دراسات اقتصادية
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة الأولى من هذه الدراسة تمت مناقشة ماهية النقود ووظائفها،
وطبيعة النظام النقدي والنقود الورقية. وفي هذه الحلقة: سوف تتم مناقشة ماهية
النقود في الإسلام، والتخريج الفقهي الخاص بالعملات الورقية والمواطن الربوية
فيها.
ماهية النقود في الإسلام:
يرتكز الأصل الشرعي فيما يتعلق بطبيعة النقود: على أساس أن النقد هو
الأداة التي تقيّم بها الأشياء، وليس على أساس أن النقد سلعة بحد ذاتها، ولكنه أداة
للتبادل، ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله (تعالى) : [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ] [يوسف: 20] ففي هذه الآية تفريق بين الثمن وبين أداة
الثمن، وألحقت بالثمن صفة ملازمة له وهي التفسير؛ حيث وصف ثمن بيع
يوسف (عليه السلام) بالبخس، أي: بالقلة، قاله مجاهد والشعبي [1] . لقد أشارت
الآية إلى أمرين: الأول: أن قيمة وثمن يوسف (عليه السلام) كان قليلاً لا يتفق مع
حقيقة قيمته، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام ابن العربي في كتابه أحكام القرآن
عند تفسيره لهذه الآية بقوله: (وقيل في (بخس) أنه بمعنى حرام، ولا وجه له،
وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه، فلم
يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه
أبيهم عنه) [2] .
الأمر الثاني: أن الإشارة إلى الدراهم بعد إيراد لفظ الثمن ما هو إلا إشعار
بأنها أداة لتحديد القيمة، وبالتالي: يمكن أن تكون الأداة المستحدثة في الثمن تتفاوت
وتتعقد أشكالها وأنواعها حسب ظروف الناس وطبيعة المجتمعات.
لقد فهم فقهاء المسلمين وعلماؤهم طبيعة النقد وعلاقته بالعمليات التبادلية، فقد
أشار ابن قدامة في كتابه القيم (المغني) إلى حقيقة النقد وطبيعته عندما تحدث عن
الزكاة، فقام بالتفرقة بين زكاة الزروع والثمار، وزكاة المعدن المستخرج من
الأرض، وأشار إلى الفرق بينهما مع أن مصدرهما واحد، وهو الأرض، يقول
(رحمه الله) : (أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها، تتكامل عند إخراج الزكاة
منها، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ، ثم تعود في النقص لا في النماء، فلا تجب فيها
زكاة ثانية؛ لعدم إرصادها للنماء، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض
بمنزلة الزرع والثمر، إلا أنه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزكاة عند كل حول؛
لأنه مظنة للنماء من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات، وبهذا
تحصل المضاربة والشركة؛ وهي مخلوقة لذلك: فكانت بأصلها وخلقتها كمال
التجارة المعد لها) [3] .
فقد ربط ابن قدامة بين قيم الأموال والأثمان، حيث يتم تحديد قيم الأموال من
خلال تحديد الأثمان؛ ولهذا: عندما تحدث في (باب الربا والصرف) عرّف
الصرف بأنه: بيع الأثمان بعضها ببعض [4] ، وقد أوضح هذا المفهوم المتمثل في
أن طبيعة النقد تتمثل في أنها الوسيلة لتحديد قيم مختلف الأشياء، حيث أكد ذلك
عند مناقشة زكاة الذهب والفضة الصحيحة والمكسرة، حيث رأى جواز الإخراج
عن الذهب والفضة الصحيحتين أكثر من المكسرة؛ معللاً ذلك بأن (الفرق بينهما
(أي: الصحيحة والمكسرة) : أن القصد من الأثمان القيمة لا غير، فإذا تساوى
الواجب والمخرج في القيمة والقدر جاز، وسائر الأموال يقصد الانتفاع بعينها، فلا
يلزم من التساوي في الأمرين الإجزاء؛ لجواز أن يفوت بعض المقصود) [5] .
ويوافق ابنُ عابدين ابنَ قدامة في هذا المفهوم، حيث يقول: (رأينا الدراهم
والدنانير ثمناً للأشياء، ولا تكون الأشياء ثمناً لها ... فليست النقود مقصودة لذاتها،
بل وسيلة إلى المقصود) [6] .
ويتولى ابن القيم (رحمه الله) في كتابه (إعلام الموقعين) إيضاح طبيعة النقود
ودورها بشكل جلي، وبمنطق اقتصادي سليم، عند تحديد علة الربا بالنسبة للذهب
والفضة باعتبار أنهما الوسيلتان المستخدمتان في التبادل، يقول: ( ... العلة فيهما
(الدراهم والدنانير) : الثمنية، وهذا: قول الشافعي، ومالك، وأحمد في الرواية
الأخرى، وهذا هو الصحيح، بل الصواب ... فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة،
فهو طرد محض، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات،
والثمن هو المعيار، به يُعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا
يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن
نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات
حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة؛ وذلك لا يكون إلا
بثمن تقوّم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوّم هو بغيره؛ إذ يصير
سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخُلف ويشتد الضرر ... فلو
أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل: أن يعطى صحاحاً ويأخذ مكسرة، أو
خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منها: لصارت متجراً، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا
بد، فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في
أنفسها سلعاً لأعيانها: فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى
إلى سائر الموزونات) [7] .
من خلال هذه المناقشة التي أوردها ابن القيم (رحمه الله) يتضح دور النقود؛
حيث يجب أن يقتصر على أن تكون أداة لتحديد قيم الأشياء؛ وبالتالي: فلا يجوز
أن تستخدم النقود سلعاً يتجر بها، وبهذا: فإن ما يتم من مضاربات في سوق
العملات يجعل النقود سلعاً تُعد للربح، حيث نتج عن ذلك أضرار كبيرة كما هو
مشاهد في الواقع المعاصر، فيما يتعلق بتذبذب أسعار العملات، واتجاه كثير من
فوائض الأموال إلى الاتجار فيها بدلاًً من الاستثمار في المشروعات الإنتاجية.
على ضوء ما سبق يمكن القول: إن الشرع الإسلامي لا يشترط شكلاً معيناً،
أو مادة معينة للأداة النقدية؛ فقد تكون مسكوكات ذهبية، أو فضية، أو نحاسية،
أو أي نوع من المعادن، أو ورقية، وتعتبر نقوداً إذا توفرت فيها العناصر التي
أشار إليها ابن القيم، وهي:
1- اعتبار النقد أداة للدفع ووسيلة للتبادل للسلع والمنافع.
2- اعتباره أداة لتقييم الأشياء ومعرفة أثمان المبيعات.
3- ثبات قيمة الوسيلة التي تستخدم لتقييم الأشياء وثبات معيارها، بحيث لا
ترتفع ولا تنخفض.
4- عدم الاتجار بها، أي: عدم اعتبارها سلعة يتجر بها.
ووفقاً لهذه الضوابط: فإن النظرية النقدية كما توصل إليها ابن القيم تتفق في
بعض جوانبها مع ما تم التوصل إليه في هذا العصر في ظل ما عرف بقاعدة النقد
الورقية، حيث انفصلت القيمة الاقتصادية للنقود عن أي قيمة اقتصادية لأي سلعة
مادية معينة، وبالتالي: فإن هذه القاعدة تتمثل في مجموعة الشروط والقيود
التنظيمية التي تضعها الدول لإصدار النقود الورقية وما تطور من وسائل في
التداول النقدي، وهو ما عرف بالنقود الائتمانية، ومن هذا يتضح: أن وجهه نظر
ابن القيم تختلف عما هو متعارف عليه في العصر الحاضر؛ فابن القيم يرى عدم
جواز الاتجار في النقود؛ بخلاف النظام النقدي المعاصر الذي يقوم على اعتبار
النقود سلعة مثل باقي السلع لها قيمة ذاتية تتمثل في قيمة الزمن، الذي يقوم على
فكرة الربا؛ حيث إن العلة في التذبذب في أسعار العملات في السوق المالية العالمية
يعود فيما أظنه إلى نقص الضوابط الخاصة بالنقود حسب ما أشار إليها ابن القيم،
ومنها منع الاتجار بالنقود.
على ضوء ما سبق من تحديد لمفهوم النقد عند ابن القيم وغيره من فقهاء
المسلمين: فما هو الموقف تجاه النقود الورقية من حيث شرعيتها ومدى جريان
الحكم الشرعي للذهب والفضة عليها، بعد أن أصبح التعامل بالذهب والفضة
مستحيلاً؛ لاتساع وكبر حجم التبادل السلعي والخدمي بين أفراد المجتمع؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل ترتبط وفق ما سبق مناقشته بأن استخدام معدني
الذهب والفضة وسيلةً للتبادل وإبراء الذمة، وارتباط علة الربا بالنسبة للذهب
والفضة بالثمنية، وأن قيام الأوراق النقدية مقام الذهب والفضة يؤدي إلى سريان
العلة عليها، وبالتالي: سريان الأحكام المترتبة على الذهب والفضة عليها، باعتبار
أن العملات هي أجناس؛ حيث إن الذهب جنس والفضة جنس، وأن العلة الجامعة
بين الذهب والفضة في أحكام الصرف هي الثمنية، وبالتالي: سريان هذه العلة
على النقود الورقية لاعتبارين:
1- اجتماع طبيعة الجانب المادي من حيث إن المادة للعملات الورقية هي
الورق، بينما الجامع للذهب والفضة مادة المعدن.
2- اجتماع علة الثمنية بعين الذهب والفضة، وهذا يسري على العملات
الورقية المختلفة لمختلف الدول.
على ضوء هذا: تصبح العملات الورقية أجناس بتعدد جهات إصدارها،
فالنقد الأمريكي مثلاً جنس، والنقد السعودي جنس ... وهكذا، وقد أفتت هيئة كبار
العلماء في السعودية بأن العملات الورقية أجناس [8] .
حيث نص على جريان الربا بنوعيه (الفضل والنساء) في العملات الورقية،
كما يجري الربا بنوعيه في النقود المسبوكة من الذهب والفضة وغيرها من المعادن
كالفلوس، وقد أيد المجمع الفقهي الإسلامي هذه الفتوى [9] .
على ضوء هذا: فإن عمليات الصرف الحاضر بين العملات المختلفة جائزة
عند توفر شرطي الحلول والتقابض، أي: جواز شراء الدولار الأمريكي بسعر
ثلاثة ريالات ونصف أو أكثر أو أقل، بشرط التقابض بسعر اليوم، استناداً إلى
حديث ابن عمر الذي جاء فيه: (كنت أبيع الإبل بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ
الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه،
فأتيت رسول الله في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك، أسألك: إنى أبيع
الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ
هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها؛ ما لم تفترقا وبينكما شيء) [10] فالواضح من هذا الحديث: أن التصارف
الجاري فيه تقابض بمظهره الشكلي على أساس الحق القائم بهيئة دنانير في الذمة
بتسديده بما يساويه من دراهم بسعر ذلك اليوم.
وعليه: فما هو حكم التعامل العملي الذي يحدث في البنوك من حيث أسلوب
التصارف؟ فمن المعروف أن عملية الصرف: إما أن تكون من خلال الصندوق، أو بالقيد على حساب العميل، وما يرتبط بذلك أيضاً من عملية البيع والشراء
بالعملات من خلال أسواق العملات العالمية. فما هي مواطن الربا على ضوء هذا
الواقع؟
أما بالنسبة للدفع والأخذ من البنك مباشرة بتبادل عملة ورقية مقابل شراء
عملة أخرى: فلا إشكال فيه من ناحية توافر شرط التقابض؛ حيث يسلم الراغب
في الشراء النقود المحلية، ويتسلم العملة الأخرى، فهذا تقابض حال ومنجز، أما
إذا كان دفع العملة من حساب الشخص في البنك نفسه بخصم قيمة العملة المشتراة
من حساب المشتري لدى البنك، وحيث إن البنك يتعامل مع الحساب المفتوح لديه
من قبل المشتري على أساس أنه وكيل له الحق بالدفع والإضافة عند ورود تعميد
من صاحب الحساب، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يتوفر في هذا الأسلوب أساس
التقابض؛ حيث إن البنك يتسلم ما يقابل قيمة العملة المشتراة من حسابه المودع لدى
البنك، وهذا المال هو وديعة محفوظة لديه وهو مفوض بالتصرف فيها مع ضمانها
للمودع.
المواطن الربوية في عمليات تبادل العملات الورقية:
أصبح التعامل بالعملات شراءً وبيعاً أسلوباً من أساليب الحصول على الأرباح وبالتالي: ظهرت صناديق خاصة في البنوك تتولى التعامل بها في سوق العملات
في أوروبا وأمريكا، وتحولت النقود إلى سلع يتم الاتجار بها، واعتبر الاتجار فيها
من الأمور التي تزاولها بعض البنوك الإسلامية كوسيلة لتحقيق الأرباح لعملائها
المودعين لديها بدلاً من أخذ الفائدة الربوية.
يأخذ أسلوب الاتجار بالعملات صوراً متعددة، وقبل مناقشة مواطن الربا في
هذه الصور والتعامل لا بد من مناقشة المبدأ الأساس، وهو: هل يجوز الاتجار
بالعملات شراءً وبيعاً؟ ... تختلف الآراء حول ذلك: فمن مجيز للاتجار فيها إذا
تحقق التقابض في مجلس العقد، وذلك بالخصم من حسابات المتاجرة بالعملات لدى
السمسار الذي يتولى إجراء عمليات البيع والشراء نيابة عن المُتاجِر (قد يكون
السمسار بنكاً أو مؤسسة أو فرداً يقوم بهذا العمل) وفق شروط وقواعد تحدد من يقوم
باتخاذ قرار البيع والشراء سواء أكان السمسار باعتباره وكيلاً مفوضاً من قبل
المتاجر في العملات، أو تلقي التعليمات الخاصة بإنفاذ البيع والشراء من قبل
المتاجر وفق إجراءات معينة.
يقوم السمسار بعمليات الاتصال بمندوبيه في أسواق العملات العالمية بإنفاذ
التعليمات الخاصة بالشراء أو البيع لصالح عملائه، وقيدها بالإضافة أو الخصم
على حسابه لدى مندوبيه في تلك الأسواق، ويتحقق شرط التقابض من خلال القيد
على الحسابات المختلفة باعتبار أن قيد الإضافة والخصم يماثل عمليات التقابض
المادي للعملات؛ لهذا: فإن بعض البنوك الإسلامية تزاول نشاط الاتجار في بيع
وشراء العملات وفق هذا الأسلوب، باعتبار أنه أسلوب من الأساليب الجائزة لتحقق
شرط التقابض، وبالتالي: انتفاء الربا من هذا الأسلوب واعتباره قناة من قنوات
استغلال المدخرات واستثمارها.
إن الحرمة لهذا التعامل كما أراها لا تقوم على أساس تغير وسيلة التقابض في
مجلس العقد، حيث تبدل أسلوب التقابض وطبيعة مجلس العقد؛ فقد أصبح مجلس
العقد يتم من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي سهلت ووسعت نطاق مجلس العقد
من خلال التخاطب بالتهاتف والفاكس والحاسب الآلي، أي: أصبحت الأسواق
متقاربة وكأنها في مكان واحد، وأصبح حلول القيد على الحسابات المختلفة، بديلاً
عن التقابض المادي والحصول على التفويض والالتزام بذلك باستخدام هذه الوسائل
الحديثة.
إن الحرمة تأخذ جانباً آخر، وهو: تغير طبيعة وظيفة النقود، فالنقود ليست
سلعة يتجر فيها مثل بقية السلع، وخاصة النقود الورقية التي لا يمكن تحويلها إلى
سلعة اقتصادية مثل الذهب والفضة اللذين يمكن شراؤهما كسلع لاستخدامهما موادّاً
أولية لصناعات مختلفة، وبالتالي: الخروج بالنقود عن طبيعتها التي جعلت لها،
والتي من أجلها تم قبولها، وهي: أنها أداة للدفع ووسيلة للتبادل، وقد سبق أن
أوضحنا وجهة نظر الإمام ابن القيم واستشهادنا بقوله.
إن التحليل والمنطقية التي وصل إليها ابن القيم (رحمه الله) فيما يتعلق بالنقود، والتي حددت مشكلة النظرية النقدية المعاصرة في أن الاتجار في العملات هو
العلة في اضطراب أسواق النقد العالمية؛ حيث إن الاتجار بالعملات قد أفسد عملية
التبادل التجاري، وألحق الضرر بالتبادل من خلال اضطراب أسعار السلع العالمية، فأصبحت العملات تخضع لتقلبات قانون العرض والطلب؛ مما أثر على أسعار
السلع؛ فالتاجر الذي يرغب في شراء أي عملة بقصد الاستيراد لسلعة معينة من أي
بلد سيتأثر بالتذبذب في أسعار العملات التي يود الاستيراد بواسطتها من خلال
عمليات المضاربة في العملات، حيث إن العرض والطلب على العملات غير
حقيقي، حيث تتم المضاربة فيها والاتجار فيها بيعاً وشراءً، ليس بقصد شرائها
لذاتها لتحقيق الوظيفة الأساسية للنقود ... وهذا يؤدي إلى مفسدة وإضرار بالناس،
كما قال ابن القيم، حيث قال: (وسر المسألة: أنهم مُنعوا من التجارة في الأثمان
بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات
بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع
التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها؛ فهو بمنزلة الدراهم التي
قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: (تبرها وعينها سواء) فظهرت حكمة
تحريم ربا النَّساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد) [11]
وفي موضع آخر أورد (رحمه الله) مناقشة لطيفة خاصة عن استعمال المادة
المضروبة منها العملة المعدنية لأغراض أخرى غير غرض النقد، تدل على مدى
عمق فهمه لمفهوم النقد ودوره في الحياة الاقتصادية، مع معالجته لازدواجية
استخدام معدن الذهب لأغراض صناعية وكأداة للنقد، يقول (رحمه الله) : (إن
الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس
الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا
يجري بين الأثمان وسائر السلع وإن كانت من غير جنسها؛ فإن هذه بالصناعة قد
خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها ولا
يدخلها (إما أن تقضي، وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت
بالثمن المؤجل) [12] ، ومن هذا النص ندرك: أنه يجوز شراء الحلي المصنوعة
من مادة العملة المعدنية، ولو تفاضلت من حيث اختلاف الوزن ما بين وزن الحلي
ووزن العملة المعدنية، إذا تم التقابض يداً بيد في مجلس العقد مثل بيع الذهب
بالفضة.
وعلى ضوء ما سبق: فإن الاتجار في العملات بيعاً وشراءً بقصد الربح،
وليس بقصد استخدامها من أجل تمويل الاستيراد والتجارة في السلع: مكروه، وقد
يصل إلى الحرمة؛ للأمور التالية:
1- التوسع في البيع والشراء في أسواق العملات العالمية أدى إلى هروب
أموال المسلمين إلى الدول الكافرة، وهذا الاتجار لا يهدف إلى الحصول على سلع
وخدمات يحتاجها المسلمون، ولكنه بقصد المضاربة لتحقيق الربح؛ مما أدى إلى
ضياع فرصة الاستفادة من هذه المدخرات التي يتم استخدامها في الاتجار في
العملات الأجنبية، والقاعدة الشرعية تقول: عند اجتماع المصالح مع المفاسد، فإذا
كانت المفسدة أعظم من المصلحة: درأنا المفسدة، ولو تأتى ذلك بفوات المصلحة،
والمصلحة الفائتة هي ما يمكن أن يحققه المتاجر في العملات في أسواق العملات
الأجنبية من أرباح، لكن مفسدة تسرب أموال المسلمين من بلاد المسلمين وعدم
استغلالها فيما فيه منفعة ومصلحة للاقتصاد يحقق مفسدة أكبر من المصلحة التي قد
يحققها المتاجر في العملات، يقول (تعالى) : [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] [البقرة: 219] فحرمهما لأن
مفسدتهما أكبر من منفعتهما.
2- أن خروج الأموال من بلاد المسلمين بقصد الاتجار بالعملات الأجنبية
للدول الكافرة يحدث أضراراً بميزان المدفوعات للبلاد الإسلامية؛ حيث إن هذا
الخروج لا يقابله سلع ولا خدمات تفيد اقتصاد الدول الإسلامية، بل إن ذلك يمثل
تهريباً لفائض الإنتاج المحلي وضخه لصالح القوى الأجنبية، وفي هذا تعاون على
الإثم بإضعاف اقتصاديات الدول الإسلامية وحرمانها من الأموال التي يمكن لو تم
استثمارها في مجالات إنتاجية أن تزيد الناتج القومي وتسهم في تشغيل القوى العاملة
العاطلة.
3- يرتبط الاتجار في العملات بشبهات أخرى تؤكد الحرمة، ومن ذلك: ما
يعرف ببيع وشراء الخيارات، حيث لا يتم الشراء والبيع في محل العقد، وإنما يتم
إعطاء خيار لمشتري العملة بإتمام الصفقة أو عدمها خلال فترة زمنية معينة، ويتم
دفع مبلغ معين من قيمة الصفقة خلال فترة الخيار، يحق للمشتري أو البائع فيها
إمضاء البيع والشراء، ويتم الاتجار في هذه الخيارات أيضاً، وإذا انتهت فترة
الخيار ولم يقم المشتري بالتصرف بهذا الخيار بإتمام الصفقة أو بيع الخيار بسعر
أعلى مما اشتراه به: يخسر ما دفعه، وهذا الأسلوب يقوم على التوقعات
والمضاربة، فهو شراء وبيع غير ناجز، وبالتالي: حصل المحذور الشرعي بعدم
التقابض الحسابي.
تتم ممارسة الاتجار بالعملات من قبل بعض البنوك الإسلامية، وقد أوجدت
لها صناديق استثمارية، وأجيز شراء وبيع العملات بهدف تحقيق الربح نتيجة
للتذبذب في أسعار العملات، ولذا: فإن الواجب الامتناع عن ذلك، أما شراء
العملات من المصارف بقصد تمويل عمليات الاستيراد، وليس بقصد تحقيق الربح
من خلال الاتجار فيها: فهذا أمر جائز؛ لأن ذلك بقصد تحقيق التبادل السلعي
والخدمي، وهي الوظيفة الأساسية التي من أجلها جعلت النقود، ويدل على ذلك
حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) الذي رواه أبو داود والنسائي، جاء فيه: (أتيت
رسول الله وهو في بيت حفصة، قلت: يا رسول الله: رويدك، أسألك، إني أبيع
بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من
هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله: لابأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم
تفترقا وبينكما شيء) [13] ، فهذا الحديث يوضح دور التصارف وتبادل النقود
بعضها ببعض من أجل تيسير التجارة؛ حيث إن القصد من ذلك: إتمام عمليات
التبادل السلعي، وبالتالي: فإن شراء العملة الأجنبية بسعر يومها عند فتح الاعتماد
أو سداد قيمة السلعة الواردة عند وصول البضاعة بسعر فتح الاعتماد وبسعر سداد
قيمة الاعتماد: هو ما يمكن أن يقاس على حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) .
أما الصورالأخرى للتعامل بالعملات، التي يمكن أن يشوبها الربا، فهي
الصور التالية:
1- بيع وشراء العملات على أساس السعر الآجل ولو كان القصد من ذلك
تثبيت قيمة السلع المستوردة، وقصد هذا التعامل هو: التعاقد على شراء العملة
حالياً، ولكن تنفيذها أو قيدها لصالح المشتري وخصمها من رصيد البائع لا يتم إلا
بعد مدة مؤجلة متفق عليها: شهر، أو ثلاثة أشهر ... ، والسعر إما أن يكون
مساوياً للسعر الحاضر، أو أعلى منه، أو أقل منه، والاختلاف في السعر يعود
إلى توقع ارتفاع الفائدة أو انخفاضها بين مراكز بيع العملات العالمية.
وربوية هذا التعامل تتمثل في عدم تنفيذ التعاقد في مجلس العقد، وهو مخالف
للمنع الوارد في الأحاديث النبوية المحرمة لربا النِّساء والتفاضل.
2- الشراء والبيع الآجل للعملات، وهو ما يعرف في سوق العملات باسم
سواحب، حيث يتم شراء عملة مؤجلة التسلم، وفي الوقت نفسه: يتم بيعها بعملة
أخرى مؤجلة؛ فمثلاً: يتم شراء دولارات مقابل جنيهات إسترلينية حاضراً أو
مؤجلاً، ثم بيع ما اشتراه نفسه بريالات مؤجلة، أي: يتم التسليم على ما تعاقد
عليه عند حلول الأجل.
إن التصارف على هذا الأساس باعتبار أن العملات أجناس أثمان يتوفر فيها
علة الثمنية عند من اعتبر أن العلة هي الثمنية.. هذا التعامل من الصرف يعتبر
تعاملاً ربويًّا لحديث عبادة بن الصامت عن عبد الله ( ... سمعت رسول الله ينهى
عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر
والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين. فمن زاد أو ازداد فقد أربى ... ) . [14]