دراسات شرعية
ضوابط الضرورة.. في الشريعة الإسلامية
بقلم: د. عبد الله التهامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد ... فإن لموضوع
الضرورة أهمية بالغة جدًّا؛ إذ كثر غلط الناس في تلك المسألة، وذلك من عدة
جهات:
أولاً: من جهة تنزيلها؛ فقد تساهل كثير من الناس في ارتكاب محرمات
ومحظورات شرعية بحجة أن ذلك من قبيل الضرورة الشرعية، مرددين:
(الضرورات تبيح المحظورات) .
ثانياً: من جهة ضبط هذه الحالة بضوابطها الشرعية؛ فلئن صدق على بعض
الحالات أنها من باب الضرورة إلا أن كثيراً من أهل الضرورات تجاوزوا حد
الضرورة، وتوسعوا في استباحة المحرمات وفعل المحظورات.
وثالثاً: من جهة الرضا بالواقع، فقد استسلم معظم الناس إلى نعمة الترخص، ورغبوا في استبقاء هذه النعمة وعدم زوالها، مع أن مسألة الترخص تعتبر من
الأمور العارضة والقضايا الطارئة، إلا أنها صارت في كثير من الأحيان عند بعض
الناس ذريعة إلى التخلص والتفلت من الالتزام بقيود هذه الشريعة، والأخذ بعزائم
أحكامها.
ومن الأمثلة على ذلك: التساهل في ممارسة بعض أنواع المعاملات المالية
المحرمة، واستقدام من لا يجوز استقدامه من الأيدي العاملة وغيرها، والسفر إلى
مواطن الفتنة وأماكن الرذيلة والفساد، ودخول المرأة بلا محرم على الطبيب
بصورة مألوفة معتادة، والخلوة المحرمة بين الرجال والنساء، والكذب في الحديث.
هذه صور من الواقع تشهد بتفريط كبير وإهمال غير يسير في مناحٍ شتى من
حياة الأمة، وهو انحراف واضح عن جادة السبيل.
ثم: إن أهل الزيغ والهوى كثيراً ما يتعلقون بستار الضرورة في تحقيق
مآربهم ونيل أغراضهم، فيحمّلون هذه الشريعة باطل صنيعهم وسوء مكرهم، بل
وربما ينسلخون من الدين كله باسم الضرورة أو الحكمة أو المصلحة.
تلك بعض الأسباب الداعية إلى بيان معنى الضرورة، وتحديد ضوابطها في
هذه الشريعة، وقد جعلت الكلام مرتّباً في ست مسائل:
1- تعريف الضرورة لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين الحاجة.
2- مدخل لفهم الضرورة الشرعية.
3- أقسام الضرورة الشرعية.
4- حكم العمل بالضرورة الشرعية.
5- ضوابط الضرورة الشرعية.
6- ضوابط العمل بالضرورة الشرعية.
المسألة الأولى: تعريف الضرورة لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين الحاجة:
1- الضرورة في اللغة [1] : الحاجة والشدة لا مدفع لها، والمشقة، والجمع: ضرورات، وهي اسم لمصدر الاضطرار.
والاضطرار: الاحتياج إلى الشيء، واضطره إليه: أحوجه وألجأه فاضطر.
وأصل مادة (ضر) خلاف النفع.
2- الضرورة في الاصطلاح:
أ - عند العروضيين في الشعر، تطلق الضرورة على الحالة الداعية إلى أن
يرتكب فيها ما لا يرتكب في النثر [2] .
ب- عند أهل الكلام: هي ما لا يفتقر إلى نظر واستدلال، حيث تعلمه العامة؛ يقال: هذا معلوم بالضرورة، أي: بالبديهة [3] .
ج- عند أهل الشريعة من الفقهاء والأصوليين:
المراد بحالة الضرورة عند علماء الشريعة في مثل قولهم: يجوز كذا عند
الضرورة أو لأجل الضرورة: تلك الحالة التي يتعرض فيها الإنسان إلى الخطر في
دينه أو نفسه أو عقله أو عرضه أو ماله فيلجأ (لكي يخلص نفسه من هذا الخطر)
إلى مخالفة الدليل الشرعي الثابت [4] ، وذلك كمن يغص بلقمة طعام، ولا يجد
سوى كأس من الخمر يزيل هذه الغصة.
وقد تواترت الأدلة على أن هذه الشريعة جاءت لحفظ الضروريّات الخمس:
الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
والمراد بالضروريّات: الأمور التي لا بد من المحافظة عليها حتى تستقيم
مصالح الدنيا والآخرة على نهج صحيح دون اختلال، وإنما يكون ذلك بالمحافظة
على هذه الأمور الخمسة، لذا تسمى الضرورات (أو الضروريّات) الخمس،
وتسمى بالكليات الخمس أيضاً؛ لكونها جامعة لجميع الأحكام والتكاليف الشرعية،
فهي كلية تندرج تحتها جميع جزئيات الشريعة، وتسمى أيضاً بمقاصد الشرعية؛
لما ثبت بالاستقراء التام لهذه الشريعة دقيقها وجليلها: كون المحافظة على هذه
الأمور الخمسة أمراً مقصوداً للشارع [5] .
لذلك: صح عند العلماء جعل المحافظة على الأمر الضروري أصلاً ثابتاً لا
يتغير أبداً، وأساساً قائماً لا يتعرض للخدش بوجه من الوجوه، وتسمى المحافظة
على هذا الأمر الضروري حالة ضرورة إن ترتبت عليه مخالفة لحكم شرعي ثابت.
وقد يقول قائل: ألا يعد العمل بالضرورة نقضاً وهدماً لأدلة الشرع؛ إذ فيه
مخالفة واضحة للدليل الشرعي الثابت؟ فالجواب: إن العمل بالضرورة وفق
ضوابطها الشرعية لا يعد هدماً لأدلة الشرع، بل هو عمل بالدليل الشرعي، إذ
الضرورة ثابتة به، ثم إن العمل بالضرورة مقيد بضوابط تحفظ مقاصد الشريعة
وتحققها، فالعمل بالضرورة مشروع في حدود مقاصد الشرع ومراميه النبيلة.
بل إن العمل بالضرورة من الأمور التي تؤكد شمول هذه الشريعة لشتى
الوقائع والحوادث، وتقرر صلاحها لكل زمان ومكان، ومواكبتها للأحوال
والمتغيرات، كما أن في العمل بالضرورة تيسيراً ورحمة بالعباد ورعاية لمصالحهم، ودرءاً للمفاسد عنهم.
2- الفرق بين الضرورة والحاجة [6] :
الضرورة حالة تستدعي إنقاذاً، أما الحاجة فهي حالة تستدعي تيسيراً وتسهيلاً، فهي مرتبة دون الضرورة؛ إذ يترتب على الضرورة ضرر عظيم في إحدى
الكليات الخمس، ويترتب على الحاجة مشقة وحرج، لكنه دون الضرر المترتب
على الضرورة، وقد تنزل الحاجة منزلة الضرورة: فيما إذا ورد نص بذلك أو
تعامل أو كان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به؛ كتجويز الإجارة وعقد ...
الاستصناع، وأجرة الحمام.
المسألة الثانية: مدخل لفهم الضرورة الشرعية:
في هذا المدخل ذكر لبعض القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالضرورة،
ولا بد عند ذكر هذه القواعد من ربطها بموضوع الضرورة كثمرة لهذا المدخل.
1- قاعدة المشقة تجلب التيسير [7] :
معنى هذه القاعدة: أن الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها جاءت بما يقع
تحت قدرة المكلف وإن ترتب على فعله مشقة كالجهاد والصوم والحج، وقد تخرج
المشقة على وجه الاعتياد فتسبب حرجاً كبيراً لسبب من الأسباب؛ فها هنا تصبح
هذه المشقة سبباً للتيسير والتخفيف، والتخفيفات في الشرع على نوعين:
أ - نوع شرع من أصله للتيسير، وهو عموم التكاليف الشرعية في الأحوال
العادية.
ب - نوع شرع لما يوجد من الأعذار والعوارض، وهو المسمى بالرخصة،
وهو المقصود بقاعدة " المشقة تجلب التيسير" فالقاعدة إذن مجالها: الرخص
والعوارض، والضرورات؛ كأكل الميتة.
وعلى هذا: فالضرورة من المشقة التي تجلب التيسير والتخفيف.
2- قاعدة الرخص:
الرخصة في الشريعة هي: (الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر) [8] .
وتنقسم الرخصة باعتبار سببها إلى أقسام [9] منها:
أ - رخصة بسبب السفر.
ب - رخصة بسبب المرض.
ج - رخصة بسبب الاضطرار، فالضرورة إذن من أسباب الترخص.
3- قاعدة الاستحسان:
الاستحسان في الشرع: (العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها
إلى خلافه لوجه هو أقوى منه) [10] فهو إذن: قطع المسألة عن نظائرها على
عكس القياس الذي هو إلحاق المسألة نظائرها، وهذا الوجه القوي الذي أوجب قطع
المسألة عن نظائرها قد يكون نصًّا أو إجماعاً أو قياساً خفيًّا أو ضرورة، فيعمل
بالدليل الأقوى وهو أمر مستحسن، ولهذا سمي استحساناً [11] ، وذلك مثل النظر
إلى الأجنبية: لا يجوز لأحد أبداً لكنه جاز للطبيب ضرورة، فالاستحسان قد يستند
إلى النص أو الإجماع أو الضرورة، فالضرورة إذن تصلح مستنداً للاستحسان.
4- قاعدة المصالح المرسلة [12] :
المصلحة عموماً قد تكون شرعية إن جاء بطلبها دليل خاص من الشرع، وقد
تكون ملغاة إن جاءت على خلاف نصوص الشريعة ومقاصدها، وقد تخلو عن
الدليل الطالب والمانع فتكون مرسلة.
وتنقسم المصلحة المرسلة باعتبار قوتها إلى ثلاثة أقسام:
فأقواها المصلحة الضرورية، ثم الحاجية، ثم التحسينية.
والمراد بالمصلحة المرسلة الضرورية: المحافظة على الأمور الضرورية
التي لم يدل على اعتبارها دليل خاص، وهذه المحافظة بينة ظاهرة في حالة كون
الضرورة ثابتة بطريق الاجتهاد، فالضرورة إذن قد تكون من قبيل المصالح
المرسلة.
5- قاعدة الضرر يزال [13] :
هذه القاعدة من القواعد الفقهية الكبرى، وهي تشمل أصلين مهمين:
أ - النهي عن إيقاع الضرر ابتداءً، باتباع شتى وسائل الوقاية والحماية لئلا
يقع الضرر.
ب - وجوب رفع الضرر إن وقع باتباع أفضل السبل العلاجية.
وقول الرسول: (لا ضرر ولا ضرار) [14] يشمل هذين الأصلين، وفي
الأخذ بالضرورة تحقيق لهذه القاعدة.
وخلاصة ما تقدم أن يقال: إن وقوع الضرورة لون من ألوان المشقة التي
تستدعي تيسيراً وتسهيلاً في هذا الدين، وذلك أيضاً سبب من أسباب الترخص،
فتدخل الضرورة لذلك في باب الرخص، وبالنظر في الدليل المحرّم نجد أن
الضرورة حالة استثناء توجب العدول عن العمل وفق هذا الدليل، وهذا هو
الاستحسان، وإذا نظرنا إلى جدوى العمل بالضرورة أدركنا أنها ولا شك تحقق
مصلحة راجحة، فهي داخلة في باب المصالح، كما أنها تدرأ ضرراً ومفسدة، فهي
بهذا تندرج تحت قاعدة (الضرر يزال) .
المسألة الثالثة: أقسام الضرورة:
تنقسم الضرورة باعتبارات متعددة إلى أقسام كثيرة، وذلك على النحو الآتي:
أ - أقسام الضرورة باعتبار متعلقها:
1- ضرورة تتعلق بحفظ الدين، مثل: قتل الشيوخ والنساء والأطفال في
الجهاد إذا تحصن بهم العدو، حفظاً للدين.
2- ضرورة تتعلق بحفظ النفس، مثل: أكل الميتة حفظاً للنفس.
3- ضرورة تتعلق بحفظ العقل، مثل: أكل الميتة؛ حفظاً للعقل.
4- ضرورة تتعلق بحفظ النسل، مثل: دفع المال للعدو الكافر؛ حفظاً
لعرض امرأة مسلمة.
5- ضرورة تتعلق بحفظ المال، مثل: إفساد قليل المال حفظاً لأكثره.
ب - أقسام الضرورة باعتبار الشمول:
1- ضرورة عامة: كوقوع الأُمّة في قحط عميم.
2- ضرورة خاصة: كوقوع رجل في مخمصة.
ج - أقسام الضرورة باعتبار الدليل الدال عليها:
1- ضرورة أثبتها النص: كالأكل من الميتة للمضطر [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [المائدة: 3] .
2- ضرورة تثبت بالاجتهاد: كما في باب المصالح المرسلة إن كانت
ضرورية.
المسألة الرابعة: حكم العمل بالضرورة الشرعية:
وفي هذه المسألة ثلاثة أمور:
أولاً: الأدلة على مشروعية العمل بالضرورة من حيث الجملة:
1- من القرآن: [إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة:
173] [وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاًكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إلَيْه] [الأنعام: 119] .
2- من السنة: عن أبي واقد الليثي قال: قلت يا رسول الله: إنا بأرض
تصيبنا مخمصة فما يحل لنا من الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم
تحتفئوا بها بقلاً، فشأنكم بها [15] .
3- الأدلة الكثيرة والشواهد المتعاضدة الدالة على أن هذه الشريعة مبنية على
التيسير والتخفيف [16] مثل: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج: 78] [يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ
ضَعِيفاً] [النساء: 28] [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [البقرة: 185] (بعثت بالحنيفية
السمحة) [17] .
4- الأدلة الكثيرة والشواهد المتعددة الدالة على رعاية هذه الشريعة لمصالح
العباد من جهة ودرء المفاسد عنهم من جهة أخرى [18] .
ثانياً: حكم العمل بالضرورة الشرعية:
العمل بالضرورة الشرعية واجب وليس جائزاً، والدليل على ذلك:
1- قاعدة الواجب لا يترك إلا لواجب [19] : - مثل قطع اليد فإنه محرم،
وحفظ هذا العضو من الإنسان أمر واجب، لكن هذا الواجب يترك عند السرقة،
فتقطع اليد، ولو لم يكن القطع واجباً بالنسبة للسارق لكان هذا الفعل حراماً، فتُرك
الواجب وهو حفظ العضو لواجب أهم منه وهو إقامة حدود الله.
2- قاعدة للوسائل حكم المقاصد: [20] فأكل الميتة للمضطر واجب، لأن
حفظ النفس واجب، وهو لا يتم إلا بوسيلة، هي الأكل من الميتة، وهذه هي قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
ومن الخطأ أن يقال: إن هذا الفعل يجوز للضرورة [21] ، بل الصحيح أن يقال: يجب أن يشرع عند الضرورة.
أما قول العلماء (الضرورات تبيح المحظورات) ، فهو بالنظر إلى أثر الضرورة في تغيير حكم الفعل ونقله من الحظر والمنع إلى الإذن والإباحة، وأما الأخذ بالضرورة فإنه واجب.
ولعل هذا يتضح إذا علمنا أن للضرورة أحوالاً، وإليك بيان ذلك:
ثالثاً: أحوال الضرورة باعتبار تغييرها لحكم الفعل [22] :
1- ما يفيد إباحة المرخص به حال قيام الضرورة، فالفعل ها هنا يصبح
مباحاً، بل واجباً كالاضطرار لأكل الميتة.
2- ما يفيد جواز الإقدام على المرخص به حال الضرورة، مع بقاء الحرمة،
كإجراء كلمة الكفر على اللسان.
3- ما لا يباح أصلاً ولو للضرورة كقتل المسلم، وذلك فيما إذا كان الفعل
منهيًّا عنه لذاته.
المسألة الخامسة: ضوابط الضرورة الشرعية:
هناك شروط وقيود لا بد من حصولها في حالةٍ ما؛ ليسوغ تسميتها ضرورة
شرعية، ولا يمكن أن تكون تلك الحالة ضرورة شرعية مع تخلف شيء من هذه
الضوابط، وإليك بيان هذه الضوابط مع الاستدلال لها:
1- قيام الدليل المحرّم ورجحان العمل به: كأكل الميتة؛ فإن الدليل على
تحريم الميتة قائم، والعمل به راجح؛ فلا يجوز أكل الميتة، إلا أنه جاز للمضطر
مخالفة هذا الدليل والعمل على خلافه، ويحترز بذلك عما إذا كان الدليل مبيحاً أو
موجباً، كمن يضطر، لكنه يجد شيئاً من الماء يسد به رمقه، فلا ضرورة ها هنا،
لعدم وجود المخالفة المترتبة على قيام الدليل المحرّم [23] .
ومن هنا: عُلِمَ أن حالة الضرورة مبنية على مخالفة ما يعتقد رجحان تحريمه، كمن يرى حرمة اللحوم المستوردة، فإن أكله منها لإنقاذ نفسه من الموت يعتبر ضرورة، وليس من الضرورة بالنسبة لمن يرى جواز تناول هذه اللحوم.
2- أن يترتب على الامتثال للدليل الراجح المحرّم ضرر متعلق بإحدى
الكليات الخمس: كأن تتعرض نفسه للهلاك إن لم يأكل من الميتة ويحترز بهذا عن
انتفاء الضرر: كأن يوجد الدليل المحرّم لكنه لا يضطر إلى مخالفته بأكل الميتة،
فيما إذا كان في الأحوال العادية، فلا ضرورة ها هنا؛ لعدم الحاجة الشديدة إلى
المخالفة؛ إذ إن الضرر لا وجود له.
ووجه هذا الضابط ودليله: القاعدة المعروفة (الضرر يزال) فلتراجع مع
أدلتها.
3- أن يكون حصول الضرر أمراً قاطعاً أو ظنًّا غالباً، ولا يلتفت إلى الوهم
والظن البعيد، كأن يكون المضطر في حالة تسمح له بانتظار الطعام الحلال الطيب، فلا يقدم على تناول الميتة والحالة كذلك حتى يجزم بوقوع الضرر على نفسه
فيجوز حينها تناول الميتة، ودليل ذلك: ما علم في الشريعة من أن الأحكام تناط
باليقين، والظنون الغالبة، وأنه لا التفات فيها إلى الأوهام، والظنون المرجوحة البعيدة [24] ، وقد تقدم في حديث أبي واقد قوله: (إذا لم تصطبحوا ... ) ما يدل بوضوح على أن الإقدام على المخالفة لا يتم إلا بعد التيقن والجزم بحصول الضرر.
4- ألاّ يمكن دفع هذا الضرر إلا بالمخالفة وعدم الامتثال للدليل المحرّم، فإن
أمكن المضطر أن يدفع هذا الضرر بأمرين أحدهما جائز والآخر ممنوع، حرم عليه
ارتكاب المخالفة للدليل المحرم، ووجب عليه دفع الضرر بالأمر الجائز، كأن
يغص بلقمة وأمامه كأسان من الماء والخمر، ووجه هذا القيد ما ورد في ذلك من
قواعد مثل: (إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق) (الضرر يدفع قدر الإمكان)
لتراجع مع أدلتها.
5- ألا يعارض هذه الضرورة عند ارتكابها ما هو أعظم منها أو مثلها، كأن
يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ووجه ذلك ما ورد من قواعد مثل: (الضرر لا
يزال بمثله) و (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) و (يرتكب أخف
الضررين لدفع أعظمهما) و (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
وكذلك: فإن الضرورة تسقط ولا يلتفت إليها إن ترتب على الأخذ بها إخلال
بمبادئ الدين ومقاصد الشريعة: كقتل المسلم، والزنا، فهذه لا ضرورة تحلها؛ لأن
تحريمها جاء على سبيل القصد والتعيين، لا على سبيل الذريعة والتكميل، كتحريم
النظر إلى الأجنبية، فإنه ذريعة للزنا؛ لذلك: يترك العمل به عند الضرورة [25] ، ووجه ذلك قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصانها ... عنها) [26] .
من يقدر الضرورة؟
إذا كانت الضرورة عامة للأمة أو لكثير منها فإن تطبيقها على الوقائع
وتنزيلها على الحوادث لا يتأتى إلا ممن له علم بالواقع، وعنده تمام الدراية
بملابسات الأمور وأبعادها؛ ذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ويكفي
أولي العلم قولُ من يوثق بدينه وعلمه من أهل المعرفة في كل واقعة.
أما إن كانت الضرورة خاصة بإنسان ما: فإن تطبيقها يختص به كمن؛ وقع
في مفازة ووجد ميتة. والواجب على الجميع تقوى الله قدر المستطاع والتثبت من
الأحوال والوقائع، ثم الأخذ بهذه الضرورة وفق ضوابطها وقيودها المذكورة دون
بغي ولا اعتداء، كما قال سبحانه: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة: 173] .
وصفوة هذه الضوابط مجموعة في الأسئلة التالية:
1- هل الدليل المحرّم قائم ومتجه والعمل به راجح؟ ... إن كان الجواب:
نعم ...
2- فهل يترتب على الامتثال بهذا الدليل ضرر يتعلق بالكليات الخمس؟ ..
إن كان الجواب نعم ...
3- فهل حصول هذا الضرر محقق مقطوع به أو ظن غالب؟ .. إن كان
الجواب: أنه كذلك مقطوع به أو ظن غالب وليس وهماً ولا ظنًّا بعيداً ...
4- فهل يمكن دفع هذا الضرر المؤكد بطريق آخر دون حصول مخالفة للدليل
المحرّم؟ .. إن كان الجواب: أن ذلك لا يمكن إلا بمخالفة الدليل المحرّم ...
5- فهل يترتب على مخالفة الدليل المحرّم عند العمل بالضرورة حصول
ضرر أكبر أو مماثل؟ إذ لا يصح العمل بالضرورة فيما لا يباح الترخص فيه،
وذلك إذا كان الفعل منهياً عنه لذاته، ثم إن العمل بالضرورة لا بد فيه من مراعاة ما
يأتي في ضوابط العمل بالضرورة:
المسألة السادسة: ضوابط العمل بالضرورة الشرعية:
إذا اجتمعت الضوابط السابقة في حالة ما، صح أن تعد هذه الحالة ضرورة
شرعية يؤخذ بها ويستند إليها، لكن العمل بالضرورة مع كونه واجباً لا بد فيه من
ضابطين، هذا بيانهما:
الضابط الأول: أن تقدر هذه الضرورة بقدرها، من حيث الزمان والمكان
والكم والكيف، فلا بد من تحديد المقدار الذي يدفع الضرر ويحقق المصلحة، إذ
تجويز الأخذ بالضرورة مقصور على هذا المقدار، وما زاد على ذلك يبقى في حيز
التحريم، فلا يأكل المضطر من الميتة إلا بالقدر الذي يسد رمقه، وما زاد فهو
حرام [27] .
الضابط الثاني: أن العمل بالضرورة مرتبط بقيام الضرر وتوقعه، فإن زال
فلا ضرورة؛ لأن الأخذ بالضرورة استثناء وبدل كالتيمم لا يجوز مع وجود الماء؛
إذ الماء أصل والتيمم بدل، والعمل بالبدل لا يجوز مع وجود الأصل، فبمجرد
زوال العذر وارتفاع الضرر أو اختلال أحد الضوابط يبطل العمل بالضرورة،
ووجه هذا الضابط: القاعدة التي تقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله) [28] .
ومن هنا يتبين وجوب السعي الجاد لإزالة هذه الضرورة وبذل الجهد في سبيل
رفعها، وإنما يكون ذلك بالأخذ بأسباب النجاة والاحتياط في مواجهة الأزمات قبل
وقوع الخطر بتوقعه واتقائه قدر الإمكان، وعند وقوعه بمقاومته ومحاولة رفعه أو
تخفيف ضرره ومفاسده، وعدم الركون له والاستسلام والخنوع، وبعد وقوعه بمنع
تَكْرَارِه، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.
إن القيام بفروض الكفاية المعطلة في هذه الأمة كفيل برفع حالات الاضطرار
التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، كواجب إعداد القوة، وإيجاد الهيبة، ودفع
الباغي، وسد الخلة، ونصر المظلوم، وكفالة الفقير، وإعالة العاجز، وتعليم
الجاهل، وقصر الآثم.
اللهم هيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، واهدها إليك صراطاً قيّما مستقيماً،
وصلّ الله على خير البرية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.