نظرات في الاتجاه العلماني وموقفه من الإسلام
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
بعد سياحة في المعاجم العربية توصل (المثقف التقدمي المستنير) إلى أنه
لايجب على زملائه التقدميين والطليعيين والمستنيرين والليبراليين والعلمانيين (كما
عددهم بنفسه) أن يغفلوا عن (خطاب عن العميان) عنوان مبحث مهم للمفكر
الفرنسي المادي (بريتون ديدرو) سطره عام 1749م ويمثل (ديدرو) عصر التنوير
في قمة جنوحه نحو مايعرف (بالمذهب التأليهي) الذي يروج له التنويريون في
بلادنا مؤخراً. ظهر هذا المذهب في أوروبا في أواخر القرن السابع عشر، ثم شاع
في القرن الثامن عشر، بسبب نزوع هذا القرن إلى (العقلانية) وتركيزه على العلم
وإعمال العقل. يدعو هذا المذهب إلى الإيمان بالله وينبذ الإلحاد والوثنية، لكنه
أصبح بمضيّ الوقت سبباً في تقويض الدين من أساسه. يزعم أصحاب هذا المذهب
بوجود كائن أسمى أو خالق للكون يتسم بالخير والحكمة والصلاح يطلقون عليه
(المهندس الأعظم أو عالم الرياضيات الأعظم) الذي استطاع أن يخلق آلة في منتهى
الدقة والروعة هي آلة الكون، لكنهم ينكرون الدين المنزل أو الدين الموحى به،
ويزعمون أن الله كف عن التدخل في شؤون الكون بمجرد أن انتهى من خلقه وتركه
يسير بمقتضى مجموعة من القوانين التي لاتتبدل ولاتتغير، ويردد التأليهيون أفكاراً
تناصب الدين العداء ويدّعون أن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) جماعة من
المحتالين والنصابين الجشعين الذين اخترعوا الجنة والنار بهدف إحكام سيطرتهم
على العباد، ويرون أن الروح تفنى كالجسد، ويرفضون الأخلاق القائمة على الدين، ويعتقد بعضهم أن الإنسان ليس سوى قرد ارتفع في مدارج الرقي والتثقف.
وتوجد إرهاصات المذهب التأليهي عند أتباع الفيلسوف العربي (ابن رشد) ، كما
تقول دائرة المعارف البريطانية [1] . والتأليهيون يستخدمون مصطلح (الخطاب
الديني) عند تعاملهم مع (خصومهم) الإسلاميين وإن استبدلوه بمصطلح (اللسان
الديني) ؛ لأن المصطلح الأول يضفي على اللسان الديني مايفتقر إليه من تناسق
وترابط وصدق ومنطقية. و (الخطاب) كما استخرج معناه من المعاجم العربية هو:
كلام في شأنٍ ذي درجة ملحوظة من الأهمية ويتسم بالتنسيق والمعاودة والتحبير،
وفيه قياس ويحتوي على مقدمات ونتائج، وما يلقيه (الآخر) ويقصد به (الخصم
الإسلامي) يفتقر في خطابه إلى ذلك كله. أما سبب استبدال (الخطاب) باللسان فلأنه
كما يتصور يتفق مع ما (يهدر) ! به هؤلاء الإسلاميون الذين يميلون إلى التغلب
على خصومهم بالحق وبالباطل وهم كثيرو الكلام، لايكفون عنه ويعدونه البديل أو
المعادل للفعل، ومعظم كلامهم تقوّل وأخبار، وأقله منطق وعقلانية، كما أنهم
يقولون مالايفعلون، ولايأتمرون بما يأمرون الناس به، ولاينتهون عما ينهون
غيرهم عنه، ولاهمّ له كما يقول بالنص إلا (الهمز والغمز والعض والقرص
والخمش واللدغ) وقد اكتشف في القاموس المحيط (لسَنَت العقرب أي لدغت) .
سمات الخطاب الإسلامي في زعمهم:
بعد هذا القدح في الإسلاميين وخطابهم أو لسانهم كما يرى هذا المثقف
التقدمي المستنير نجده يصف هذا اللسان بمايلي:
أولا: أنه صاحب فاعلية قوية لدى العامة ومؤخراً لدى المتعلمين، ويعني بهم
حملة الشهادات العليا حتى الدكتوراه، بل لدى قطاع واسع من الأكاديميين وأساتذة
الجامعة وليس (المثقفين) من أقرانه فحسب.
ثانياً: أنه يمتلك القابلية الثبوتية أو اليقينية لدى المتلقي التي لايجاريه فيها أي
خطاب غيره (!) ، فمن يستقبله لا يطالب مَنْ (يُلاسنه) بأي برهان أو حجة بل
على الفور يسلم ويذعن وتنشر في عقله وذهنه ووجدانه أمارات الاقتناع والرضى
والقبول المطلق غير المشروط، ولاتخطر على باله مجرد خاطرة ولو ضعيفة أن
يطالب من يلقيه عليه بأقل القليل من قرينة، بل من أدلة ثبوت.
عاب (المثقف التقدمي المستنير) على أقرانه من أصحاب الخطاب التقدمي
ردود فعلهم للخطاب أو (اللسان) الإسلامي ووصفها بأنها: زاعقة، صارخة إنشائية، خطابية، تتهم الإسلاميين بالظلامية والعودة للقرون الوسطى ومحاكم التفتيش
وشق الصدور، والقلوب، وخرق المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، وإعلان (ليما)
عن حرية البحث العلمي، وتذكر بما جرى (لجاليليو (و) كوبرنيكس) ، وإهدار
كرامة النساء، والتدخل في الخصومات واقتحام العلاقات الحميمة، فقدموا بذلك
على طبق من ذهب إبريزٍ خالص لخصومهم الإسلاميين دليل الثبوت على صحة
مايقال عنهم بالنفور من الإسلام ومعاداتهم إياه وكل مايمت إليه بأدنى صلة) .
إن المقارنة بين الخطابين بنص ماوصفهما به (المثقف التقدمي) تطرح عدة
تساؤلات:
أولاً: كيف لخطاب أو حتى للسان يفتقد إلى التناسق والترابط والصدق
والمنطقية أن يكون له مثل هذا التأثير الذي اعترف به للخطاب الإسلامي حتى على
خصومه من المثقفين المستنيرين؟ !
ثانياً: كيف لأصحاب (لسان) يمتلك كل هذه الفاعلية وكل هذا التأثير أن
يكونوا أصحاب ادعاء زائف يخفون تحته الدفاع عن مصالحهم ومنافعهم ومكاسبهم
وطموحاتهم وأحلامهم؟ ! وكيف لا يطالب المستمع إلى هذا (اللسان) بأي دليل أو
حجة ويذعن ويسلم على الفور، ثم يتهم صاحبه بأنه يقدم تفسيراً مزوراً للإسلام
يعلن بكل جرأة أنه الحق؟ وإذا انخدع بذلك العوام فكيف ينخدع به المتعلمون
والأكاديميون وأساتذة الجامعات، بل المثقفون التقدميون المستنيرون؟ !
ثالثاً: كيف لايملك الخطاب التقدمي ولو بعض هذا التأثير الذي يمتلكه
الخطاب الإسلامي، إذا سلمنا جدلاً بتناسقه وصدقه ومنطقيته؟ وكيف يكون التناسق
والصدق والترابط والمنطقية في خطاب وصفه صاحبه بنفسه بأنه زاعق صارخ
إنشائي خطابي؟ .
أصاب المثقف المستنير حينما نبه أقرانه من الطليعيين والتقدميين والعلمانيين
إلى الحقائق المهمة التالية:
أولا: أن الثقافة الإسلامية:
أ - مكون رئيس في بنية الثقافة العامة في المنطقة العربية.
ب - أنها طرف فاعل فيما يسميه بمعركة الأصالة والحداثة.
ج - أنها غدت في السنوات الأخيرة تحتل حيزاً واسعاً أكبر مما كان متوقعاً
في الفضاء الثقافي.
د - أنها ملك للجميع وليست حكراً على أحد ولاتقل أهمية عن الثقافات
الأخرى.
هـ أنها ثرية عميقة خصبة متعددة النواحي تثري الفكر والعقل والوجدان.
وأن أي مشروع ثقافي أو فكري أو حضاري يتجاهل الإسلام سيسقط سقوطاً
مدويا.
ثانيا: أن المثقف العربي عموما:
أ - مهما بلغ قدره فإنه يتجاهل الثقافة الإسلامية ويعرض عنها بل ويزدريها
وأن هجر هذه الثقافة (أو احتقارها) أصبح سمة مميزة لأغلب المثقفين الليبراليين.
ب - أن هذا المثقف يتعبد في محراب الثقافات الأخرى، ويعتقد أنها غاية
المراد من رب العباد ونهاية المطاف على حد تعبيره.
ثالثا: أقر المثقف المستنير بنص عباراته (بالفقر المدقع في الثقافة الإسلامية
لدى التقدميين والطليعيين والمستنيرين) .
رغم كل ما اعترف به (المثقف المستنير) من خصائص ومزايا الثقافة
الإسلامية واللسان الإسلامي، فإنه يصر على الدخول في معركة مع (خصمه)
الإسلامي يسميها (بمعركة الاستنارة) ويصفها بأنها معركة تحتاج إلى نفس طويل
وصبر جميل، ويعترف بأنها ستكون سجالاً أي هزائم وانتصارات سيتسلح فيها بما
يسميه (الإيمان بالقضية التي يناضل من أجلها وعدم اليأس مهما حدث) فالخصم
الإسلامي كما وصفه المثقف المستنير خصم شرس وعنيد ويمتلك إمكانيات بالغة
الضخامة.
يطلق المثقف المستنير على أسلوب المعركة مع (الخصم) الإسلامي المواجهة
من الداخل، ويقول في ذلك: (إن رأينا أن نشهر في وجهه السلاح ذاته الذي يدعي
أنه يمسك به، وهو الثقافة الإسلامية.. إن حجاج الآخر لايتأتى إلا من داخل
الثقافة الإسلامية التي يتفاخر أنه من حملتها.. إن تسعين في المائة مما يطرحه
الخصم كحجة مسلمة لايأتيها الباطل من أي مكان هي مجرد مقولة عليها خلاف
شديد) ، قيل للمثقف التقدمي: (إننا بذلك نلعب على ملعبهم وهم أقدر منا على
الفوز) ، فرد قائلا: (هذه حجة داحضة تقطع بأن قائلها يدخل في زمرة المبهورين
بذلك اللسان، فالثقافة الإسلامية ليست وقفاً عليهم، بل هي ملك لنا جميعاً
ولايجرؤون على إنكار ذلك، ومن يرفع هذا الاعتراض يقدم الدليل على عجزه عن
اقتحام مجالات الثقافة الإسلامية) .
ثم قيل له اعتراضاً: (إنك إذا أتيت بأدلة قوية فإنهم سيأتونك بأدلة أقوى أو
على الأقل لاتقل قوة) فكان رده: (نكون إذن قد كسبنا كثيراً. إن مايميز الآخر هو
طرحه لمقولاته بثقة مفرطة تصل إلى حد الغرور، لأنها في نظره يقينية ثابتة
راسخة لايدنو الشك منها أدنى دنو، فإذا صادمناها بمقولات مناقضة مستقاة من
مصادر لايستطيع أن ينبس إزاءها إلا بالإذعان والتسليم والخضوع اهتزت ثبوتية
أقواله وارتعش رسوخها، وتخلخلت يقينيتها، وتهاوت صلابتها، وأدرك المتلقي
لها أنها ليست فصل الخطاب ولاهي عين اليقين بل (فيها قولان) وعليها اختلاف،
وهي محل نظر وبشأنها أخذ ورد وشد وجذب.. إلخ وهذا كسب في غاية الأهمية إذ
بذلك ستغدو طروحات الآخر مثل غيرها قابلة للنقاش والجدال والحوار والنقد
والتوهين، بعد أن فككنا عنها القداسات الزائفة التي طالما أضفوها عليها، إننا
بسلوكنا هذا الطريق لوحققنا ذلك وحده لكان في تقديرنا انتصاراً في شطر كبير من
معركتنا الضارية مع (الآخر) ، وتبقى بعده العوامل الأخرى التي لاننفيها أو
نعترض عليها أو حتى نقلل من شأنها، بل على العكس من ذلك نقدرها حق قدرها
وندرك مدى تأثيرها وفاعليتها، ولكن الذي نشدد عليه هو: أن نبدأ البداية
الصحيحة وهي: المواجهة من الداخل [2] .
يأخذ (المثقف المستنير) جانب أقرانه من الطليعيين والعلمانيين رغم
اعترافه بفاعلية وتأثير الخطاب الديني وقوة وثراء الثقافة الإسلامية التي يستند إليها
أصحاب هذا الخطاب وفقر وعداء أقرانه لهذه الثقافة ثم يقودهم إلى معركة مع
الإسلاميين مرشداً إياهم إلى سلاح (المواجهة من الداخل) ، ويقصد به: الاستناد إلى
اختلاف الفقهاء في القضية موضع النزاع، وتبني القول المخالف للقول الذي رجحه
الإسلاميون إذا كان موافقاً لهوى العلمانيين والطليعيين والمستنيريين.. إلخ.
يقول الإمام الشاطبي في (الموافقات) رداً على مثل ذلك:
أولاً: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وإن كثر الخلاف،
كما أنها في أصولها كذلك، ولايصلح فيها غير ذلك.
ثانياً: إن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين
القولين نقص لذلك الأصل.
ثالثا: متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق
لهم مرجع إلا اتباع الشهوات، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة.. وعلى هذا
ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف.
رابعا: إن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة
ناجون وأن أهل الأوثان هالكون، ولتعصم هؤلاء، وتريق دم هؤلاء على الإطلاق
فيهما والعموم، فإذا كان النظر في الشريعة مؤدياً إلى مضادة هذا القصد صار
صاحبه هادما لقواعدها وصادًاً عن سبيلها.