شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
ثورة.. ولا كالثورات
إن انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة هي الحدث الذي شغل
العالم طيلة الأشهر الأربعة الماضية، فقد سيطرت أحداثها على نشرات الأخبار
العالمية، وتناقلت صورها كل شاشات التلفاز، وكان لها صدى واسع ومؤثر في
جميع العواصم، واستطاعت أن تحدث انقلاباً في النظرات على مستوى لم يسبق له
مثيل.
فقد أحدثت تغييراً جوهرياً في نفوس كثير ممن كانوا ينظرون إلى القضية
الفلسطينية على أنها مشكلة حفنة من اللاجئين، وفتحت أعينهم على رؤية شعب
عملاق نهض من سباته، على الرغم من وقوعه تحت وطأة الاحتلال حوالي
أربعين سنة. وأحدثت دفعاً قوياً لثقة هذا الشعب بنفسه، حينما رأى مقاومته غير
المتكافئة للعدو تحدث هذه البلبلة والحيرة في صفوف اليهود وأنصارهم. فزاده ذلك
إصراراً، وفجر طاقاته الكامنة. فهذه البلبلة والحيرة التي وقعت لليهود انعكست
إيجابياً على أهل فلسطين، وجعلتهم يواجهون آلة العدو العسكري بصدور عارية إلا
من الإيمان، وأيد مجردة من كل سلاح إلا سلاح الحجارة، وشفاه يقترن فيها هتاف
(الله أكبر) بمقت اليهود ومن يقف خلفهم. وكذلك أوقعت هذه الأحداث المفاجأة في
نفوس لصوص الحركات الجهادية والمقاومة الحقيقية، نعني. مناضلي المكاتب
وردهات الفنادق الفخمة، فانطلقوا - كعادتهم - يتزلفون وينافقون وينفون أي
خلاف بينهم وبين من هم داخل دائرة الاحتلال.
فإذا قال قائل: إن هذه الانتفاضة سوف تستغل من الجهة الفلانية أو الجهة
الفلانية، فنحن نقول لهم: هذه حركة إسلامية سوف تؤتي أكلها ولو بعد حين..
وأعظم ميزة لهذه الثورة الفريدة في وجه الاحتلال الغاصب هي إدراك الجيل الفتي
من أبناء فلسطين أن انتظار الفرج من وراء الحدود لم يعد بالحل الأمثل، وأنه -
في ظل الظروف العامة للمنطقة وشعوبها ومعاناتها المتراكمة - لم يبق إلا الاعتماد
على النفس من مخرج، فقد فتح هذا الجيل عيونه ليرى نفسه وجهاً لوجه مع أقسى
أنواع المعاناة:
1- عدو جاثم مستهتر ومستمر في اجتثاث جذور هذا الشعب من أرضه،
وزرعها - من جديد - بشذاذ الآفاق الذين يستجلبهم من كل مكان.
2- وجيل سابق أدركه التعب، وكاد يقتله اليأس نتيجة لتناوب النكبات عليه.
3- وصراخ كثير ينبعث من وراء الحدود، ذو ألوان متعددة: شرقية وغربية، يجأر به مهرجون محترفون بتوجيه السباب للصهيونية والإمبريالية والرجعية.
وبتضخيم أدوارهم في ساحة كادت تخلو إلا منهم، ومنظمات وأنظمة تتناخى وتزبد
وترغى! ولكن، ماذا كان نتيجة ذلك كله؟ ... لا شيء!
إن هذا الجيل قد فهم " ألف باء " النضال ببساطة شديدة، ولم يعد يحتاج إلى
أمثلة بعيدة عن أرضه يحتذيها لمحاربة الغاصبين، ولم يترب ويتثقف لا على
(أدبيات) حرب فيتنام، ولا على (نضالات) جيفارا ورفاقه! وإنما استمد عناصر
الكفاح من (الله أكبر) التي لا تزال ترتفع من المآذن المزروعة في أرضه،
واستلهم مواجهة العدو المسلح حتى الأسنان من روح الشهادة والشهداء التي هي من
بدهيات دينه الذي لم ينتشر ظله على هذه الأرض بسهولة، بل بعد أن تضمخت
بدماء الشهداء، وضمت بين أحضانها صفوة الخلق من صحابة رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-، ومن سار على نهجهم من المسلمين المجاهدين دعاة الحق والخير
والعدل والحرية.
إن البطولات التي يظهرها أبناء فلسطين في مواجهة أعداء الله أمثلة ترتفع لها
هامة كل مسلم وكل عربي، بل كل مهضوم الحق يؤمن أنه بالإصرار على حقه
سيصل إليه لا محالة.
وإن الشهداء الأبرار الذين سقطوا برصاص العدو الغادر، وبآلة قمعه التي
تسلحه بها أمريكا وحليفاتها؛ هم الذين يضيئون لهذا الشعب طريق العزة والكرامة.
على مدى أربعة أشهر كانت أيام الجمعة مناسبات تشحن روح التصدي لهذا
العدو، ويعبر فيها المسلمون في فلسطين عن غضبهم من استمرار الاحتلال،
ويستهينون فيها بأسلحة المرتزقة اليهود، فيسقط منهم القتلى، ويتعرض الكثير منهم
للضرب والتنكيل بكافة صنوفه وأشكاله، وغدت المساجد - كشأنها دائماً - معاقل
للإعداد والمقاومة، ومثابة لطالبي التوبة الذين تخلوا عن الضعف والخمول،
وانضموا إلى صفوف هؤلاء الفتيان المفعمين بالحيوية وكراهية العدو اليهودي.
ومما يلفت النظر مسارعة أصحاب النفوس الضعيفة - الذين كانوا يتعاونون
مع العدو، ويقدمون له المعلومات عن إخوانهم، ويعملون كجواسيس وعيون تبلغ
السلطات الصهيونية بتحركات أهلهم لقاء منفعة رخيصة، أو بسبب عداوة وحقد
شخصي- نقول: مسارعة هؤلاء لإعلان توبتهم في المساجد على رءوس الجماهير، ندماً على ما فعلوا، أو خوفاً من غضبة هذه الجماهير الصادقة التي من المتوقع أن
تذهب بهم وبمن يعملون لهم.
إن من حق فلسطين على المسلمين في كل أنحاء العالم أن يقدموا ما
يستطيعون من دعم ومساندة لأهلها الصابرين والمرابطين في وجه العدو الصهيوني، وأن يفكروا بطرق جدية بعيدة عن أساليب الدعاية والمزايدات كيف يكونون عمقاً
حيوياً لهذه الهبة التي لا ينبغي أن نقف منها موقف المتفرج.