دراسة نقدية
الإسلامية عند نجيب الكيلاني..
(رأس الشيطان) نموذجاً
بقلم:إبراهيم بن منصور التركي
تورط أحد الباحثين فألف كتاباً بعنوان: (الإسلامية والروحية في أدب نجيب
محفوظ) [1] ، وذهب إلى أن محفوظ كاتبٌ أَلْهبَ رواياته بالحديث عن القيم
الإسلامية والروحية! ! ! ولا يخفى ما في هذا الفهم من سذاجة، كان أول من
استغربها واستنكرها الروائي (نجيب محفوظ) نفسه. على أن كاتباً آخر كان أكثر
حذقاً وبراعة وقدرة على التشقيق والتمحل وهو يستعرض موقف (نجيب محفوظ)
من الدين في كتابه (الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية) [2] ، حتى كان (محفوظ)
أول المصفّقين لهذا الفهم الدقيق الذي توصّل إليه هذا الباحث! ! ، إذ إنه يبرّئ في
ذلك الكتاب ساحة (نجيب محفوظ) من الاستخفاف بالرسالة السماوية، ليجعله داعية
إلى نبذ التصادم بين الدين والعلم، ومطالباً بتعاونهما في سبيل انتشال الواقع من
وهدته.
لا أريد بعنوان هذا المقال أن أتورّط كما تورط الكاتبان السابقان في التبرئة أو
التجريم؛ لذا: فإن ما تطمح إليه هذه الورقات هو تفكيك واحدة من روايات
(الكيلاني) إلى عناصرها الموضوعية، وبيان الكيفية التي تناول بها (الكيلاني) كلّ
عنصر، ومقارنة ذلك بما تقتضيه أصول الحسّ الإسلامي.
وقد كان الاختيار عشوائياً لواحدة من رواياته التي لم يسبق لي قراءتها وهي رواية: (رأس الشيطان) [3] وهذا يعني أن ما سيقال هنا لا يمكن أن يعمم على كل رواياته، بل هو خاص بهذه الرواية فقط؛ وذلك حتى لا يُظلم الرجل ويكون الحكم أكثر دقة وموضوعية وإنصافاً لهذا العَلَم الذي كان واحداً من المتحمسين للطرح الإسلامي في الأدب.
أولاً: فكرة الرواية:
من الصعب جدًّا تلخيص عمل روائي في بضعة أسطر، ولذا: لا يمكن هنا
إلا تسجيل الخط العريض الذي سارت فيه الرواية، فهي تتحدث عن كفاح الشعب
المصري أيام الوجود الإنجليزي، كما تشير إلى الفساد الإداري في الحكومة
المصرية آنذاك، فتُصوّر حالة وزير المواصلات (عثمان باشا) يوالي الإنجليز،
كما يعبث بإحدى القرى الصغيرة التي له فيها مزارع وبساتين، حتى يضطر أهل
القرية إزاء تعسف وظلم ناظر مزرعته إلى إحراقها وقتل ناظرها.
تسهم جريدة (النهضة العربية) بقيادة نائب رئيس تحريرها (ضياء الدين)
بالوقوف مع الفلاحين والكفاح ضد الوجود الأجنبي وأذنابه، وتتطور الأحداث حتى
يتم إقفال الجريدة واعتقال محرريها، كما تتشوه سمعة وزير المواصلات فيُعزل من
منصبه، ثم يصاب بشلل نصفي بعدما وجد نفسه مجرداً من كل شيء: المنصب،
والزوجة، والأبناء، وتنتهي الرواية بالإفراج عن المسجونين.
لا شك أن هذا الاختصار قد غيّب كثيراً من معالم الرواية، ولعل الاستعراض
الجزئي لبعض عناصرها يكشف عن أجزاء أخر من الرواية لم يمكن تناولها فيما
سبق. لكن يهم هنا النظر إلى لب الفكرة التي تقوم عليها الرواية، والنظر في مدى
إسلامية هذه الفكرة ...
من الصعب جدًّا القولُ بأن رفض الوجود الأجنبي وعملائه في أي قطر هو
فكرة إسلامية دون النظر في أسباب الرفض؛ فهي فكرة قد تكون وطنية، وقد تكون
قومية، فيستوي فيها المسلمون وغير المسلمين؛ فالدعوة إلى نبذ التدخل الأجنبي
في شؤون أي بلد، والدعوة إلى حكم وطني ذاتي: إنما هي من الدعوات التي
تطالب بها كل الشعوب مسلمها وكافرها، وبذا يمكن القول بأن هذه الفكرة التي
حوتها الرواية ليست فكرة إسلامية صرفة، بل هي فكرة ملتزمة بالمعني النقدي
للالتزام، وليس كل ملتزم إسلاميًّا. وقد كان يمكن للكيلاني أن (يؤسلم) هذه الأفكار
بتحوير بسيط، ولكن بالصورة التي جاءت عليها الرواية فما كتبه الكيلاني يمثل
أدباً ملتزماً لا أكثر.
2- الشخصيات الإسلامية:
لا يظهر في الرواية غير شخصية إسلامية واحدة، وهو أحد مشايخ القرية هو
(الشيخ الشاذلي) ، وهو أحد المتصوفة الذي يتحولق حوله رجال القرية، فيؤدون
الابتهالات والأناشيد الصوفية، وتبدو الشخصيات الإسلامية في غالب روايات
الكيلاني على هذه الشاكلة، فغالبهم متصوفة ومن شيوخ الطريقة.
هذه الصورة للشخصية الإسلامية عند الكيلاني لا تكاد تختلف عنها في
روايات نجيب محفوظ، مع فارق يسير وجوهري، وهو أنها في روايات محفوظ
تأتي شخصيات سلبية منعزلة عن واقع الناس ومشاكلهم، أما هي عند الكيلاني كما
في هذه الرواية فذات حضور فاعل، إذ تلتقي حولها الأفئدة، وتجتمع بها الكلمة،
وتصبح ذات مركز قيادي يخوّلها توجيه الناس وحفز هممهم، ولذا: لما أراد عثمان
باشا (وزير المواصلات) امتصاص غضب أهل القرية لم يجد من يعتذر إليه سوى
(الشيخ الشاذلي) ، الذي سيصفح عن أخطاء ناظر عزبته، ويطلب من أهل القرية
إعادة المياه لمجاريها.
ولئن كان إعطاء الشخصية الإسلامية هذا الدور الريادي أمراً يستحق الإشارة، فإن جعلها ذات مظهر صوفي يقوم على الأناشيد والابتهالات وجمع الناس حولها،
أمر يستحق العتَبَ؛ فالإسلام ليس ترانيم وأناشيد وطقوساً غنائية، كما أن كَوْن هذه
الشخصية الإسلامية بعيدة عن نبض الحياة اليومي، بزهدها الزائد والمبالغ فيه،
وبعدها عن الحاجات اليومية للإنسان، هذه الصورة، وإن كانت في ذاتها ليست مما
يرفض، لكن حصْر الشخصية الإسلامية في هذا المظهر أمر يسلُب الشخصية
الإسلامية امتدادها المفترض، حيث يمكن للشخصية الإسلامية أن توجد في أي
مكان وأي عمل، مع احتفاظها بكامل مبادئها وقيمها الإسلامية النبيلة، وهو ما لم
يظهر مع الأسف في هذه الرواية.
3- الأبطال:
في هذه الرواية برز بطلان اثنان، وهما نائب رئيس تحرير الجريدة (ضياء
الدين) ، وإحدى المحررات وهي (صفاء) . ولا بد من التوقف مع الدور البطولي
لهاتين الشخصيتين: فأما (ضياء) فهو أحد الناقمين على الوضع السيء الذي تعجّ به
البلاد، ولذا: فهو يكتب مقالاته الغاضبة على هذا الوضع، إما بشكل علني أو
بشكل غير مباشر، وهو كما تخبر الرواية عضو في تنظيم يسعى إلى محاربة
الوجود الإنجليزي في البلد، والقيام بأعمال لزعزعة ذلك الوجود، ونظراً لثقته
بالمحررة (صفاء) فقد دعاها لتكون عضواً في ذلك التنظيم؛ لحاجتهم إلى العنصر
النسائي في بعض الأعمال، ولأن دور (ضياء) لا يقتصر على محاربة الوجود
الإنجليزي فحسب، بل وعملائه كذلك؛ فقد ظلّ على خلافٍ دائم مع الوزير
(عثمان باشا) ؛ للفساد والتلاعب بحقوق المواطنين وتقديم المصالح الشخصية
أولاً، ولأن الوزير ثانياً عضو في حكومة لا تكتسب شرعيتها من مواطنيها،
بل من المندوب السامي الإنجليزي.
ويمكن إدراك بقية الأعمال التي يقوم بها الأستاذ (ضياء) بتسليط الضوء على
طبيعة الدور الذي طلب من (صفاء) القيام به، فهو يعطيها قنبلة، ويطلب منها أن
تدخل بها إلى إحدى أماكن تجمعات الجنود الإنجليز، فتتركها وتذهب، ثم تنفجر
القنبلة ليذهب من ضحاياها مجموعة من الجنود والضباط الإنجليز، كما أنه يطلب
منها أن تأخذ كامل زينتها لتحاول إغراء أحد الجنود الإنجليز واستدراجه إلى
الشاطئ، ومن ثم: يقدم رفاقها ليغرقوا هذا الجندي في مياه البحر.
إن هذا الدور الذي يقوم به البطلان هو دور نضالي، وكفاح شعبي من أجل
التحرر من ربقة المستعمر، وبغض النظر عن مشروعية مثل هذه الأعمال، فإن
مثل هذه الأعمال النضالية لم يربطها (الكيلاني) بدوافع إسلامية، بل كان وراءها
أهداف وطنية تهدف إلى تحرير التراب وإعادته إلى أصحابه. وبذا: فالأبطال في
هذه الرواية هم أناس وطنيون لا أكثر، مما يجعل مثل هذا الموضوع همّاً مشتركاً
بين جمع أدباء ذلك القطر، ولذا: كتب عنه أكثر من أديب وتناوله أكثر من روائي، وطريقة عرض (الكيلاني) لا تكشف عن خصوصية إسلامية، أو إشارة إلى
الحرص على السبيل الإسلامي، مما يؤكد ما سبق قوله.
4- العلاقة بين الرجل والمرأة:
تبدو في كثير من الروايات المعاصرة حتمية الاتصال بين الرجل والمرأة
سواء أكان اتصالاً بدافع الحب (البريء! !) -كما يُسمى-، أو كان بدافع الشهوة
والاستمتاع. وهذه الرواية لا تخلو من هذين النوعين: فمن النوع الأول ما يكون
بين (صفاء) و (ضياء) من الاقتران والتواؤم النفسي والفكري، مما ينشأ عنه علاقة
حب (بريئة! !) لا تخلو من الخلوة بين المحبّيْن، وتبادل الكلام والآراء، بل
وتبادل عبارات الغزل الرقيق الذي قد يصل إلى حد التغني بالجمال الظاهر. مثل
هذه العلاقة التي لا ينشأ عنها أي صلات آثمة! ، تبدو -في نظر الكيلاني- علاقة
عادية توطّئ غالباً للاقتران المشروع بين العاشقين (الزواج) ، ولذا: جاءت مثل
هذه العلاقة في كثير من روايات الكيلاني. ولا أحد يستطيع الجزم بأن خروج
العاشقين وتلاقيهما بعيداً عن الأعين، وتبادل الكلمات والعبارات في أي موضوع
كان لا أحد يستطيع الجزم بأن هذا هو ما أباحه الشرع من جواز رؤية المخطوبة
والتعرف عليها، بل إن فتح المجال أمام مثل هذه العلاقات في أي مجتمع مؤذن
بفساد كبير، ولعلنا نلتمس للكيلاني العذر بأنه كان يتحدث عن بيئة كانت تلك
عاداتهم الاجتماعية، ولكن ذلك لا يعني أن تورَد مثل هذه الصلات في معرض
الاستحسان والقبول.
كانت هذه هي العلاقة الوحيدة (النظيفة) في تلك الرواية، أما العلاقات الآثمة: فمنها ما كان بين زوجة الوزير (عثمان باشا) ومدير مكتبه (بركات) ، وقد سلّط
الكيلاني الضوء على هذه العلاقة في عدد من المواطن، ورسم صورة الخيانة
الزوجية التي ارتكبتها الزوجة مع (بركات) حتى اكتشف الوزير الأمر لحظة كانت
زوجته بين يدي (بركات) . تصوير هذه العلاقة الآثمة أخذ أكثر مما يجب وكان
يمكن الاقتصاد في الحديث عن ذلك، ومع ذلك: يحمد للكيلاني أنه لم يُسِفّ (كثيراً)
في هذا الجانب.
العلاقة الأخرى كانت بين (سلطان) ناظر عزبة (عثمان باشا) وإحدى فتيات
القرية المخدوعات (نجية عبد السلام) ، وقد ظلت هذه الفتاة محلّ عبث (سلطان)
وهي مخدوعة بوهم الزواج المنتظر، إلى أن طردها (سلطان) ، فما كان منها بعد
هذا العار إلا أن صعدت إلى النخلة وألقت بنفسها منتحرة! ! ! (هنا لا بد من
تساؤل: أما كان يمكن للكيلاني إيجاد الحلّ الإسلامي لمثل مأزق هذه الفتاة غير
الانتحار؟ !) .
الارتباط الزوجي بين (عثمان باشا) وزوجته قد أفرط الكيلاني في وصف
تفاصيله وهو يصور حالات تبذل المرأة لزوجها، مما لم يكن له داعٍ، ولم تكن
الرواية بحاجة إليه، ومثل ذلك يقال عن التعبير عن محاولات الاعتداء والإغراء
والمضايقة التي تعرضت لها وقامت بها (صفاء) ؛ فمرة كاد رئيس التحرير يعتدي
عليها وهو مخمور لولا أن سقط مغمى عليه بسبب سوء حالته الصحية، ومرة
تذهب لطلب عمل بعد إقفال الجريدة، فيساومها ويغازلها مدير الشركة حتى تخرج
إلى غير رجعة، ومن ذلك: ما قامت به من إغراء (بدافع وطني! !) ، حينما
تهتكت في ثيابها وملابسها لتغري جنديًّا إنجليزيًّا، ظلّت تشاغله عن تحقيق مأربه
(الدنيء) حتى جاء رفاقها فقتلوه ضرباً.
كل هذا التصوير لهذه العلاقات يوشك أن يسلب هذه الرواية القدرة على
تصوير الفضيلة في أبهى صورها؛ فالعلاقة المثلى كما جاءت في الرواية هي
مزيج من الهيام والغرام المشبع بالمحاذير الشرعية.
ويلحظ فيما سبق أن الكيلاني قد لجأ إلى إقحام الرجل والمرأة وهو ما قد يفعله
أحياناً حتى ولو لم تكن الرواية تستدعيه، لكونه عنصراً ضروريّاً لقيام العمل
الروائي عنده، وإذا تم الاتفاق على هذا المبدأ، فإن الاختلاف يكمن في الكيفية التي
يمكن أن يعبّر بها الروائي عن هذه العلاقة.
أخيراً:
يقتضي الإنصاف القول بأن الجنس في روايات الكيلاني أقل منه عند أي
روائي آخر، كما أنه في الغالب يأتي لدوافع تقتضيها الرواية (وهذا لا يعني بطبيعة
الحال الموافقة على التفصيلات التي قد يفرط فيها الكيلاني) .
لا شك أن هذه السطور عاجزة عن رسم تصور كلي عن كتابات الكيلاني،
(وهو ما أحذر القارئ من الوقوع فيه) . لذا: يمكن الإحالة في هذه الخصوص إلى
كتاب: (الاتجاه الإسلامي في روايات الكيلاني) [4] ؛ فمؤلفه ممن عرفوا بسلامة
الاتجاه والمنهج، وكتابه: عبارة عن أطروحة علمية أشرف عليها الدكتور/
عبد الرحمن رأفت الباشا (رحمه الله) ، وفي الكتاب غنية لولا تقدّم زمن تأليفه، مما
فوت فرصة الحكم على الروايات الأخيرة للكيلاني [*] .