د. مصطفى السيد
الكلمة الطيبة [كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا] وفي روضة النبوة وقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن
الفأل فقال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم البخاري 7/8 والكلم في مرضاة الله كالكلْم (الجرح) في سبيله، كلاهما طريق مَهْيَعٌ إلى الجنة.
ولئن طوت المنون أولئك المتكلمين فلقد ظلت الأجيال المتعاقبة تبعث الحياة
في الموروث من كلماتهم. وإذا كان شموخ الحضارة المادية المعاصرة قد قزم وحجَّم
الآثار المادية للمدنيات الغابرة، فإن هذا الشموخ قد سجل تراجعاً ملحوظاً في مجال
الكلمة، وظلت (روائع) الأقدمين في كل أمة قدوة المتأدبين وقبلة القائلين. ولم
تكن الكلمة لتدخل متحف البيان أو لتلج معرض الجمال وهي عطل من مؤهلات
البقاء أو غفل من طاقة الإشعاع.
لم تكن كذلك في الماضي، ولن تكون في الحاضر، بل لقد كانت تأخذ من
جهد قائلها كل مأخذ. روى العتبي (إخباري عباسي) قال: قيل لمعاوية: أسرع
إليك الشيب. قال: كيف لا؟ ولا أعدم رجلاً من العرب قائماً على رأسي يلقح لي
كلاماً يلزمنني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت به البرد- (جمع
بريد) ابن عساكر16/375.
وأخرج أبو نعيم عن ثابت البناني قال: كان الحسن في مجلس، فقيل لأبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير تكلم، فقال: (أو هناك أنا؟ ثم ذكر الكلام ومؤنته) (الحلية2/213) .
وإذا كان أبو العلاء يتحاشى الكلمة مخافة ألا يكون من أهلها فلا يجمل بأهلها أن يكتموها، وأن يظلوا محرمين بالصوم عن الكلام، متلبسين بشعيرة الصمت حتى ولو وجدوا متكلماً.
قال العلامة الشنقيطي في معرض تعليقه على قوله تعالى: [إنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِياً] (هذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسياً ... كان جائزاً في شريعتهم، أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا-صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو ... إسرائيل، نذرأن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه (أضواء البيان
4/267) .
والكلام هو الأصل، والصمت طارئ أو عارض فهو ميزة الإنسان (علمه البيان) وتركيز معناه وتكثيفه من فرائد سيدنا محمد -صلى الله عليه
وسلم-» أعطيت جوامع الكلم «والعبارة في سياق التحدث عما خص به رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-» وجعل الله منيحة داود عليه السلام الحكمة
وفصل الخطاب « (البيان والتبيين 4/31) (وكانوا يمدحون شدة العارضة وقوة المنة وظهور الحجة) البيان والتبيين 1/176 ويحمد الصمت إن جاء الكلام
مباينا للخير» فليقل خيراً أو ليصمت «أو إذا كان العبث محركه، واللغو مادته
[والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] ولقد قال عبد الملك بن مروان لمن أطال
الكلام وقصر في الفائدة. يا هذا بكلامك مدح الصمت!
واستأذن مثل هذا النموذج في السكوت بعد كلمة طويلة في غير ما طائل فقال
عبد الملك له: وهل تكلمت حتى تصمت؟ ! .
ترى كم من كاتب ومتكلم قد ينفعه أن يتأمل ملياً كلام عبد الملك. واليوم كما
الأمس وكذا الغد، ستظل الكلمة الحجر الأساسي في صرح الحضارة، والمطلب
الأول في بناء العقول التي إن غذيت بصائب الكلام أثمرت صالح العمل.
ولئن اغتصبت المنابر، وعلاها علوج الألسنة، ومنافقو الروح، وتمكنوا من
السيطرة على أكثر المواقع في الساحة الفكرية دعماً للظلم أو ملئاً للفراغ بالفراغ،
فذلك وإن كان مدعاة للأسف، فلن يقوى على البقاء، بل ربما سقط قبل أن ينفق
قائلوه.
لئن حصل ذلك كله -وهو حاصل - فإن مسئولية أصحاب الأقلام الشريفة
تتأكد وتزداد في الذب عن قيم الحق والعدل ورفع المعاناة بكل صورها عن كل
مأزوم ومكروب.
لقد فرضت الآثار العظيمة نفسها على ذاكرة التاريخ وشقت طريقها إلى البقاء، متحدية كل طاقات الخصوم التي حاولت طمسها. ينطبق هذا على فرائد النصائح التي صبها علماء المسلمين في آذان الظالمين، ومسامع الغافلين، كما ينطبق على موسوعات العلم والمعرفة التي وصلت إلينا، عابرة قروناً متطاولة من فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا. إنها الكلمة التي أعطاها صاحبها دمه وحياته، فأعطته جواز البقاء، لا يقهر الفناء إلا الكلمة والحجر والكلمة أطول عمراً من الحجر وأصلب على الزمن وأقدر على مغالبة الفناء.
وكم من كلمات خرجت من القلوب لتصبح منهج عمل، ودستور حياة،
وتكون نقطة تحول في سلوك كثير من الشخصيات.
وصدق الله القائل في فضل الكلمة الطيبة [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا] .
نسأل الله أن يلزمنا كلمة التقوى وأن يجعلنا من أهلها.