دراسات تربوية
افتقار العمل التربوي
إلى الضوابط الشرعية
محمد بن عبد الله الدويش
إن العمل التربوي على اختلاف مستوياته ضرورة لا تستغني عنها الأمة
الإسلامية، فهو الوسيلة لنقل الأحكام الشرعية من الحيز النظري إلى العمل
والتطبيق، ولقد وصف الله (سبحانه وتعالى) نبيه بأنه مربّ فقال: [هُوَ الَذِي بَعَثَ
فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا
مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الجمعة: 2] .
والتربية واجب الأب والمعلم والأستاذ، وواجب كل من ولاه الله مسؤولية أحد
من الناس، وواجب على مستوى الأمة جمعاء.
ولعل من منجزات الصحوة المباركة إيجاد المحاضن التربوية التي أخذت
بأيدي شباب الصحوة وناشئتها، وساهمت في حمايتهم من أبواب الشر والفساد.
وثمة اعتبارات عدة تؤكد على ضرورة إحاطة الجهود
التربوية بسياج ضوابط الشرع، منها:
أولاً: أن التربية عمل شرعي، وعبادة لله (عز وجل) ، فلابد لها أن تحاط
بسياج الشريعة، وتضبط بضوابطها، وإن سلامة المقصد، وحسن النية، ونبل
العمل ليست مسوغاً أو مبرراً لتسور السياج الشرعي وتجاوز الضوابط.
ثانياً: التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى (الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، الحكم بين الناس، الجهاد..) ، وهذه الوظائف لا يجادل
مجادل أنها لابد أن تضبط بالضوابط الشرعية.
ثالثاً: التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعملاً قبل أن تكون قولاً،
والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود الشرع
فكيف سيربي المُرَبّي على الورع والتقوى ورعاية حدود الله؟ وهو يرى المخالفة
الشرعية ممن يربيه ويقتدي به.
بل إنه من خلال عمله هذا يربي من وراءه على الاستهانة بالضوابط الشرعية، ويغرس لديهم الجرأة على ارتكاب المحرمات وتجاوز الحدود.
رابعاً: وكما أن المربي ينظر إليه بعين القدوة، فهناك عيون أخرى ترقبه
وتنظر إليه، فينظر إليه من الخارج بوصفه واحداً ممن يعمل للإسلام وعمله يمثل
السمت والهدي الشرعي، وربما ينظر إليه بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به؛ وذلك
كله يدعو المربي إلى أن يتقي الله ويتحرى الضوابط الشرعية فيما يأتي ويذر.
خامساً: أن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده، بل قبل ذلك
كله إلى توفيق الله وعونه وتأييده؛ وهذا التوفيق له أسباب، من أعظمها وأهمها:
رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد
عن توفيقه (سبحانه) وتأييده.
والمتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل
التربوي للضوابط الشرعية تستوجب الوقوف والمراجعة.
ولعل أسباب هذه التجاوزات ما يلي:
أولاً: ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به، فكثير من العاملين في الساحة
الإسلامية يأخذ الجانب العلمي الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم، ولعلنا
نتساءل: ماذا قدمت فصائل العمل الإسلامي لأتباعها في ميدان البناء العلمي
الشرعي؟ بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره
والتقليل من شأنه؛ فهو في نظر هؤلاء يشغل عن الدعوة إلى الله وهموها، أو هو
شأن الخاصة والمهتمين، أو أن العناية (باستراتيجيات) الدعوة وقضاياها الفكرية
الساخنة أولى وأصدق دلالة على عمق صاحبها! ... هذه حجج يواجه بها من يدعو
بعض العاملين للإسلام لكي يعطوا العلم الشرعي دوره اللائق به ضمن برامجهم
الدعوية.
ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضاً إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم
الأوحد للدعاة، وأن يهمل ما سواه، ولا إلى أن يكون الدعاة فقهاء ومحدثين
ومجتهدين فحسب.
ثانياً: الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك، وهذا يؤدي إلى
نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة؛ إذ لا تتم التربية إلا بذلك،
فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه، والاطلاع على كوامن نفسه، وإلى
عدم الوقوف عند حدود الظاهر..
وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية
ستقف عائقاً دون تأدية أدوار كثيرة فيضطر لتجاوزها.
ثالثاً: ضعف الورع والانضباط الشرعي، وهو باب بُلي به كثير من الناس
في هذا الزمان، ومن يضعف ورعه ويرق دينه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين
أنه محرم، أو تهاون فيما يستريب منه، أو يغلبه هواه.
رابعاً: الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص لله
(سبحانه وتعالى) ، واستحضار النية، والشعور بأن العمل عبادة لله وحده.
ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسباب، فهي مما لابد منه،
لكن ينبغي ألا ينسينا ذلك استحضار النية والعبادة في هذا العمل.
من صور الإخلال بالضوابط الشرعية:
أولاً: الاتكاء والاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر
للنصوص الخاصة في المسألة , والشريعة باب واحد لا يمكن أن تتناقض أو تضطرب، والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص، وتسليط الأفهام البشرية عليها يؤدي إلى فوضى واستهانة بحدود الله.
ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة، إذ كثيرٌ من المخالفات العظام في
الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها، وللأسف باسم المصلحة، وهو المنهج نفسه
الذي يسلكه بعض علماء السوء وأهل الأهواء في تبرير مواقف بعض الطواغيت.
إن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة لا جدال فيها ولا نقاش، لكنها يجب أن تكون ضمن ضوابط، من أهمها: ألا تخالف نصّاً أو حكماً شرعيّاً، وإلا كانت مصلحة ملغاة، ومما قد يمارسه بعض المربين باسم المصلحة:
التجسس، والاستماع لحديث الآخرين دون علمهم، والاطلاع على ما يخصهم دون
إذنهم ... كل هذه الأمور محرمة شرعاً، لا تبيح المصلحة والتربية تجاوز هذه
الحقوق إلا في أحوال خاصة.
فتجرؤ بعض المربين على تجاوز هذه الحدود الشرعية باسم المصلحة
وضرورة التربية داخل في عموم قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً
مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ] [الحجرات: 12] ،
وقوله: «من تحلم بحلم لم يره كُلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن
استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» [1] .
ثانياً: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن:
من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، وما
سبق من النهي عن التجسس والتطلع داخل ضمن هذه القاعدة، ولهذا قال: «إني
لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» [2] ، وقال أيضاً: «يا معشر من آمن بلسانه
ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع
عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته» [3] .
وقال أيضاً لمعاوية: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت
تفسدهم» [4] .
وينهى -صلى الله عليه وسلم- الرجل أن يطرق أهله ليلاً، معللاً ذلك بقوله:
«يتخونهم أو يلتمس عثراتهم» [5] .
وتدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء
الظاهر، والدافع لذلك كله حسن ولا شك؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويخشى
أن يغتر بالمظاهر، فيريد قياس نتاج تربيته، لكن ذلك كله لا يجوز أو يسوغ أن
يكون على حساب الضوابط الشرعية.
ومما يعين المربي على الاقتناع بهذا المسلك، وتجاوز التطلع: علمه أنه غير
مكلف شرعاً بسوى ما يظهر له، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه كان يقول: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بالحجة من بعض فأقضي له بنحو
ما أسمع» [6] .
إن المربي ينبغي أن يحرص على إصلاح القلوب ومخاطبة الباطن والدعوة
لتنقية السرائر، لكنه بعد ذلك يبقى يتعامل مع الظاهر لا مع السرائر.
ثالثاً: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد:
ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاّ
وحرمة، ولكل منهم مأخذه ودليله، فهي دائرة ضمن مسائل الاجتهاد.
والأمر في مسائل الاجتهاد واسع، ولا يسوغ في ذلك الإنكار والإغلاط
والتهارج، لكن ذلك قد يشعر بعض المربين أن هذه المسائل ما دامت ضمن مسائل
الاجتهاد فالأمر فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط، فيسلك فيها ما يتناسب
معه دون أي اعتبار لأمر آخر.
ولا شك أن كون المسألة من مسائل الاجتهاد لا يسوغ أن يتبع فيها المرء ما
يحلو له، بل لابد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي وليس
هذا مقام بسط هذه المسألة.
رابعاً: إهمال الورع الشرعي الواجب:
ومن صور ذلك:
التوسع في الوقوع في الأعراض، فقد تدعو طبيعة العمل التربوي إلى
الحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن
طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله هو المنع والتحريم إذ هو داخل تحت
النصوص التي تحرم الغيبة وتشدد فيها، بل تجعل حرمة أعراض المسلمين كحرمة
الشهر الحرام والبلد الحرام إلا ما كان له حاجة ومصلحة شرعية واضحة.
ومن أخطر هذه الأبواب ما يتعلق بقضايا الأعراض، إذ قد يصارح تلميذ
أستاذه ومربيه بمشكلة تتعلق بهذا الباب فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره
بما لا ضرورة له، ولا يسوغ أن تكون المحاضن التربوية ميداناً تلاك فيه
الأعراض، وتنتهك فيه الحرمات.
وبعد:
ونحن إذ نتحدث عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات فيجب أن نعتدل ونتوسط، فلا يسوغ أن تكون مجالاً للتندر وانتقاص العاملين لله، أو أن تحول إلى معول
هدم للصروح التربوية وسعي إلى القضاء عليها بحجة الانضباط الشرعي.
وندرك أيضاً أن الكثير ممن يقع في مثل هذه التجاوزات إنما أُتي من باب
الغفلة والذهول عن مراعاتها، لا من قبل رقة الدين، بل أكثرهم خير وأتقى لله من
كثيرين منا.
كما ندرك أيضاً المنجزات الرائعة التي قدمها هؤلاء المربون، نسأل الله أن
يجعل ذلك في موازين حسناتهم، وأن يبارك في جهودهم، ويكلل أعمالهم بالتأييد
والنجاح والتوفيق.