دراسات شرعية
بين أهل السنة وأهل البدعة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن المنهج العلمي للاستدلال، وبين أنه يعتمد
على (الكتاب والسنة والإجماع) . ثم بين أن الاستدلال بهما يعتمد على ثلاث قواعد، الأولى: تعظيم النصوص، الثانية: الاعتماد على السنة الصحيحة، الثالثة:
صحة الفهم. ثم فصّل في القاعدة الثالثة، وذكر المسائل التي تعين على صحة الفهم، ومنها: الاعتماد على منهج الصحابة، ومعرفة اللغة العربية. ويواصل ذكر هذه
المسائل، ثم يتحدث عن منهج الاستدلال عند المبتدعة مبيناً فساده.
- البيان -
ثالثاً: جمع النصوص الواردة في الباب الواحد:
تمثل النصوص الشرعية وحدة واحدة يكمّل بعضها بعضاً، فكلها خرجت من
مشكاة واحدة، فلا يمكن أن يرد التناقض أو الاختلاف بينها، فقد وصف الله كتابه
العزيز بقوله: [وَإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [فصلت: 41، 42] .
وإذا تقرر هذا: فإنّه لايجوز أن يؤخذ نص ويترك نص آخر في الباب نفسه، فهذا سيؤدي إلى تقطيع النصوص وبترها، قال الله (تعالى) : [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] [البقرة: 85] .
وفي هذا الباب يقول ابن تيمية: «إذا ميّز العالم بين ما قاله الرسول -صلى
الله عليه وسلم- وما لم يقله، فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله، ويجمع بين
الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويُفرق
بين ما فرق الله بينه ورسوله؛ فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون، ويجب تلقيه
وقبوله، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين) » [1] .
وقال الشاطبي: «ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد:
وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة
عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما
ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومطلقها
المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بِبَيّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا
حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين
استنبطت ... » .
ثم يذكر القاعدة الإجمالية فيقول: «فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة
واحدة، يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة» [2] .
وبعد هذا التقرير العلمي المتين يتبين: أنه لابد من جمع النصوص الواردة
في الباب الواحد، ووضع كل نص في موضعه. ولكن أحياناً قد يظهر التعارض
في ذهن الدارس لهذه النصوص، ولهذا وضع أئمة العلم قواعد علمية لدرء
التعارض، وهي:
1- الجمع بين النصوص بطريقة من طرق الجمع المعتد بها عند علماء
الأصول، مثل:
(أ) ردّ العام على الخاص.
(ب) ردّ المطلق على المقيد.
(ج) رد المجمل على المبين.
(د) رد المتشابه إلى المحكم.
(هـ) معرفة الناسخ والمنسوخ.. ونحو ذلك من الطرق.
2- الترجيح بين النصوص بطريقة من طرق الترجيح التي ذكرها علماء
الأصول، ويلجأ إلى هذه الحالة عند تعذر الجمع بينها.
3- وإذا لم يستطع الدارس الجمع أو الترجيح فإنه يتوقف حتى يتبين له الأمر.
رابعاً: معرفة مقاصد التشريع الإسلامي:
من فضل الله ورحمته على هذه الأمة أن شرع جميع الأحكام لمقاصد وغايات
عظيمة مبنية كلها على مصالح العباد في دنياهم وأخراهم، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ]
[يونس: 57] .
قال ابن تيمية: «الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل
المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدم
عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين» [3] .
وقال ابن القيم: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في
المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها،
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن
المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت
فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله أتم دلالة وأصدقها» [4] .
إن معرفة مقاصد التشريع وغايات الأحكام تعين المجتهد في تصورالأحكام
تصوراً متكاملاً، ومن ثم يستطيع تقدير المصالح والموازنة بينها، والاجتهاد في
النوازل، ووضع الأمور في مواضعها اللائقة بها شرعاً وعقلاً؛ ولهذا فصّل العلماء
في دراسة الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ووضعوا قواعد لرفع الحرج
ودفع الضرر، وقواعد لسد الذرائع والمصالح المرسلة.. ونحو ذلك من المسائل،
لكي تعين المجتهد في تنزيل النصوص منازلها، وأخذها بمقاصدها، ولكي يعصم
الاجتهاد من الزيغ والانحراف.
منهج المبتدعة في التعامل مع النصوص الشرعية:
وبعد أن بينت المنهج العدل لأهل السنة في الاستدلال، أذكر فيما يلي منهج
المبتدعة، حيث تميّز المبتدعة على اختلاف فرقهم بالتقديم بين يدي الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وعدم تعظيم ما جاء في الكتاب والسنة. وسأذكر في هذه
المقالة أصولاً عامة لمنهج المبتدعة في الاستدلال، وهي:
الأصل الأول: رد النصوص الثابتة والجرأة في الاعتراض عليها.
الأصل الثاني: العبث في الأصول الشرعية للاستدلال وتشويهها.
الأصل الثالث: إحداث أصول بدعية جديدة للاستدلال والتلقي.
وليس بالضرورة أن تأخذ كل فرقة من فرق المبتدعة بتفريعات هذه الأصول، فهم متفاوتون في بدعهم إفراطاً وتفريطاً، وينبغي التأكيد هنا أنني لا أتحدث عن
تاريخ مضى وانتهى، بل إن الفرق المتقدمة والمناهج المبتدعة لها امتدادات واسعة
في عصرنا الحاضر، بل زادت الانحرافات والضلالات مع زيادة الغفلة وتتابع
الجهل وقلّة العلماء. وقديماً قال ابن تيمية: «فالبدع في أولها شبراً، ثم تكثر في
الأتباع حتى تصير أذرعاً وأميالاً وفراسخ» [5] .
الأصل الأول: ردّ النصوص الثابتة والجرأة
في الاعتراض عليها:
لعلّ من أوضح الأمثلة على هذا الأصل ما قاله عمرو بن عبيد إمام المعتزلة
وذكر حديث الصادق المصدوق: «لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو
سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقول هذا لما قبلته،
ولو سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا لرددته، ولو سمعتُ الله
يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا! !» [6] .
وقال عمرو بن عبيد أيضاً: «لو كانت (تبت يدا أبي لهب» في اللوح
المحفوظ لم يكن لله على العباد حجّة! « [7] .
وهذان مثالان جليان في جرأة المبتدعة على رد النصوص الثابتة المحكمة
والاعتراض عليها، وهي علامة من علامات الزندقة والفجور؛ ولهذا يصف ابن
تيمية غلاة الصوفية بقوله:» .. ولهذا يوجد في هؤلاء وأتباعهم من ينفرون عن
القرآن والشرع كما تنفر الحمر المستنفرة التي تفرّ من الرماة ومن الأسد، ولهذا
يوصفون بأنهم إذا قيل لهم: قال المصطفى، نفروا.. « [8] .
وقال أيضاً:» فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى نبذ القرآن وراء
ظهره، واتبع ما تتلوا الشياطين، فلا يُُعظم أمر القرآن ونهيه، ولا يوالي من أمر
القرآن بموالاته، ولايعادي من أمر القرآن بمعاداته « [9] .
ونظير هؤلاء: زنادقة العصر الحديث من العلمانيين وأشباههم الذين بلغت
جرأتهم في رد النصوص والاعتراض عليها حداً عظيماً والعياذ بالله، حتى بلغ
الحال عند بعضهم زَعْمَ أنّ الدين تراث مقدس، لكنه ليس صالحاً لهذا الزمان!
ولهذا طالبوا بفصله عن جميع شؤون الحياة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
والإعلامية.. ونحوها.
الأصل الثاني: العبث في الأصول الشرعية
للاستدلال وتشويهها:
إن العبث في الأصول الشرعية للاستدلال سمة بارزة من سمات المبتدعة،
وهو باب من أبواب الحرب على الدين بتكدير منابعه وتشويه أصوله، ويأخذ هذا
العبث صوراً وأشكالاً متعددة تختلف باختلاف المبتدعة ومناهجهم، ومن أبرز معالم
هذا العبث:
أولاً: اتهام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكذب وتجهيله:
بلغ من انحراف بعض غلاة المبتدعة اتهامهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-
بالكذب والجهل، وذلك مثل قول غلاة الجهمية والفلاسفة، قال ابن تيمية عن
متأخري الصابئة:» .. ثم إن هؤلاء فيما تقوله الأنبياء حيارى متهوّكون، فإنه
بهرهم نور النبوة، ولم تقع على أصولهم الفاسدة، فصاروا على أنحاء، منهم: من
لايؤمن بكثير مما تقوله الأنبياء والمرسلون، بل يعرض عنه أو يشك فيه أو يُكذب
به، ومنهم من يقول: يجوز الكذب لمصلحة راجحة، والأنبياء فعلوا ذلك، ومنهم
من يقول: يجوز هذا لصالح العامة دون الخاصة، وأمثلهم من يقول: بل هذه
تخيلات وأمثال مضروبة لتقريب الحقائق إلى قلوب العامة، وهذه طريقة الفارابي
وابن سينا، لكن ابن سينا أقرب إلى الإيمان من بعض الوجوه وإن لم يكن مؤمناً.
فمن أدركته رسالة محمد وبهرته براهينها وأنوارها، ورأى ما فيها من
أصناف العلوم النافعة والأعمال الصالحة.. فلابد أن يتأول نصوص الكتاب والسنة
على عادة إخوانه في تحريف الكلم عن مواضعه، فيحرفون ما أخبرت به الرسل
عن كلام الله تحريفاً يصيرون به كفاراً ببعض تأويل في بعض صفات تنزيله.. «.
إلى أن قال في وصف منهجهم:» فهؤلاء جعلوا القرآن عضين، وضربوا
له الأمثال، مثل ما فعل المشركون قبلهم، كما فعلوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن هؤلاء منهم من يفضل الولي الكامل والفيلسوف الكامل على النبي -صلى الله
عليه وسلم-، ومنهم من يفضل بعض الأولياء على زعمه، أو بعض الفلاسفة مثل: نفسه أو شيخه أو متبوعه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وربما قالوا: هو
أفضل من وجه والنبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من وجه، فلهم من الإلحاد
والافتراء في رسل الله نظير مالهم من الإلحاد والافتراء في رسالات الله، فيقيسون
الكلام الذي بلّغته الرسل عن الله بكلامهم، ويقيسون رسل الله بأنفسهم « [10] .
ثانياً: كتم النصوص:
ذكر الله (تعالى) أن أهل الكتاب كانوا يكتمون الحق، ولايظهرون منه إلا ما
تهواه نفوسهم، فقال (تعالى) : [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] [آل عمران: 71] .
وقد اقتدى المبتدعة بأهل الكتاب، وأخذوا بنصيب وافر من هذه الصفة
الذميمة، ولهذا قال وكيع بن الجراح» أهل العلم يكتبون مالهم وما عليهم، وأهل
الأهواء لايكتبون إلا مالهم « [11] .
وقال ابن تيمية:» ومن المعلوم أنك لاتجد أحداً ممّن يَرُدّ نصوص الكتاب
والسنة بقوله، إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت،
وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط ذلك من المصحف لفعله. قال بعض
السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه، وقيل عن بعض
رؤوس الجهمية إما بشر المريسي أوغيره أنه قال: ليس شيء أنَقْصَ لقولنا من
القرآن، فأَقِرّوا به في الظاهر، ثم صرّفوه بالتأويل. ويقال إنه قال: إذا احتجوا
عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل؛ ولهذا
تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك
والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافاً لما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
من التبليغ عنه « [12] .
ثالثاً: تحريف النصوص:
تحريف النصوص ظاهرة خطيرة جداً وقع فيها كثير من المبتدعة بدرجات
متفاوتة، وسلفهم في هذا اليهود، فقد وصفهم الله بقوله: [أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا
لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [البقرة: 75] .
وثمرة التحريف: تشويه النصوص وتكدير المنابع، حتى يتسنّى للمبتدعة
العبث في دين الله (تعالى) ، وهو ثلاثة أنواع بعضها أخفى من بعض:
النوع الأول: تحريف اللفظ.
النوع الثاني: تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه.
النوع الثالث: تحريف الأدلة عن مواضعها.
وسأتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة باختصار شديد.
النوع الأول: تحريف اللفظ:
وصف الله (تعالى) اليهود بقوله: [وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ
المُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَذِي قِيلَ لَهُمْ فَأََنزَلْنَا عَلَى الَذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] [البقرة: 58، 59] .
وأخرج البخاري: عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-:» قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حِطة، فدخلوا يزحفون
على أستاههم، فبدّلوا: وقالوا: حطة حبّ في شعرة « [13] .
وتحريف اللفظ يؤدي إلى تحريف المعنى، ولهذا حرص عليه أئمة المبتدعة،
ومن أمثلة ذلك ما رواه عاصم الأحول قال:» رأيت عمرو بن عيد يحك آية من
المصحف، فقلت له: سبحان الله! قال: «إني سأعيدها. قلت: أعِدْها. قال: لا
أستطيع!» [14] .
وقد كان المعتزلة يحرفون كثيراً من النصوص، من ذلك قول الله (تعالى) :
[وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] [النساء: 164] ، حيث يقرؤون لفظ الجلالة بالنصب
لكي يوافق مذهبهم الباطل في نفي صفة الكلام لله (عز وجل) .
النوع الثاني: تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ماهو عليه:
والمقصود به: صرف اللفظ عن ظاهره، وما يفهمه كل عربي من معناه،
وهو الذي يسميه بعضهم بالتأويل، وهو أكثرخفاء من النوع الأول، وباب التأويل
باب عريض دخل منه الزنادقة لهدم الإسلام، حيث حرفوا النصوص وصرفوها
عن ظواهرها، وحمّلوها من المعاني ما يشتهون، وقد تقدم قول بشر المريسي: «
ليس شيء أنقص لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل!» .
قال ابن أبي العز الحنفي: «وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف: تأويلاً، تزيينا له وزخرفة ليُقبل،
وقد ذمّ الله الذين زخرفوا الباطل، قال الله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً
شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً]
[الأنعام: 112] .
والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل أقيم على دليل مزخرف عورض به
دليل الحق» [15] .
ومن أمثلة التحريف: تأويل المبتدعة لآيات الصفات، أو تأويل الشفاعة
والصراط والميزان وعذاب القبر.. ونحوها، وأسرف بعض القرامطة والباطنية
ومن نحى نحوهم حينما جعلوا للقرآن ظاهراً وباطناً، فجعلوا الظاهر: قرآن العامة، والباطن: قرآن الخاصة.
قال ابن تيمية: «التأويل المذموم الباطل هو: تأويل أهل التحريف والبدع
الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله
بغير دليل يوجب ذلك» [16] .
النوع الثالث: تحريف الأدلة عن مواضعها:
قال الإمام الشاطبي في شرح هذا النوع من التحريف: «يرد الدليل على
مناط فيُصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد؛ وهو من
خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله..» .
ثم قال: «وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما
يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به المكلف في الجملة، كذكر الله والدعاء والنوافل
المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضداً لعلمه
من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به، فإن أتى المكلف
في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص، أو مكان مخصوص، أو
مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية، أو الزمان،
أو المكان، مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه كان الدليل بمعزل عن ذلك
المعنى المستدل عليه» .
ثم يذكر مثالاً على ذلك فيقول: «فإذا ندب الشرع مثلاً إلى ذكر الله فالتزم
قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت، أو في وقت معلوم مخصوص عن
سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل
فيه ما يدل على خلافه، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تفهم
التشريع، وخصوصاً مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد. فإنها إذا ظهرت
هذا الإظهار، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في المساجد، وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء
والكسوف فُهم منها بلاشك أنها سنن، إذا لم تُفهم منها الفرضية، فأحرى أن
لايتناولها الدليل المستدل به، فصارت من هذه الجهة بدعاً محدثة بذلك» [17] .
رابعاً: التصديق بالقرآن دون السنة:
تقدم في الحلقة الأولى بيان منزلة السنة النبوية، وتحذير النبي -صلى الله
عليه وسلم- من أولئك القوم الذين لا يأخذون إلا بما جاء في القرآن الكريم،
ويردون ما جاء في سنته، وقد وقع الخوارج وأشباههم في هذه الضلالة التي حذر
منها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يأخذوا إلا بما جاء في القرآن الكريم،
وقد كان هذا سبباً من أسباب ضلالهم وانحرافهم.
قال ابن تيمية: «وقد حكى أرباب المقالات عن الخوارج أنّهم يُجّوزون على
الأنبياء الكبائر، ولهذا لايلتفتون إلى السنة المخالفة في رأيهم لظاهر القرآن وإن
كانت متواترة، فلا يرجمون الزاني، ويقطعون يد السارق فيما قل وكثر، زعماً
منهم على ما قيل أن لاحجة إلا القرآن، وأن السنة الصادرة عن الرسول -صلى
الله عليه وسلم- ليست حجة بناء على ذلك الأصل الفاسد» [18] .
وعلى هذا المذهب بعض غلاة المعتزلة، فقدحكى عبد القاهر البغدادي عن
النظامية قولهم: «يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ، فإن الأخبار المتواترة لاحجة
فيها لأنها يجوز أن يكون وقوعها كذباً» [19] .
وظهر في أوائل القرن الماضي في شبه القارة الهندية فرقة منحرفة يقولون
بهذا القول وسموا أنفسهم بأهل القرآن، وحقيقة مذهبهم رد الكتاب والسنة [20] .
خامساً: الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه:
تقدم أن منهج أهل السنة جمع النصوص الواردة في الباب الواحد، ووضع
كل نص في موضعه اللائق به شرعاً، فلايجوز أن يؤخذ نص ويترك آخر ورد في
الباب نفسه، فإن كثيراً من البدع والضلالات في القديم والحديث إنما ظهرت بسبب
إهمال هذه القاعدة الجليلة؛ فبعض المبتدعة وجهلة المتفقهة والمقلدة يأخذ نصاً
ويترك نصوصاً أخرى قد تكون مخصصة أو مقيدة أو مبينة أو ناسخة.. أو نحو
ذلك. فينظر إليها من زاوية ويترك زوايا أخرى، ممّا يؤدي إلى كثير من الخلط
والاضطراب. وإليك هذين المثالين:
المثال الأول: منهج الخوارج:
أخذ الخوارج بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، ففهموها على غير
مرادها وغلّبوا جانب العقوبة، وراحوا يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم
وأموالهم، بغير حجة ولابرهان.
المثال الثاني: منهج المرجئة:
أخذ المرجئة نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد، ففهموها على غير
مرادها وغلّبوا جانب الرجاء، وقالوا: لايضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع
الكفر طاعة.
وإزاء هذا التفريط والإفراط توسط أهل السنة، وأخذوا بجميع النصوص
الواردة، وألفوا بينها تأليفاً يزيل الإشكال ويدفع الخلط والاضطراب.
قال ابن تيمية مبيناً سبب ظهور البدع: «.. ومن هنا تتبيّن الضلالات
المبتدعة في هذه الأمة، حيث هي من الإيمان ببعض ما جاء به الرسول -صلى الله
عليه وسلم- دون بعض، وإما ببعض صفات التكليم والرسالة والنبوة دون بعض،
وكلاهما إما في التنزيل وإما في التأويل» [21] .
سادساً: استدلالهم بالنصوص للاعتضاد لا للاعتماد:
كثير من المبتدعة لا يُعظمون النصوص الشرعية، ولا يحرصون على تتبعها، ولايبنون عليها اعتقاداتهم واجتهاداتهم، ولايستدلون بها إلا إذا رأوا منها شيئاً
يوافق أهواءهم، فالنصوص عندهم تابعة للهوى، ويشير ابن تيمية إلى ذلك بقوله:
«إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان. فلما حدث في الأمة ما حدث من
التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعاً. صار هؤلاء عمدتهم في
الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها
يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم-
وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا
تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتها، ولم يستقصوا ما في
القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك. والآيات
التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده
أن يفهم مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج
بها» [22] .
وقال ابن أبي العز: «كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على
بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به، وما خالفه
قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً، أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً،
فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم» [23] .
سابعاً: الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عدم الاعتناء بتنقيح
السنة:
ينقسم المبتدعة في روايتهم للسنة النبوية فريقين:
الفريق الأول: الذين يتعمدون الكذب والتزوير في حديث النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وعامة هؤلاء من الزنادقة والباطنيين أهل الأهواء، كالرافضة
والجهمية؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: «لم أر من أهل الأهواء أشهد بالزور من
الرافضة» [24] .
وقال ابن تيمية: «وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن
الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون
امتيازهم بكثرة الكذب» [25] .
الفريق الثاني: الذين لايكذبون ولكنهم قد يروون الكذب إما مع علمهم بأنه
كذب، وإما جهلا منهم به والأحاديث الضعيفة، ولايعتنون بدراسة المنقولات
وتحرير صحيحها من ضعيفها، وعلى هذا عامة المبتدعة، بل بعض جهلة أهل
السنة والمقلدة. وقد جرّ هذا التساهل والتفريط على الأمة بلاء وشراً كبيراً.
قال ابن تيمية: «.. ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين
لمضمونها هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه من هؤلاء، هذا أمر
محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله وأحواله وبواطن
أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيراً من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لايميزون
بين ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما لم يقله، بل قد لايفرقون بين
حديث متواتر عنه وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما يعتمدون في موافقته على
مايوافق قولهم سواء كان موضوعاً أو غير موضوع، فيعدلون إلى أحاديث يعلم
خاصة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالضرورة اليقينية أنها قوله، وهم لايعلمون
مراده، بل غالب هؤلاء لايعلمون معاني القرآن فضلاً عن الحديث، بل كثير منهم
لايحفظون القرآن أصلاً، فمن لايحفظ القرآن، ولا يعرف معانيه، ولايعرف
الحديث ولامعانيه، فمن أين يكون عارفاً بالحقائق المأخوذة عن
الرسول؟ !» [26] .
وقال الشاطبي في بيان مآخذ أهل البدع في الاستدلال «منها: اعتمادهم على
الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوب فيها على الرسول -صلى الله عليه وسلم-
والتي لايقبلها أهل صناعة الحديث كحديث الاكتحال يوم عشوراء وإكرام الديك
الأبيض وأكل الباذنجان بنية، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواجد واهتز عند
السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه وما أشبه ذلك» [27] .