خواطر في الدعوة
محمد العبدة
ليس أمر العلاقات الاجتماعية بالأمر الذي يُتساهل فيه، ولا بالأمر الذي يترك
لتأتي له بحلول مع تطاول الزمن، ذلك لأنه يمس العلاقات الأخوية بين المسلمين،
وهذه العلاقات هي الركن الأساس في بناء الصف الإسلامي وتماسكه، وما تحريم
الغيبة والنميمة، وما ذِكر الأحاديث التي تنهى عن هجر المسلم إلا لصيانة هذه
العلاقات وحمايتها من التدهور، ولأهميتها يقول (سبحانه وتعالى) للمسلمين الذين
يطيلون المكث في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ..] [الأحزاب: 53] ، وقد
استأذن أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وهو مضطجع على فراشه، فأذن لهما وقضى حاجتهما، وعندما أذن لعثمان
(رضي الله عنه) جلس وترك الاضطجاع، وعندما سألته عائشة عن ذلك قال: إن
عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لايُبلغ إليّ في
حاجته. وفي الحديث الذي أخرجه البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) والذي
جاء فيه التماس علي (رضي الله عنه) مصالحة أبي بكر ومبايعته بعد وفاة فاطمة
(رضي الله عنها) ، في هذا الحديث تتجلى الأخلاق العالية، والنفوس الكبيرة التي
تكره الخصام وجفاء العلاقات بين المسلمين، وكيف أن المعاتبة قد تؤدي إلى عودة
الصفاء إلى القلوب، وعودة الأمور إلى طبيعتها.
جاء في الحديث أن علياً أرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك،
فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله ولم
ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا
من رسول نصيباً حتى فاضت عين أبي بكر، ثم قال علي لأبي بكر: موعدك
العشية (بعد الزوال «للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقِيَ على المنبر وتشهد،
وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعَذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر، وتشهد
عليّ فعظّم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر
ولا إنكاراً للذي فضّله الله عليه، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبدّ بنا
فوجدنا في أنفسنا، فسُر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت ... » [1] .
قال شارح الحديث: لم ننفس عليك خيراً: أي لم نحسدك على الخلافة،
ولعل علياً أشار إلى أن أبا بكر استبد عليه بأمور عظام كان مثله عليه أن يحضره
فيها ويشاوره مثل عقد الخلافة. والعذر لأبي بكر أنه خشي من التأخر عن البيعة
الاختلاف، قال القرطبي: «من تأمل مادار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن
الاعتذار، وما تضمن ذلك من الإنصاف، عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل
الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد
يغلب أحياناً ولكن الديانة ترد ذلك» [2] .
أراد علي (رضي الله عنه) أن يزيل الجفاء الذي وقع، وقد فرح المسلمون
بذلك، والدعاة اليوم أحوج ما يكون إلى مثل هذا التحرج والتأثم في بقاء الجفاء،
والبعد عن العلاقات الودية، وأن عليهم إزالة ما تعتكر به النفوس، وقطع دابر
ماينقله النمامون، ولعلّ ذلك يفرح المسلمين ويزيد ثقتهم بهم، ويأملون خيراً للدعوة.