا دار
التوبة والاستعتاب، فوالله إن للظالم ليوماً ينكشف فيه الغطاء ويعض فيه على يديه
من الخزي والحسرة، وإن في كتاب الله (عز وجل) لغُنية عن أي كلام وكفاية عن
أي موعظة قال (جل وعلا) : [وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ
طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] [ابراهيم: 42-43] وإن الظالمين جميعهم تابعيهم
ومتبوعيهم لهم يوم مشهود وعصيب، يوم يلعن بعضهم بعضاً، ويحيل التبعة
بعضهم على بعض، ولكن حين لا يجلب لهم ذلك إلا الخزي والبوار.
إن لم يجد واعظ الله (سبحانه) والدار الآخرة فيكم شيئاً فلا أقل من أن يوجد
عندكم بقية مروءة وحياء تمنعكم من إفساد أخلاق الأمة والوقوف في وجه المصلحين
الداعين إلى معالي الأمور والأخلاق، فالمتأمل لحال المفسدين في الأرض اليوم
ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم ... فما لهم وللمرأة الحيية التي تقر في منزلها،
توفر السكن لزوجها وترعى أولادها، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن
الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها وطبيعتها، ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد
المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال الكريمة؟ ماذا يريدون من إفسادهم
وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم؟ هل يريدون ... جيلاً منحلاّ يكون وبالاً
على مجتمعه، ذليلاً لأعدائه، عبداً لشهواته؟ ! إن تلك هي النتيجة، وإن من
يسعى إلى تلك النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها أكثر الأسر المسلمة اليوم، لهو من
أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه، فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من
الهبوط والانتكاس: توبوا إلى ربكم، وفكروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أن
وراءكم أنباء عظيمة، وأهوالاً جسيمة تشيب لها الولدان، وتشخص فيها الأبصار،
فإن كنتم تؤمنون بهذه: فاستيقظوا من غفلتكم وراجعوا أنفسكم، والله (جل وعلا)
يغفر الذنوب جميعاً، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فراجعوا دينكم، وادخلوا في السلم
كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون.
نذكّر المنافقين من هذه الفئة بأن الله (سبحانه) يعلم سرهم ونجواهم، ويعرّف
المؤمنين بسيماهم مهما أظهروا الإسلام في الدنيا، وفي الآخرة يخزيهم ويفضحهم
بين الأشهاد [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ] [الحاقة: 18] فتوبوا إلى الله
علام الغيوب ما دمتم في زمن التوبة، وصححوا بواطنكم قبل أن يبعثر ما في
القبور، ويحصل ما في الصدور.
ثالثاً: فئة الأتباع وعامة الناس:
وهم الذين لم يصلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة، ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة الخائنة.
وإنما هم فئة بين الفئتين ولديهم الاستعداد للخير الذي تدعو إليه الأولى، كما
أن لديهم الاستعداد لتلقي الشر والإفساد الذي تسعى إليه الفئة الثانية [3] ، وهذا يؤكد
أهمية الدعوة، وقطع الطريق على الفئة المفسدة؛ حتى لا ينحرف الناس عن
الصراط المستقيم. والملاحظ في هذه الفئة أنها السواد الأعظم، بينما يغلب على
الفئة الأولى والثانية أنهما قلة، والدفع بين الفئة المصلحة والمفسدة من سنن الله
(عز وجل) حيث الصراع بين الحق والباطل، قال (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] ... [البقرة: 251] .
وإلى هذه الفئة من الناس أتوجه بهذه الكلمات:
* إن تذكر اليوم الآخر ومشاهده العظيمة من أهم الأسباب التي تقي من شر
المفسدين المستكبرين في الدنيا وفي يوم التناد ويوم تخاصم أهل النار، فإذا أيقن
العبد بهذه المشاهد وأن الله (سبحانه) ينادي عباده [مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] عندئذ
يحذر العبد أن يتبع كل ناعق ملبس، وإنما يتبع المرسلين وأتباعهم، كما أن
تخاصم أهل النار وما فيه من تبرؤ المتبوعين من الأتباع يجعل العبد يحسب لهذا
المشهد حسابه، حتى لا يعض على يديه حسرة وندامة، وهذا الشعور المخيف
يجعل الإنسان في حذر من أهل الشر والإفساد الذين يزينون له الباطل في الدنيا،
ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ التابع من المتبوع والمتبوع من التابع، فكفى
بتذكر تلك المشاهد العظيمة واعظاً ورادعاً لكل من يحب لنفسه الخير حتى يحذر من
أهل الشر والفساد، ويلتصق بأهل الخير والإصلاح الذين يسعون لإنقاذ الناس بإذن
ربهم (سبحانه) من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، ويعض عليهم ويبذل لهم المودة
والنصرة والدعاء، حيث إنهم أرحم الخلق بالخلق، وهم صمام الأمان لمجتمعاتهم،
فجدير بمن هذه صفاته أن يُحَبّ ويُوالى وينصر.
لقد أنعم الله (سبحانه) على عباده بالعقول وإرسال الرسل وإنزال الكتب حتى
تَبْيّنَ الرشد من الغي، ولن ينفع التابعين الذين أعطوا قيادهم لدعاة الشر وألغوا
عقولهم، لن ينفعهم يوم القيامة إلقاء التبعة على المتبوعين من المفسدين، ولقد
قامت حجة الله (سبحانه) على عباده ... نعم لن يجدي عن الأتباع الذين فتحوا
أفكارهم وبيوتهم لأهل الشر ليفسدوا فيها ويمكروا فيها إذا قامت الخصومات بين
يدي الحكم العدل، إنهم بذلك يتحولون إلى فئة المفسدين، شعروا أم لم يشعروا.
وأخيراً لنسمع إلى تحذير الله (عز وجل) لعباده من طاعة الشيطان وحزبه
وبراءته من أتباعه يوم القيامة، قال (تعالى) : [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ
إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [إبراهيم: 22] .