دراسات أدبية
«نجيب الكيلاني»
رائد القصة الإسلامية المعاصر
بقلم: محمد حسن بريغش
د. نجيب الكيلاني من الأدباء الإسلاميين البارزين لاسيما في مجال
القصة وقد تناول الكاتب رحلته معها ومعالم نموه الفكري وتطوره الأدبي والفني
عبر ملامح من سيرته ونماذج من أعماله الشعرية والقصصية.
وهاك أخي القارئ الجزء الثاني والأخير من المقال يتابع فيه الكاتب إيضاح
جوانب أخرى.
- البيان -
في مرحلة تالية، بعد أن ابتعد الكيلاني عن مصر، وشعر بزوال كثير من
الضغوط: النفسية، والفكرية، والاجتماعية، والفنية، والسياسية عنه، تنبه أكثر
إلى ضرورة الالتزام بالأدب الإسلامي، ولكنه مع ذلك كانت هناك مؤثرات مختلفة
تتنازعه وتضغط عليه، وأهمها: المؤثرات الفنية التقليدية للقصة، لقد كان عازماً
ومقتنعاً بضرورة توجهه للأدب الإسلامي، ولكنه كان يحس بالوجل والصعاب من
ذلك.
«إن للقصة مواصفات وقواعد، كما أن فيها بعض (التوابل) الضرورية
لجذب القارئ وإقناعه، أستطيع أن أقول بوضوح: إن الفن القصصي لا بد له من
بعض المغريات الضرورية في خضم تلك السوق الهائلة التي تتداول مئات الألوف،
بل ملايين النسخ التي يروج لها الإعلان والإعلام والدعاية بشتى ألوانها. وشباب
اليوم نشأ في ظل مواضعات وظروف صعبة غلابة، ويحتاج للكثير من الحكمة
والحيلة على بداية الطريق الصحيح، بعد أن تلوث فكره وسلوكه بالكثير من
الانحرافات ... وكانت القصة تعني: الحب، والجنس، والمغامرات، والتسلية،
وكانت المسرحية ملاذاً للتسرية عن النفس والإضحاك وتزجية الفراغ..» [1] .
بكل وضوح بيّن ما كان يدور في نفسه، وما كان يتنازعه، ولذلك: كان في
هذه المرحلة يتأرجح بين القصة الإسلامية التي يطمح لكتابتها والقصة التقليدية
الغربية السائدة في المجتمع.
ولعل رواية (عمر يظهر في القدس) تمثل نقطة تحول مهمة في مسيرته
الطويلة [2] ، لأنه لأول مرة يستعرض أحداثاً سياسية، واجتماعية، وفكرية
معاصرة من خلال رؤية إسلامية واضحة.
وفي نظري: إن هذه الرواية التي تتحدث عن احتلال القدس، تمثل الرؤية
الإسلامية لما يحدث في عالمنا المعاصر تجاه مقدساتنا، فالقدس ليست مدينة واحدة
بالرغم مما لها من مكانة وقدسية وما نزل فيها من نصوص ولكنها تمثل كل المدن
الإسلامية التي تستباح بشكل أو بآخر من قِبَل أعداء الإسلام.
فهي صورة بارزة للعالم العربي الإسلامي، والشخصيات التي ظهرت في
القصة تعد نماذج من مجتمعنا الذي هزمته الوقائع والمدنية المادية والهوى والأفكار
الدخيلة؛ فسقط صريعاً أو مُحْتلاً أمام الغزو اليهودي بصور كثيرة قبل أن تسقط
مدينته المقدسة.
هناك شخصيات مختلفة في الرواية تمثل نماذج حية في مجتمعنا المعاصر،
وهناك شخصية المسلم الحقيقي: بوضوحه، واستقامته، وإشراقه، بإيمانه القوي،
وإسلامه الواضح المميز، ووعيه وإدراكه، وإخلاصه وصفائه، ويقينه وقوته،
وشجاعته واستقامته.. [3] .
ولهذا: فهي نقطة تحول، أو بداية مرحلة في مسيرة الكيلاني القصصية،
وإذا كانت هناك روايات للكاتب بعد هذه الرواية ظلت تتأرجح بين النموذج
الإسلامي وغيره، فإنها بقيت مَعْلَماً على رؤية جديدة بدأت تتوضح عند الكيلاني،
وتزداد عمقاً وواقعية.
لقد كان الدكتور الكيلاني يتلقى كثيراً من الملاحظات والنقد على بعض
رواياته بعدما أصبح تيار الأدب الإسلامي واضحاً، وكان (رحمه الله) بدماثته
وطيب خلقه يصغي لكل نقد، ويتقبل النصح، ويناقش بهدوء كل فكرة، وكان لهذه
الملاحظات أثرها في نضوج كثير من الآراء والنظرات لديه، حتى بات بحق
يعيش قضية الأدب الإسلامي، ويعيش قضية القصة الإسلامية، ويهمه أن يعرف
الشكل الصحيح الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الفن الذي أحبه، ولم يعد يخاف من
أعداء (الإسلامية) من النقاد والأدباء، فقد ترسخت قدمه في الفن، وأصبح عَلَماً في
مجال القصة، مما ساعده على أن يخطو خطوة أخرى لإبداع النموذج الصحيح
الذي لا يتنافى مع التصور الإسلامي، ويمتلك مميزات هذا الفن.
ولقد كانت رواياته الأخيرة تمثل هذه الخطوة، أعني روايات: ملكة العنب،
وأهل الحميدية، وقضية أبو الفتوح الشرقاوي، وامرأة عبد المتجلي، ومملكة
البلعوطي، إضافة إلى مجموعة الكابوس، وغيرها.
وفي رواية (ملكة العنب) وغيرها، كأن الكاتب ودع التردد الذي كان ينتابه
ويجعله وسطاً بين منحى الأدب الإسلامي ومنحى المذاهب الأخرى [4] .
وختم الكاتب حياته الفنية بكتابة روايته (مملكة البلعوطي) التي استقاها من
حياة جده إبراهيم الذي كان «شخصية مميزة قوية بمعايير القوة الشائعة في ذلك
العصر كان مرهوب الجانب، مطاع الكلمة على الرغم من عدم ثرائه» [5] ،
وعُرف جده أيضاً بالاستقامة والصدق، والرجولة والعفة، واشتُهر أمره في بلدته
وما حولها، وجرت أحداث كان هو قطبها، وأصبحت له مكانة مميزة بين الناس
والمسؤولين، وحين مات جده بكته القرية وما حولها [6] ؛ لأنه كان شهماً كريماً،
يحرص على إخراج زكاة المحصول، ويغدق ما أمكن على الفقراء، ويصل الرحم، ولهذا جعله موضوع قصته (مملكة البلعوطي) .
إن الدكتور نجيب الكيلاني عبر رحلته هذه كان يخوض تجربة قاسية صعبة
في ظروف تحول دون ظهور أي مبدع إن لم يكن موافقاً للتيار العلماني المهيمن،
ولكنه استطاع أن يثبّت قدميه في مجال الفن أولاً، ثم يجلي صورة الأدب الإسلامي
والقصة الإسلامية.
وإذا كان للدارسين من ملاحظات على مسيرته الأدبية فإنه من العدل أن نأخذ
في الاعتبار الظروف التي أحاطت به، وثباته على الطريق الموصل إلى الأدب
الإسلامي رغم هذه الظروف.
إنه كان يجتهد، ويبدع، ويضع لشداةِ هذا الفن النماذج؛ فيتعرّفوا من خلال
هذه النماذج إلى أمثلة تطبيقية واقعية، ويتلمّسوا سبل الوصول إلى الصورة المبتغاة، ولو لم تكن لديهم مثل هذه النماذج الإبداعية لما استطاعوا أن يتعرفوا إلى صورة
القصة التي نريدها، أو التحدث عنها كواقع مبدع.
إن الكتابة عن شروط القصة، ووصف عناصرها لا يبدع لنا فنّاً. الفن
يحتاج إلى فنان موهوب مبدع، فنان يمتلك القدرة على العطاء، وعلى تحويل
الفكرة إلى واقع وأثر فني.
والأدب الإسلامي، والقصة الإسلامية المعاصرة: مدينةٌ للكيلاني في هذا،
ولا يمكن دراسة القصة الإسلامية المعاصرة بدون التوقف عند الدكتور الكيلاني رائد
القصة الإسلامية المعاصرة.
وأيّاً كانت الملاحظات التي تؤخذ عليه، فإنه يبقى في المكانة الأولى التي
استحقها بجدارة من خلال إنتاج كثير، وأصيل، يمثل مراحل تطوره، ومكافحته
للوصول إلى نموذج القصة الإسلامية المعاصرة، دون أن يخل بقواعد هذا الفن..
ولقد تحقق له ذلك.
إن عالم القصة عند الكيلاني مليء بالموضوعات التي تستحق أن يتوقف
عندها الدارس؛ فهي تشير إلى كثير من القضايا الفكرية والثقافية والاجتماعية
والسياسية التي مرت بها البلاد العربية على مدى قرن أو أكثر.
فضلاً عن ذلك: فإن الكيلاني اهتم بقضايا الإنسان كإنسان، وكانت صورته
واضحة، تُسْتَقى من التصور الإسلامي الذي ينظر للإنسان كما أراده الله مخلوقاً
مكرماً، له حقوقه، ومكانته، وحرمته، وأبدع في تصوير قضايا الإنسان أيّما
إبداع، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يتعاطف معه، ويؤمن بأن حقوق الإنسان لا
تصان إلا إذا التزم الإنسان بشرع الله، واحتكم إلى كتابه.
وكذلك اهتم الكيلاني بمشكلات الريف، وصوّره بأجمل الصور وأدقها، وكان
وفيّاً لبلدته ومنطقته، وللريف عامة الذي عاش فيه، ولهذا استقى منه كثيراً من
الحوادث والشخصيات، وجعله رمزاً للإنسان، والقيم، والوطن، والأمة كلها،
وتعاطف مع أبنائه، وتحدث عن مشكلاتهم، وصوّر مآسيهم وأبرز صفاتهم. إن
هذا الجانب جدير بدراسة متعمقة تلتفت إلى الكليات، والجزئيات، والأفكار،
والشخصيات التي أبدعها خلال قصصه، وإلى الصور والمشكلات التي عالجها من
خلال الريف.
وكذلك كان للكيلاني مجال آخر أبدع فيه، وأكثر من تصويره، وهو:
السجون بما فيها من سجناء، وسجّان، ومظالم، ولمحات إنسانية، وصور القهر
والتعذيب، وانقلاب الإنسان إلى وحش أو أدنى درجة من الوحش حين يتخلى عن
إنسانيته، أعني حين يتنكبّ عن طريق الهدى، ويمعن في الضلال.
إن موضوع السجن بكل ما فيه من حوادث، وشخصيات، وصور نفسية
وإنسانية، ومشكلات فكرية واجتماعية وسياسية: كان من الموضوعات التي
استأثرت باهتمام الكاتب، وهو جدير أيضاً بالدراسة والمتابعة [7] .
لقد مات الكيلاني (رحمه الله) بعد أن ترك تراثاً أدبيّاً من الدراسات الأدبية
والنقدية، والإبداعات الشعرية والقصصية والمسرحية، وكانت إسهاماته هذه أكثر
قدرة على خدمة الأدب الإسلامي من التصريحات، والخطب.. والتنظير، وهو
يستحق من محبي الأدب الإسلامي الاهتمام والدراسة؛ لما في ذلك من فوائد وآثار
على مسيرة الأدب الإسلامي الحديث.