مجله البيان (صفحة 2204)

في دائرة الضوء

محاور علمنة الإسلام..

نظرات في الأساليب الجديدة لغزو الإسلام

بقلم: د. محمد يحيى

من الأساليب التي اتبعت في الفترة الأخيرة لمحاربة الإسلام من الناحية

الفكرية، ما يمكن أن يسمى بعلمنة الإسلام، أي: تجريده من الطابع (المقدس) -

كما يطلق عليه العلمانيون- ونزع أي روابط تصله بالوحي الإلهي المنزل ثابت

الصياغة والتحقق، وقد راجت في السنوات الأخيرة في بعض الدوائر الفكرية

العلمانية مقولة تزعم أن (الإسلام دين علماني بالطبع) ، وتبرر هذه المقولة أمام

الجمهور المسلم بأنها تعني: أن الإسلام دين يتناول شؤون الحياة ويغطيها، ولا

ينعزل عنها، وهو تصور ينسجم مع المفهوم العام حول الإسلام، ولكن تختلف

الصورة عندما يبدأ الكتاب العلمانيون في شرح وتوضيح أبعاد هذه المقولة؛ وهنا

تتجلى ظاهرة علمنة الإسلام في إحدى أهم صورها، فالمعنى المتضمن في مقولة:

(إن الإسلام دين علماني) هو: أن الإسلام غير محدد الملامح والقسمات، وأنه قابل

للتغير والتشكل وفق الظروف والأحوال الجغرافية والتاريخية، وأنه في الواقع

يترك مساحات واسعة من الشؤون الحياتية مفتوحة لكل اجتهاد ورأي أيًّا كان طالما

أنه يحقق (المصلحة) ، وهي بدورها فكرة مبهمة، وإن تحددت أبعادها في الفكر

العلماني بشكل مادي واضح، يقصرها على النواحي الاقتصادية أو القيمية المشابهة

لقيم الغرب، وهكذا فإن المقولة التي تبدو في ظاهرها وكأنها تتوافق مع الأصل

الإسلامي الذي يربط بين الدين والدنيا، فإنها في الواقع ترمي لتأسيس فصل الدين

عن الحياة من خلال تمييع الإسلام نفسه، وتقليص مساحته، ورده إلى مجرد كيان

هلامي شفاف أقرب إلى العدم، يتشكل مع كل ظرف وحال حتى لا يكاد يكون له

وجود مستقل أو مميز أو هوية، وهذه المقولة تصل إلى علمنة الإسلام، أي:

تجريده من القداسة والصلة بالوحي الإلهي من خلال هذا الرد والانكماش والميوعة

التي تفرض عليه.

والحق أن أصحاب مقولة: (إن الإسلام دين علماني) يكشفون مراميهم مهما

حاولوا خداع القارئ بأنهم: إنما يطورون المبدأ القائل: بأن الإسلام دين ودولة، أو

دين وحياة، وأول ما يكشفهم هو ذلك الاستخدام الشاذ الذي يلحّون عليه لكلمة

(علماني) ، إن هذا المصطلح أصبح يحمل الآن دلالات ومعاني مستقرة تفيد: فصل

الدين عن شؤون الحياة، أو تشير إلى شؤون الحياة وقد فصلت وعزلت عن أي

تأثير ديني؛ لذا: فإن الإصرار على استخدام هذه الكلمة في هذا السياق بالذات

لِتَعْني: مجرد الحياة، يحمل تناقضاً صارخاً؛ لأن المقولة تجمع في طرفيها بين

الدين (الإسلام) وضد الدين (أي: العلمانية) ، ولا بد في هذه الحالة أن يلغي أحدهما

الآخر. ويتساءل المرء: لماذا لم يُستَخْدم لفظ (الحياة) -بمثلاً- بدل (العلماني) لو

كانت النوايا حسنة؟ ! فكيف يكون الإسلام دين علماني إذا كانت العلمانية تعني

فصل الدين عن الحياة أو تسيير شؤونها، ولا تعني مجرد (الحياة) كما قد توحي

المقولة في ظاهرها؟ وكيف يمكن أن يوصف الإسلام بأنه دين علماني دون أن

يعني ذلك بالضرورة القول: إن الإسلام دين يلغي نفسه بنفسه؟ ، ولا داعي

للاستمرار في توضيح التناقضات الكامنة في هذه المقولة؛ لأنها في النهاية مجرد

شعار براق يلفت النظر بالجمع بين الإسلام والعلمانية، بحجة أنه يلغي التناقض

المعروف بينهما، لكنه في الحقيقة والفعل وبعد توضيح مضامينه يؤكد على هذا

التناقض ويثبته؛ حيث يجعل علمانية الإسلام المزعومة تتلخص في أن الإسلام

ليس له قوام أو كيان أو هوية مميزة تفرض على الحياة وتسيرها، بل هو خاضع

للتشكل إلى حد أن يلغي ويعزل وجوده، وهذه هي العلمانية في جوهرها. إن مقولة

الإسلام بوصفه ديناً علمانيًّا لا تفيد تكريم الإسلام وتوكيده كما قد يُظن، بل على

العكس: تلغيه لصالح تأكيد العلمانية.

وهذه المقولة تفيد مع ذلك في تحديد ملامح عملية علمنة الإسلام التي أشرنا

إليها؛ فجوهر هذه العملية الفكرية المعقدة هو إفراغ منتظم لكل المبادئ والقيم

والمفاهيم الإسلامية من مضامينها الثابتة والمستقرة (بحجة محاربة الجمود ... و (الثبوتية) كما يطلقون عليها) ، ثم إعادة ملئها بمضامين علمانية متغربة تناقض

معناها، أو تركها خاوية مائعة لتتخذ بعد ذلك شتى المضامين.

هذا هو جوهر هذه العملية التي اتخذت من مقولة (الإسلام دين علماني) أحد

شعاراتها، ونجد مظاهر هذه العملية المتنوعة في تحركات وطروحات فكرية مختلفة

يُروّج لها على الساحة؛ فمفهوم الاجتهاد مثلاً تحول عن معناه الإسلامي ليصبح في

الكتابات العلمانية أداة لتطويع أحكام الإسلام الشرعية لتتناسب وتتوافق مع

التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الغربية العلمانية الطابع.

وهكذا سمعنا الفتاوى تترى من هنا وهناك؛ لتقدم (اجتهادات) وصفت

بالإسلامية، تحلل زواج المسلمة بالمسيحي واليهودي، وتحرم تعدد الزوجات

والطلاق، وتبارك مصادرة أراضي وأملاك الأوقاف الإسلامية.. وغير ذلك، أما

مفهوم صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، فقد تحول إلى القول بميوعة

وهلامية الأحكام الإسلامية ومحدوديتها إلى حد أنها قابلة للتواؤم مع كل وضع

وظرف؛ فالإسلام صالح لكل مكان وزمان وبيئة، ليس كما يفهم المسلمون (لأن

أحكامه تناسب الفطرة البشرية، ولا تقيدها بقيود تخالف طبيعتها) ، بل لأن هذه

الأحكام كمادة الأثير الأسطورية التي كانت حسب التصور توجد في كل مكان ولا

توجد في مكان؛ فإنها شفافة لا يتبين وجودها.

وقائمة المفاهيم والمبادئ الإسلامية التي خضعت لعملية العلمنة طويلة، ويكفي

أن نذكر مثلاً: أن مقولة (تغير الفتوى بتغير الظروف) التي تعني ببساطة أن

المتصدي للإفتاء ينبغي أن يحسن تبين جوانب المسألة المعروضة عليه مع ثبات

الحكم الذي يتنزل عليها، بحيث تتغير هذه الفتوى (وليس الحكم الشرعي) إذا تغير

أحد أو بعض جوانب الظروف والملابسات المحيطة بالمسألة مما ينقلها من الوقوع

تحت حكم معين إلى الوقوع تحت حكم آخر، تحولت هذه المقولة الفقهية المعروفة

عند الكتاب العلمانيين لتعني تغير الأحكام الشرعية نفسها وتبدلها وتحورها مع تبدل

الأزمنة والأوضاع، بحيث تصبح الشريعة تابعاً وليس قائداً لمجريات الأحداث

والزمن، ومن هذا المدخل جرى تبرير مبدأ (التاريخية) و (النسبية) الذي يطبقه نفر

من الكتاب العلمانيين الآن على قضايا الشريعة، بل والعقيدة الإسلامية ذاتها؛ فهم

يذهبون إلى أن الأحكام الشرعية والقضايا العقدية ليست سوى أوضاع بشرية المنشأ، يجب أن تتغير بعد زوال الأحوال والظروف التاريخية التي وضعت فيها، وأنها

لا تنطبق إلا على هذه الأوضاع الأصلية، ولا تصلح إلا لها، بحيث لا يمكن

إجراؤها في الظروف القائمة، وهي جد مختلفة وبعيدة عن الأصل الغابر! كل

هذه الأفكار يخرجون بها ويبررونها ويتأولونها من مقولة: (تغير الفتوى بتغير

الظرف) بعد أن يجروا عليها عملية العلمنة.

وإذا كانت هذه المظاهر من العلمنة دقيقة ومتسمة بالطابع الفكري العميق أو

الذي يبدو كذلك: فإن هناك مظاهر أخرى أكثر وضوحاً، ومنها: تذويب معالم

الإسلام في قسمات الأديان والتآلف بين الأيديولوجيات والأفكار المختلفة.. إن هذه

الدعاوى تتردد الآن من منابر دولية متعددة سواء أكانت هيئات ووكالات الأمم

المتحدة، أو المنظمات الكنسية العالمية، أو وسائل الإعلام عابرة القارات، وظاهر

هذه الدعوات هو نشر السلام والمحبة والوئام، ونزع أسباب الحروب والصراعات، ومحاربة دعاوى التعصب والتطرف.. لكن جوهرها الحقيقي هو التمييع والإذابة

والتداخل إلى حد الإلغاء، وعملية التذويب هذه المروّج لها تحت اسم (التعددية) لن

تطال الثقافات القوية (ونقصد بالقوية تلك التي تسندها دول قوية الجيوش ومدعمة

بالمال) ، بل ستطال وتؤثر على الثقافات الضعيفة التي لا تساندها دول قوية ولا

اقتصاد قوي؛ لذا: فإن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة

الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات

الأخرى، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة.

وبجانب ذلك: فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها،

فلا يصبح هناك حق وباطل، أو جيد ورديء، أو أعلى وأدنى، بل الكل سواء

طالما أنه دخل في سياق (التعددية) ، فلا يوجد فرق بين بوذي، وهندوسي،

وشنتوي، وبهائي، وقادياني، ويهودي، ومسيحي، وزرادشتي ... ومسلم؛ لأن

الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية) ، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو

الحق في القول: بأنه دين الحق.

والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام، أي: نزع القداسة والمنزلة

الإلهية عنه، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع

أو (العلمانية) !

إن الأسلوب القديم الذي اتبعته التيارات العلمانية المتغربة في مواجهة الإسلام

لم يعد يجدي في ظل الصحوة الإسلامية التي عرفتها السنوات والعقود الأخيرة، لذا: تحتم تغيير زاوية الاقتراب إلى الهجوم، فبدلاً من تنحية الإسلام وإبعاده قسراً عن

كل شؤون الحياة من سياسية واجتماعية واقتصادية (وهو مع ذلك مدخل ما يزال

متبعاً في بلدان عديدة) بدأ التوجه إلى غزو الإسلام من داخله والإبقاء على الهيكل

الخارجي العام مع تفريغه وتخريبه من الداخل، ثم إعادة الملء حيثما أمكن بالقيم

العلمانية بعد عملية واسعة من إعادة التفسير والتأويل -كما تسمى-، ولقد عُرفت

هذه العملية في بداياتها بأسماء عدة: كالتحديث، والعصرية (الغربية) ... وما أشبه

ذلك من المصطلحات الخداعة. وفي الفترة الأخيرة جاء شعار: (الإسلام دين

علماني) ، وتبعته مقولات إعادة قراءة التراث وإعادة تأويله وتفسيره، ثم دعاوى

تاريخية الإسلام، و (نسبية الشريعة) ، وعلى الرغم من الاختلاف بين هذه

المسميات والمصطلحات (وهو اختلاف قد يكون كبيراً وذا مغزى في بعض

الأحيان) ، إلا أنها تشترك في أنها أدوات متعددة لخدمة العملية الأكبر، وهي:

عملية علمنة الإسلام.

والواقع أن فرض العلمنة على العقائد والأديان هي عملية عرفتها المسيحية في

الغرب بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي، كما عرفتها اليهودية فيما يُزعم من

القرن التاسع عشر الميلادي، ولكن هناك فارقاً واضحاً بين هذه الأديان والإسلام؛

فليس في المسيحية بوضعها المعروف شريعة تذكر، وقد تشكلت عقائدها الكبرى

من التثليث والحلول والصلب على مدى تاريخي طويل؛ بما سمح بإعادة تفسيرها

أو تحويرها في العديد من المذاهب النصرانية المعاصرة؛ لأنها على أي حال كانت

وضعاً بشريًّا بحتاً كما يقر الجميع، مما لا تضار معه من فرض المداخل التأويلية

والتاريخية العلمانية عليها، أما بالنسبة لليهودية: فإن العلمنة التي فرضت على

شريعتها جرت في الواقع لمصلحة الدعوة الصهيونية القومية المتعصبة الجامحة،

بحيث كان التخفف من بعض قيود الشريعة عندهم بالعلمنة حافزاً قويًّا لبعض

الاتجاهات اليهودية في الغرب أن تنضم لحركة اليهودية الصهيونية العالمية وتقويها، ومن هنا: كانت العلمنة مصدر قوة، وليست مصدر ضعف، لا سيما وأن العلمنة

التي فرضت على الشريعة اليهودية لم تفرض إلا على أقسام محددة منها، كما أنها

لم تفرض على جميع اليهود، بل على قطاعات معينة ومحددة كذلك في أوروبا،

وبالمثل: لم تضر العلمنة المسيحية؛ لأنها لم يكن لديها أصلاً شيء تخسره للعلمانية.

كذلك الحال يختلف بالنسبة للإسلام؛ لأن العلمنة تُفرض عليه بالكامل، وعلى

نطاق واسع يشمل الشريعة والعقيدة والقيم، كما أنها تفرض على نطاق الأمة

بأسرها وعلى كل قطاعات المجتمع المسلم، وفوق ذلك: فإن هناك فارقاً جوهريًّا

خطيراً، فالعلمنة عندما زُوجت بالمسيحية واليهودية كان مقصوداً منها أن تقوي هذه

الأديان وتجعلها تصمد في وجه التطورات الفكرية والاجتماعية الحديثة في أوروبا

منذ القرن الثامن عشر الميلادي، لا سيما وأن هذين الدينين يتقبلان تماماً دخول

العلمانية عليهما بالكيفية التي أشرنا إليها، أما في حالة الإسلام: فإن إدخال العلمنة

وعلى عكس الشعارات المرفوعة كان يهدف وبوضوح وسفور إلى ضرب الإسلام،

وتذويب هويته، وتمييع قوامه، وزعزعة عقيدته وشريعته، بل وإلى إفراغه من

محتواه، وتحويل الهيكل الهش الباقي إلى نصير وحليف ومبرر للعلمانية، بعد أن

تملأ قسماته مبادئها وروحها.

إن عملية علمنة الإسلام من العمليات التي تستحق أن تدرس بشكل واسع

ومفصل في إطار ملامحها التي رسمناها بشكل عام في هذا المقال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015