جمال أحمد بشير
في توجه العبد المؤمن إلى ربه، وفي سيره وانقطاعه إليه يحتاج إلى ما
يضبط سلوكه ويزن أفعاله حتى لا يحيد عن الطريق ولا يخطئ الجادة. لذلك ذكر
سلفنا الصالح شروطاً وضوابط للعمل الصالح باستقراء نصوص الكتاب والسنة
وبدون هذه الشروط والضوابط يكون العمل معرضاً للخلل والنقصان؛ بل والرد
على صاحبه فلا يجني من عمله إلا التعب والمشقة.
ونذكر فيما يلي أهم هذه الشروط:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
الثاني: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فلا بد من إخلاص النية لله في أي عمل يعمله العبد. قال تعالى: [ومَا
أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] [البينة: 5] ، وقال -صلى الله عليه
وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [1] ؟ وقال -صلى
الله عليه وسلم-: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً
أشرك فيه غيري فأنا بريء منه؛ وهو كله للذي أشرك» [2] .
ولا بد في إخلاص العمل من أن يكون هذا العمل مما شرعه الله على لسان
رسوله -صلى الله عليه وسلم- يقول تعالى: [قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ] [آل عمران: 31] ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في
أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [3] وفي لفظ. «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا
فهو رد» .
وبهذين الشرطين يتحصن المسلم من ألد أعدائه ألا وهو الرياء والبدعة والشرك. يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: (فهما توحيدان، لا نجاه للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-) [4] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان،أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع. لا نعبده بعبادة
مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول
الله) كما قال تعالى: [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] .
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا. يا أبا علي ما أخلصه
وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإن كان صواباً
ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله،
والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] [5] .
ويقول ابن القيم رحمه الله: (فلا يكون العبد متحققاً بـ[إيَّاكَ نَعْبُدُ] إلا
بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والثاني: الإخلاص للمعبود [6] .
والعمل - بالمشروع يحصن المؤمن من الوقوع في المبتدع من الأعمال
ويغنيه عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك العباد: إذا تعبدوا بما شرع
من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناً، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح
الذي بعث الله به رسوله، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية، والمقامات العلية،
والنتائج العظيمة، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه، كالتغبير ونحوه، من
السماعات المبتدعة، الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد،
لفقهاء بعض الناس. أو في قدره، كزيادة من التعبدات، أحدثها من أحدثها لنقص
تمسكه بالمشروع منها) [7] .
ومن الضوابط المهمة التي ذكرها أهل السنة في شأن الأعمال الصالحة التي
تقرب إلى الله تعالى: القصد. والمداومة.
قال تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] ،
وقال تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج: 78] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن
يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة،
والقصد القصد تبلغوا [8] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
«سددوا وقاربوا، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها
إلى الله وإن قل» [9] .
وعنها رضي الله عنها قالت: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي
الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل. وقال. اكلفوا من الأعمال ما
تطيقون [10] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال:
«إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا،
واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» [11] .
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث الثاني: (ثم ختم ذلك بأن المداومة
على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً
لكن ليس فيه مداومة) [12] .
وقال ابن حجر في شرح (واكلفوا، من الأعمال ما تطيقون) : (ما تطيقون)
أي قدر طاقتكم، والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية لكن
بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال) [13] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة) [14] إلى أن قال: فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها، كانت محرمة، مثل أن يصوم صومأ يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب. وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة) [15] .
وأورد قول ابن مسعود: (إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن، وقراءة
القرآن أحب إلي) [16] . وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في معرض
شرحه للأحاديث المذكورة السابقة أن فيها إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل شيئان:
أحدهما: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم- وعمل آله وأزواجه من بعده. وكان ينهى عن قطع ... العمل [17] .
والثاني: أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد
والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير [18] .
وقال ابن رجب رحمه الله في تفسير (سددوا وقاربوا) : المراد بالتسديد:
العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه [19] .
وحول معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- «وأبشروا» قال: يعني أن من
مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب
المجتهد في الأعمال. فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها، فمن سلكها
فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها. وخير ...
الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله ... من غيره. وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان ... بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ... ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح) [20] .
ومما يتعلق بهذا الباب ما ثبت في الصحيح من نصح النبي -صلى الله عليه
وسلم- لعبد الله ابن عمرو بن العاص بأن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، وبأن
يصوم من كل شهر ثلاثة أيام عندما رآه مقبلاً على الطاعة والعبادة وقال له: «إن
لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، فائت كل ذي
حق حقه» .
فينبغي مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب
ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه. لذلك نرى ابن القيم قد قسم الناس
في العبادة إلى أربعة أصناف، ثم رجح الصنف الرابع الذين: قالوا: إن أفضل
العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ... ووظيفته [21] . وليعلم المؤمن أن المشقة ليست مقصودة في التكليف كما قرره علماء الأصول من أهل السنة بل الأصل هو رفع الحرج والعنت عن الناس. فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر. قال الشاطبي -رحمه الله- (أصل آخر: وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل) [22] . ثم ... زاد الأمر توضيحًا فقال:
(فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع، من حيث إن ...
الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع ... باطل) [23] . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة، في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته،
وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن، وصاحبه
أطوع، وأتبع، كان أفضل. فإن الأعمال. لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما
يحصل في القلوب حال العمل) [24] ومما ينبغي التنبيه عليه أن هذه الأمور
وأمثالها لا تدرك إلا بالعلم وطلبه ولذلك ورد في حديث عائشة السابق (واعلموا)
وهو إشارة إلى أهمية العلم النافع الذي يثمر العمل الصالح المقبول.