المسلمون والعالم
(1)
بقلم: عبد العزيز كامل
جاء في ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي تلخص أبرز مبادئها وأهدافها:
«نحن شعوب الأمم المتحدة قد قطعنا على أنفسنا عهداً أن نجنب الأجيال القادمة
ويلات الحرب، وأن نعمل على إيجاد تعاون اقتصادي واجتماعي بين دول العالم،
بأسلوب يرتفع بمستويات الحياة الكريمة للجميع، ويحفظ السلم للجميع، ويفضّ
المنازعات بالوسائل السلمية» .
وبعد خمسين عاماً، أين هي الأمم المتحدة من هذا العهد الذي قطعته على
نفسها؟ وأين الدول الكبرى التي شكلت هذه المنظمة؛ لتقود بها العالم بعد انتصارها
في الحرب العالمية الثانية، التي كبدت البشرية أكثر من عشرين مليونًاً من القتلى؟
إنه بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية، وتحديداً من عام 1945م إلى 1989م
نشبت 138حرباً نتج عنها خسائر بشرية قدرت بنحو 23 مليون نسمة، واستهلكت
في الفترة من سنة 1970م وحتى 1989م أسلحة تقليدية قدرت بنحو 388 مليار
دولار، والأمم المتحدة تقف عاجزة أحياناً ومتعاجزة أحياناً أخرى في مواجهة
الخراب الدولي، الذي استخدم فيه الفيتو نحو 79 مرة في مجلس الأمن.
الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية صاغت بنود ونظم المنظمة
الدولية لكي تحفظ بها مكاسبها التي خرجت بها من الحرب، حيث قَسَمَتْه إلى
مناطق نفوذ، وإقطاعيات احتكار واستغلال، أطلق عليه أولاً (الاستعمار) ، ثم تغير
الاسم إلى (الاستقلال) .
الدول التي سلمت نفسها بنفسها زمام ولاية أمر العالم، وأعطت لنفسها حق
الاعتراض والنقض لأي قرار وأي إرادة للشعوب منفردة أو مجتمعة، هذه الدول
وعدت أيضاً في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة برفع مستويات الحياة الكريمة للجميع،
فماذا عن هذا البند بعد خمسين عاماً من إنشاء هيئة الأمم المتحدة؟
إن التقارير تشير إلى أن عدد الفقراء في الدول النامية قد زاد في العشرين
عاماً الماضية بنسبة40%، وذلك يعد مؤشراً على فشل معظم برامج الإصلاحات
والمساعدات التي تبنتها هيئة الأمم المتحدة من خلال أجهزتها الاقتصادية المحكومة
بتوجهات الدولة الغنية، ويشير تقرير الأمم المتحدة نفسها: أن أكثر من نصف
سكان 114 دولة نامية يبلغ عددهم 4مليارات نسمة يعيشون في مناطق فقيرة، وأن
ملياراً منهم يعيشون تحت خط الفقر، وأن مابين 15 20 مليون نسمة يموتون كل
عام بسبب المجاعات وسوء التغذية.
إن هذه الأمم الضعيفة والفقيرة لم توضع في هذا المأزق، لأن هذا قدرها
فحسب، أو لأن هذه مقدراتها وكفى، ولكن لأن هناك أمم أخرى قوية وغنية تريد
لها أن تظل هكذا في الفقر والضعف، إضافة إلى التخلف والتفرق؛ لكي يظلّ
القوي قوياً وغنياً، ويزداد غنىً وقوة.
إن الأمم القوية (المتحدة) قد رسمت فيما يبدو خطوطاً عريضة لمناطق نفوذها
التقريبية، وتركت بقية الأمم الضعيفة لتلقى مصيرها حسب نظرية (البقاء للأصلح) ، لقد عبّر (أمين) الأمم المتحدة عن هذا المعنى أكثر من مرة في اعتراف صريح،
وقال في إحدى رحلاته إلى إفريقيا: «إن العالم المتطور انسحب إلى مواقعه
مستكيناً إلى شعور بالقرف، تاركاً بقية دول العالم النامي تواجه قدرها» .
وكثيراً ماشكا إعياء الدول المانحة، وتبرمها بالنفقات على الدول الفقيرة!
ولكن هذه الشكوى تصاغ في أحيان أخرى على لسان بطرس بمعنىً مناقض، ففي
مقابلة بمكتبة في الدور الثامن والثلاثين بمبنى الأمم المتحدة، قال: إن الأمم المتحدة
تستدين الأموال من الدول الفقيرة؛ لأن الدول الغنية لاتدفع حصصها، وأضاف أنه
حاول جاهداً الحصول على مساعدات ذات أمد قصير مثل: إصدار صكوك التأمين
دون طائل!
أين إذن تذهب ثروات الأرض؟ إن عدد الدول التي تعاني من أزمة الديون
في العالم يبلغ نحو 123دولة، من ضمن 180 دولة عضو في الأمم المتحدة،
ويتعدى مجمل الديون الخارجية لتلك الدول المدينة نحو 1500 مليار دولار في سنة
1994م.
وتتهم الدول المدينة المؤسسات المالية التابعة للأمم المتحدة بالتسبب في تكبيل
اقتصادها بفوائد الديون العالية.
فماذا تفعل الأمم الضعيفة والفقيرة، مع تلك الأمم الغنية و (المتحدة) ؟ ! إن
الأمم الضعيفة تشكل أربعة أخماس سكان الأرض تقريباً، ولكنها تستهلك خمس
الاستهلاك العالمي تقريباً، أما خمس سكان العالم من دول الشمال، فإنه يحوز
أربعة أخماس الإنتاج والاستهلاك العالمي! ولتفرح الأمم الضعيفة بعد ذلك بوهم
(الاستقلال) تحت راية (الأمم المتحدة) ولِتَقُمّ شعوبها الموائد على بساطها الأزرق،
وسط عزف الأناشيد القومية الحماسية وخفق البيارق الملونة، والاستعراضات
العسكرية.
صحيح أن هناك بعض النجاحات للأمم المتحدة، حققتها على الصعيد الدولي
لكن أكثرها يصب في المصلحة المباشرة للدول الكبرى والقوية والغنية، وهناك
بعض نجاحات في العالم النامي، من قبيل: إجراء انتخابات ديمقراطية في
موزمبيق، أو إرساء قواعد مرحلة انتقالية في ناميبيا، أو إجراء عملية بناء لمجتمع
مدني سياسي في السلفادور، أو تجميد الصراع بين اليونان وتركيا، أو إعادة بناء
كمبوديا، أو إنهاء الحرب الأهلية في أنجولا، أو وقف انتشار النزاع في رواندا ...
إلخ المشكلات التي كان ينبغي التخلص منها؛ لأنها تسبب نوعاً من الصراع
المؤرق إعلامياً لمشاعر المنظمة الدولية.
إن هناك حقيقة كبيرة أبرزتها الأعوام الخمسون الماضية من عمر المنظمة
الدولية وهي: أن هناك (عالم حر) يتحكم ويستعبد عالماً (غيره) ، وهناك (أمم
متحدة) تتحكم في مصائر أمم (غير متحدة) !
إن العالم الحر يتحد، في صيغ كثيرة من صيغ الاتحاد السياسي أو
الاقتصادي أو العسكري، لأن الاتحاد يزيده قوة إلى قوته، بينما على العالم غير
الحر أن يظل في تفرق واختلاف وتنازع حتى يظل ضعيفاً، بل ليزداد ضعفاً على
مرّ الأيام..
العالم الحر.. يتفرغ للتقدم والبناء والعمران ورفاهية شعوبه، بينما على
العالم غير الحر أن ينهمك في حل المشكلات والأزمات والعقبات السياسية أو
الاقتصادية أو العسكرية أو الحدودية التي تلقى إليه، أو يلقاها في حين.
إن على العالم الحر أن ينعم بالحرية والديمقراطية، بينما على العالم غير
الحر أن يتعثر دائماً في شباك الديكتاتورية والقمع والتسلط من الأنظمة المستعبدة
عادة للعالم الحر.
هذا هو الواقع الذي انحسر عنه طوفان الحرب العالمية الثانية. وعلى الأمم
غير المتحدة أو النائمة عفواً النامية أن تتنازل دائماً وعن رضاً عن جُل ثرواتها
ومقدراتها إن وجدت مقابل ثمن بخس دولارات معدودة.
نعم.. إنه الواقع الذي انحسر عنه طوفان الحرب العالمية الثانية، التي ولدت
هيئة الأمم المتحدة، فهي نتيجة من نتائج الحرب التي انتهت واقعياً بانتصار
الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى؛ حيث كان العقل الأمريكي الاحتكاري
منهمكاً في ترتيب أوضاع العالم لمرحلة مابعد الحرب، ولم تكن هيئة الأمم المتحدة
إلا واحدة من ترتيباته الكبرى، كانت الحرب في حقيقتها صراعاً مسلحاً شاملاً بين
أطراف رأس المال الدولي، وكانت أمم المستعمرات التي تشكل الأكثرية الساحقة
من سكان العالم متعطشة للتحرر من جيوش الاستعمار القديم، وقد رأى أقطاب
(العالم الحر) وعلى رأسهم (أمريكا) في ذلك الاندفاع الأممي نحو الاستقلال والتحرر
فرصة مناسبة لتعميم أسلوبها الجديد في الاستعمار الحديث القائم على النهب والسلب
والاستعباد، ليس بواسطة الجيوش والاحتلال المباشر، ولكن وعلى الطريقة
اليهودية بواسطة المصارف والقروض والفوائد، وبواسطة المستشارين، وبواسطة
الاستخبارات وأيضاً بواسطة القوى المحلية العسكرية أو المدنية في البلدان
المستهدفة ذاتها.. كانت للولايات المتحدة مصلحة في كنس المستعمرين الأوروبيين
من المستعمرات، لأنها تعيق انتشار أسلوبها الجديد الذي يقوم على إيهام
المستعمرات البائسة أنها مستقلة.
ولا بأس بعد ذلك من تنظيم العلاقات بين أطراف رأس المال الدولي
المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما تفسره لنا حكاية حق النقض
(الفيتو) التي تتميز بها حكومات الاحتكارات الدولية الرئيسية أما الدول الأخرى أو
الحكومات الأخرى في الأمم غير المتحدة، فهي محكومة بعلاقات دولية ظالمة
ومحكمة، حيث لاتستطيع تغيير أوضاعها البائسة إلا برضاً من المنظومة الدولية
الحاكمة المتحكمة.
فهناك خطوط ممنوع عليها تجاوزها، وإلا وقعت تحت طائلة أقسى العقوبات، خطوط سياسية واقتصادية وجغرافية وتقنية بل.. وثقافية، خطوط تتحكم في
جميع مكونات حياتها، ومع هذا أعطوها حق العضوية في هيئة (الأمم المتحدة) ؛
في حين أن هذه العضوية مجرد (هيئة) لأمم هي في حقيقتها أمم مستذلة وليست
مستقلة لأنها غير متحدة.
والمشكلة الكبرى: أن الأغلبية العظمى من الأمم (غير المتحدة) لايشكلها إلا
العالم النامي، الذي يضم في عضويته شبه الدائمة أقطار العالم الإسلامي! والذين
يقع العرب منهم موقع القلب في الجسد في أدق مواضع العالم حساسية، في حوض
البحر الأبيض المتوسط.
فالعرب كتلة بشرية ضخمة، تفوق في ضخامتها وفي تجانسها جميع الكتل
البشرية الأخرى في هذا الحوض، بما في ذلك الإنجيليون البروستانت الذين
يحكمون الولايات المتحدة فعلياً، والذين لايتجاوز تعدادهم ثمانين مليوناً، والعرب
يفوقون تعداد الروس الذين لايتجاوزن مئة وعشرين مليوناً، هؤلاء العرب الذين
سيصل تعدادهم إلى نصف مليار نسمة خلال العقدين القادمين إن شاء الله وسط أمة
من المسلمين تبلغ ربع سكان العالم! !
ماذا فعلت (الأمم المتحدة) الغربية مع الأمم (غير المتحدة) خاصة العربية منها
والإسلامية؟
إن لهذه المسألة تفصيلات وتفريعات.. ولهذا فإن للحديث بقية.. والله
المستعان.