محمد العبدة
من أصعب الأمور في الدراسات الاجتماعية أن تظن أنك في معمل للكيمياء،
أو أنك أمام معادلات رياضية، إذا أضفت هذا العنصر إلى ذاك، أو هذا الرقم إلى
أخيه فلا بد أن تكون النتيجة معلومة محددة، فالنفس الإنسانية تأبى هذه المعادلات،
بل هي أعقد مما كان يظن علماء النفس في أول هذا القرن.
وفي تعليلنا لحوادث التاريخ، أو عندما نصف عصراً من العصور لا نستطيع-
وبكل بساطة - أن نلقي الكلام على عواهنه، ونحدد طبيعة هذا العصر أو ذاك
بجملة واحدة وكأنها بديهية رياضية. ومما يتردد على الألسنة قول بعض المؤرخين
أو الأدباء الذين يكتبون في التاريخ أن الدولة العباسية (دولة أعجمية خراسانية،
ودولة بني مروان دولة عربية أعرابية) [1] هكذا وبهذا التعميم، وبهذا الإطلاق
تصبح هذه الكلمة مسلمة لا شك فيها ولا جدال، وهذه التعميمات والنظرة الأحادية
للدول تطبق أحياناً على الأفراد فيظن الناس أن هذه صفاتهم الرئيسية، وباقي
الصفات ضعيفة، كما يقال: شجاعة عليٍّ وحياء عثمان رضي الله عنهما، فيظن
البعيد أن علياً شجاع بلا سياسة، وأن عثمان حيي بضعف.
إن هذه التعميمات في الأحكام قد تكون صادقة في جانب من الجوانب، ولكنها
لا تعطي الصورة الصحيحة للموضوع المتحدث عنه، وهذا من أكبر المغالطات
التي تحجبنا
عن التفكير السليم، بل وتحجب الحقائق عنا لأننا لم نتعود الدخول في
التفاصيل والجزئيات التي باستقرائنا لها نكون أقرب للصواب.
وقبل أن نجيب على السؤال المتبادر: هل الدولة العباسية أعجمية خراسانية؟ أحب أن أوضح طبيعة الدعوة العباسية أولاً ثم الدولة العباسية ثانياً.
أولاً: نشطت الدعوة العباسية كحركة مضادة للدولة الأموية، همها الأول
إسقاط الحكم الأموي مهما كانت الوسائل، فهي حركة منظمة ترفع شعارات عامة
لتجمع الناس من حولها، وينضوي الكل تحت لوائها، كل حسب فهمه وتوقعاته،
ولا مانع لديها من العمل بواجهات متعددة ومختلفة، فهي إسلامية ترفع شعار العدل
ضد ظلم بني أمية، وهي هاشمية ترفع شعار أحقية بني هاشم دون تفريق بين آل
العباس أو آل علي. وهي في خراسان تتقرب من السكان الأصليين ومن العرب
اليمانية الذين استقروا هناك، ومن قوادها ومنظميها عرب وخراسانيون، وقد ينضم
إليها من يحمل في نفسه أغراضاً دينية وسياسية بعيدة كل البعد عن الإسلام.
يقول ابن تيمية واصفاً هذه الحالة: وكان في أنصارها من أهل المشرق ...
والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «الفتنة
هاهنا» [2] وظهر حينئذ كثير من البدع ... وكان المهدي من خيار خلفاء بني
العباس وأحسنهم إيماناً وعدلاً وجوداً فصار يتتبع المنافقين الزنادقة [3] .
ثانياً: ولكن الدعوة بعد نجاحها وتحولها إلى دولة تبنت المذهب السني، وتجد
الدولة نفسها في صراع مع أصحاب المذاهب الهدامة من (مانوية) أو (بابكية ... خرمية) وعندما لم تجد في العراق ما يكفي من العلماء لنشر السنة أتوا من المدينة بعلماء مهدوا السبيل كربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد، وارتحل إليهم هشام بن عروة وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومحمد بن إسحاق، ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك " [4] .
ويقول ابن تيمية: وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهداً للصلوات في أوقاتها من بني أمية، فإن أولئك كانوا كثيري الإضاعة لمواقيت الصلاة كما جاءت فيهم الأحاديث:
(سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها
واجعلوا صلاتكم معهم نافلة) [5] .
وهذه الدولة فيها ظلم أيضاً وقع من ملوكها أو ولاتها وفيها بدع تبناها المأمون
وإخوته، وترجموا كتب اليونان التي كان لها الأثر السيئ على الأمة الإسلامية
ولكنها تبقى دولة إسلامية كما جاء في الحديث (ثم يكون ملكاً عضوضاً) ويصفها
المؤرخ ابن طباطبا: بأنها دولة فيها مكر وخداع، وفي تعليق للذهبي عن تحول
الدولة إلى بني العباس قال: (فرحنا بمصير الأمر إليهم ولكن والله ساءنا ما جرى
من سيول الدماء والسلب والنهب) [6] .
ونستطيع القول: إن الدعوة العباسية أرادت أن تكون دولة إسلامية غير
منحازة لفريق دون آخر ولكنها لم تتخذ الوسائل الكافية لذلك، بل وقعت فيما أبت
وتسلط عليها في بعض الفترات أسر ذات نفوذ كبير، ثم تسلط عليها الأتراك.
ونعود للسؤال الأول: هل الدولة العباسية دولة أعجمية؟ فنقول:
1- إن مؤسسي هذه الدولة من بني هاشم من صميم قريش وكانوا مؤسسين
فعلاً وليسوا أداة بيد أحد، والذي خطط لهذه الدعوة هو محمد بن علي بن عبد الله
بن العباس وقام بتنفيذها بعده ابنه إبراهيم. وبدأت الدولة بأخيه عبد الله الملقب
بالسفاح ثم بأبي جعفر المنصور، وكانوا أقوياء ولا يستطيع أحد أن يتخذهم أداة
لتنفيذ أغراضه.
2- كان عدد النقباء الذين يشرفون على الدعوة في خراسان وغيرها اثني
عشر نقيباً معظمهم من العرب أمثال:
سليمان بن كثير الخزاعي، وهو رئيس النقباء وشيخهم.
مالك بن الهيثم الخزاعي.
طلحة بن رزيق الخزاعي.
موسى بن كعب التميمي.
القاسم بن مجاشع التميمي.
قحطبة بن شبيب الطائي.
خالد بن إبراهيم الشيباني.
سالم بن سلام البجلي.
3- إن اصطلاح (أهل خراسان) لا يعني بالتاكيد أن جميعهم من سكان البلاد
الأصليين، فالعرب استوطنوا قرى خراسان ومدنها، وكثير منهم من العرب الذين
هجّرهم زياد بن أبيه حين كان أميراً على العراق، وذلك لشغبهم على الأمويين،
وكثيراً ما يظن بعض الكتاب أن فلاناً أعجمي بسبب نسبته إلى إقليم أو مدينة في
إيران، والحقيقة أنه عربي فالذي يسمع باسم جديع بن علي الكرماني يظنه أعجمي
وهو من رؤساء الأزد، أو الفضل بن سليمان الطوسي وهو من تميم [7] .
4- من الأدلة على أن عرب خراسان ساهموا في الدعوة العباسية ما تؤكده
رواية في مخطوط (أخبار العباس) تقول: " طالت الفتنة بين نصر بن سيار وعلي
ابن الكرماني ومن كان بها من العرب حتى أضجر ذلك كثيراً من أصحابها، وجعلت
نفوسهم تتطلع إلى غير ما هم فيه وإلى أمر يجمعهم، فتحركت الدعوة يدعو اليماني
اليماني والربعي الربعي.. " [8] .
ولا شك أن الموالي لهم دور في قيام الدولة، فالدعوة كما قلنا قامت بواجهات
متعددة.
5- وأما ما يذكر عن رسالة إبراهيم بن محمد بن علي العباسي إلى أبي مسلم
الخراساني الذي يقول فيها: (.. وإن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل..)
(الطبري 6/ 14) فهذا الجزء من الرسالة فيه تناقض صريح، فكيف يعتمد
على نقباء عرب وعلى قبائل عربية ويوصي خاصة باليمانيين ثم يقول له اقتل كل
عربي. وقد حاول الدكتور يوسف العش في كتابه عن الخلافة العباسية أن يثبت
تصحيف هذه الجملة وأنها ربما تكون (إنساناً مريباً) وحاول منقح الكتاب أن يثبت
أنها (لساناً غريباً) ولكن الدكتور فاروق عمر أثبت من خلال مخطوط (تاريخ
الموصل) للأزدي أن الرسالة كتبت بهذه الصيغة (فاقتل من شككت في أمره ومن
كان في نفسك منه شبهة، أو وقع في نفسك منه شيء، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار
تتهمه فاقتله) [9] . ونحن هنا لا نناقش الوصية من حيث قسوتها أو وحشيتها،
فالأزدي نفسه الذي أورد هذا النص أنكر على العباسيين قسوتهم على حركة قامت
بالموصل، والذي نريد التأكيد عليه هو أنه لا يمكن أن يصدر كلام متناقض من قبل
منظر كبير للدعوة مثل إبراهيم الإمام.
6-إن العباسيين بعد أن استقر لهم الأمر استخدموا أقسى الوسائل مع
خصومهم سواء كانوا عرباً أم خراسانيين فقد قتل أبو سلمة الخلال الذي كان يسمى
بوزير آل محمد، وقتل عبد الله بن علي العباسي عم الخلفاء السفاح والمنصور لأنه
منافس خطير لأبي جعفر على الخلافة، وقتل قائدهم المشهور أبو مسلم الخراساني، كما جابه المنصور حركة الرواندية الباطنية بعد أن أصبحوا خطراً على الدولة،
أما قبل ذلك فلم يتحرك لهم وعندما نصح بضربهم قال. (دعهم يدخلون النار في
طاعتنا على أن يدخلوا الجنة في معصيتنا) [10] .
وأخيراً فإننا لا نستطيع أن نبرئ الدولة العباسية بشكل عام من الوصف الذي
وصفت به لأنه قد تسلط فعلاً بعض الأسر الأعجمية الذين لهم هوى وثقافة معينة
يريدون تطبيقها على نظم الحكم أو العادات والتقاليد، ومن أمثلة هذه الأسر.
البرامكة، وبنو سهل، وبنو طاهر، ولكن الخلفاء في هذه الفترة كانوا أقوياء
وعندما كانوا يشعرون بجدية خطر هؤلاء كانوا يستأصلونه.
وقد يقال إن طبيعة التطور في أمثال هذه الدول أن تستعين بالأباعد حسداً
وحرصاً وبعداً عن أطماع الأقارب وإن كان فيه هلاكها في النهاية. وقد وقع لبني
أمية في الأندلس قريب من هذا وتبقى المشكلة في هذا الفكر الذي يريد أن يلخص
حال دولة بجملة واحدة، ولا يحب الدخول في تفاصيل الأسباب الكثيرة والجزئيات، هذه النظرة القاصرة الأحادية للأمور وعللها والتي لا زالت تؤثر في حياتنا
وتقويمنا للأشخاص والأشياء.