مجله البيان (صفحة 2056)

في دائرة الضوء

تدشين الأممية النسوية العلمانية

قراءة في خلفيات مؤتمر المرأة ببكين

(الحقائق والأهداف)

بقلم: د.محمد يحيى

اكتسب المؤتمر الدولي الذي عقد في بكين [*] ، تحت رعاية وإعدادالأمم

المتحدة، شكلاً يشبه إلى حد بعيد تلك المؤتمرات التي يعقدها المجلس العالمي

للكنائس الكاثوليكية كل بضع سنوات؛ للخروج بنظريات جديدة في عقيدتهم، أو

لوضع سياسات تنصيرية للدعاية والترويج.

ويأتي هذا المؤتمر تتويجاً لسلسلة من المؤتمرات والاجتماعات التي رعتها

الأمم المتحدة، بدءاً من عام المرأة (1975م) ، الذي أعقبه عَقْد المرأة، ثم عام

الطفل، ثم عام الأسرة، وعقد الأسرة، وسارت معه بالتوازي في السنوات ذاتها

مؤتمرات السكان المشهورة، التي عُقد آخرها منذ عام في القاهرة، حيث تلاقت

أهداف وثيقته مع وثيقة وأهداف مؤتمر بكين، فهي حلقات متتابعة ينظمها الهدف

الرئيس لهذه المؤتمرات، لذا: جاء مؤتمر بكين في جوهره تدشيناً لحركة ممتدة

تعود إلى ما يزيد عن ربع قرن، وتتويجاً لها كعقيدة عالمية جديدة: هي الاتجاه

النسوي المعروف ب (الفمنزم) [**] ، وهكذا شهد العالم مولد (كنيسة) جديدة،

وعقيدة وضعية تَخْلف الدين العلماني الساقط (الماركسية) وتجدد شباب الأطروحات

العلمانية الغربية.

وفي عالمنا الإسلامي مازالت الصورة غير واضحة، لا يبصرها إلا القليل

ممن رحم الله، وقد تشابكت في الأذهان عدة عناصر:

أ- البعض وهم الكثرة مازال يرى في أمثال هذه التحركات المحمومة بزعم

الاهتمام بالمرأة استمراراً للخط القديم الذي عرف باسم (حركة المطالبة بحقوق

المرأة) ، التي عرفها الشرق المسلم في مطلع القرن العشرين، وكان لها أبطالها

وقديسوها، التي سارت في ركاب الحركات القومية العلمانية والمتغربة.

ولكن حركات المطالبة بحقوق المرأة تَعُدّ شيئاً مختلفاً بالنوع عن التوجه

النسوي الجديد وإن كان مُهّدَ له ويلتقي معه في بعض الجذور الفكرية الغربية

الأصل؛ ذلك لأن دعوة حقوق المرأة كانت على الأقل في الظاهر تدعي في العالم

الإسلامي أنها تعمل في إطار القيم والأوضاع الاجتماعية القائمة؛ لتطالب بحقوقٍ

للمرأة موجودة في صلب هذه القيم والتقاليد، لكنها نُسيت أو سُلبت. وفي الغرب

كان الشيء نفسه؛ حيث جرت المطالبة بحقوق المرأة في التعليم والعمل والتصويت

في إطار الأوضاع القائمة (أي: المجتمع البورجوازي الرأسمالي الصناعي) .

ومن الصحيح أن هذه الحركات تطورت فيما بعد لتطالب بحقوق مزعومة

ليس لها أساس في تراث مجتمعاتها، أو أنها اتخذت أشكالاً ثورية وفوضوية في

التعبير والعمل، مما مهد بأثر غير منكور في ظهور اتجاه (الفمنزم) ، لكنها كانت

مختلفة عن هذا الاتجاه.

أ- أما البعض الآخر وهم القلة فما زالوا يرون في عباب هذه الاجتماعات

والتحضيرات والوثائق.. إلخ، امتداداً لما عُرف بحركة تحرير المرأة في أوائل

وأواسط القرن العشرين، التي كان لها كذلك وجود وقديسون! في عالمنا الإسلامي، ولكن هنا أيضاً توجد اختلافات عن حركة (الفمنزم) المعاصرة، بعضها نوعي،

والآخر مجرد اختلاف في الدرجة والتركيز، صحيح أن حركة تحرير المرأة كانت

السلف المباشر للحركة النسوية العلمانية، وصحيح أنها اشتركت معها في الجذور

اللادينية الصريحة، والعداء للأديان (وبالذات الإسلام في منطقتنا) ، وصحيح أنها

اشتركت معها في تجاوز الأوضاع الاجتماعية والثقافية القائمة مع رفضها،

وصحيح كذلك أنها اشتركت معها في المطالبة، ليس بحقوق معينة للمرأة، وإنما

في الدعوة إلى وضع مختلف لها تماماً داخل المجتمع، مع تغيير هذا المجتمع نفسه

ليتواءم مع الوضع المرتجى والمطلوب للمرأة، وصحيح أخيراً أنها اشتركت معها

في رفض أنظمة الزواج والأسرة والقيم والتعاليم والتقاليد التي تحكمها سواء في

الغرب، أم في الشرق داعية إلى إسقاطها، وإحلال الحب الحر وغير ذلك من

أشكال التحلل من القيم محلها.

كل هذا صحيح، لكن حركة تحرير المرأة كانت تختلف عن عقيدة (الفمنزم)

في جوانب أساسية وحاسمة؛ فلم تكن لها فلسفة فكرية تؤصل نشاطها وتسنده، كما

أنها لم ترتبط بحركة عالمية تقف وراءها وتدافع عنها وتروج لها، على الرغم من

أنها حاولت في وقت من الأوقات الارتباط بالشيوعية، ولا سيما في أوائل عهدها،

ولأن (الفمنزم) أوجدت لنفسها فلسفة وعقيدة، ولأنها تحولت إلى حركة عالمية تتخذ

من أدوات النظام العالمي أسلحة لها في حربها، فإنها قد تجاوزت إلى حد بعيد أبعاد

حركة تحرير المرأة رغم أوجه الشبه والقرابة الواضحة بينهما.

وهذه النقطة لا يدركها معظم إن لم يكن كل من يتعرضون بالتحليل لظاهرة

مؤتمرات الأمم المتحدة، وما يحيط بها من خضم للنشاطات التي تدور حول المرأة، إذ ما زال الكثيرون سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين ممن يتصدون بالكتابة لهذه

الظاهرة يضعونها في سياق حركة المطالبة بحقوق المرأة، أو يعتبرونها في سياق

حركة تحرير المرأة، والحركة النسوية العلمانية ليست بهذه أو بتلك، فنحن أمام

عقيدة شمولية تُطرح لكي تُفرض وتسود العالم كله، وتحل محل العقائد والأديان

والمذاهب (وضعية أم غير وضعية) . ولهذا شبهنا مؤتمر المرأة باجتماعات الكنائس

الكبرى؛ ليس فقط لشمولية الموضوعات التي يتعرض لها، وإنما أيضاً لذلك الجو

من التبجيل الذي أحاط بهذا المؤتمر؛ مما جعله تدشيناً لدين جديد أُعد على مدى

ربع قرن، وهذا التشبيه يدل على مفتاح أساسي من مفاتيح فهم وتحليل هذه الظاهرة، يعني: على تجاوز جوانبها السطحية والنفاذ إلى أعماقها.

إن جوهر (الفمنزم) يكمن في الظاهرة العامة التي عرفها تاريخ الفكر

والممارسة الغربية على مدى القرنين الماضيين، ألا وهي: ظاهرة وضع أديان

وعقائد بشرية وضعية لتجنب الدين الموحى به، وسواء اعتقدنا أن هناك مؤامرة

يهودية ماسونية علمانية وراء هذه الظاهرة، أم لا، فإننا لا نملك إلا أن نرصدها،

بدءاً من العوالم والمدن المثالية التي حفل بها تاريخ الفكر الأوروبي في القرن

السادس عشر وما بعده، إلى عقيدة التنوير في القرن الثامن عشر، وعقيدة أو دين

(عبادة العقل) في آخر هذا القرن، ودين (عبادة المرأة) الذي ألّفه العالِم (العلماني)

(أوجست كومن) في أوائل القرن التاسع عشر. ثم هناك الأديان العلمانية المشهورة: كنظام (هيجل) الفلسفي، ثم نظريات (ماركس) التي أنجبت الشيوعية

والاشتراكيات المختلفة من مثالية إلى علمية، وأخيراً: فلسفات الغرب الكبرى في

القرنين التاسع عشر والعشرين؛ من الوضعية، إلى الليبرالية، إلى النزعة العلمية

وفلسفة العلوم، والنفعية (البراجماتية) ، إلى الوجودية، والظواهرية.

والدين الوضعي العلماني هو مذهب فكري يدعي أنه يحل محل الأديان الغابرة

في الغرب (كالنصرانية واليهودية) ، ويفسر كل جوانب الحياة بفعل مبادئ عامة

يرسيها، كما يوجه بفعل نفس المبادئ إلى سبل الحياة السعيدة. وهذه العقائد

العلمانية تشترك في رفض الوحي المنزل، بل ورفض وجود الإله ذاته، وتجعل

من الإنسان أو من المبادئ التي تبتدعها وحياً منزلاً لا يناقش ولا يُرد، وهي تتوسل

في دعاويها بادعاء أنها علمية الطابع والمنهج؛ نظراً للقداسة التي أصبح العلم

التجريبي يحظى بها باعتباره مصدراً للحق واليقين بديلاً عن الأديان الساقطة. غير

أن الأديان العلمانية ذاتها أخذت تتعرض للسقوط واحداً تلو الآخر؛ بفعل النقد الذي

وجّه لها من داخلها أو من خارجها.

ومع ذلك السقوط المتتالي للأديان العلمانية، نشأت مشكلة في مجمل الوضع

العلماني الذي أصبح محور وجود وفكر المجتمعات الغربية، ذلك لأن الأديان

الوضعية أصبحت تؤدي وظائف مهمة على مدى القرنين الماضيين داخل هذا

الوضع العلماني؛ فهى التي تزوده بالسند الفكري و (الروحي) إن جاز التعبير،

وترسم رؤيته للحياة، وتحدد الأهداف والمثل التي توضع للمجتمعات لتحقيقها، كما

أن هذه الأديان الوضعية هي التي تضمن للغرب إحساسه بالتفوق على الآخرين

بحكم امتلاك (الحق) و (العلم) و (اليقين) ، فضلاً عن أنها هي التي ضمنت للغرب

إضفاء غطاء فكري على حركة الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم النظام

الرأسمالي الدولي، وأخيراً النظام العالمي الجديد، وكلها موجهة ضد ما يسمى

بالعالم الثالث، وهو في الحقيقة العالم الإسلامي، فالغرب وهو يحتل ويستغل

وينهب موارد العالم الإسلامي: يفعل ذلك تحت شعار هذه المبادئ والعقائد العلمانية

(النبيلة!) و (السامية!) ، والأهم من ذلك: أن الوضع العلماني المسيطر في

الغرب أدرك أنه لضمان استمرارية النهب والسيطرة فلابد من إلغاء الدين، الذي

يبعث في نفوس المحتلين الثورة والرفض، وإحلال المذاهب العلمانية نفسها محله

كأديان جديدة، تضمن أن الأجيال الناشئة والطبقات الحاكمة في ذلك (العالم الثالث)

ستكون تابعة للغرب؛ لأنها تشاركه أفكارها، بل وتعتبرها المنقذ الوحيد لها،

وتفرضها على شعوبها بالحديد والنار.

لهذه الوظائف الحيوية التي تلعبها المذاهب العلمانية داخل الغرب وخارجه في

ظل سيطرة الوضع العلماني: كان لابد كهدف اجتماعي حيوي من تجديدها كلما

شاخت، أو اختراع بديل كلما سقط دين منها، وأصبحت هذه المهمة ملحة في الربع

قرن الماضي بعد جلاء فشل الماركسية والليبرالية (وهي آخر الأديان الوضعية

الكبرى) وسيادة أفكار الشك والريبة والنسبية المطلقة ورفض الثوابت، في فترةِ ما

أصبح يعرف بعهد ما بعد الحداثة.

وفي هذا السياق العام بالضبط تأتي حركة (الفمنزم) النسوية العلمانية كدين

جديد، لكنه دين أخطر من الأديان الوضعية السابقة؛ فإذا كانت الماركسية مثلاً قد

حاولت إحداث صراع بين قلة وكثرة وعلى أرضية اقتصادية بحتة، فإن (الفمنزم)

تحدث انشقاقاً في وسط المجتمع، وعلى أسس شاملة تمس أدق جوانب حياة الإنسان؛ لتعيد صياغتها وفق النهج العلماني الراسخ في الغرب.

ولكن: ما المبادئ العامة التي تطرحها الحركة النسوية العلمانية وتجعلها محل

الدين، والتي تتستر وراء كل هذه المظاهرات الصاخبة من مؤتمرات، وضجيج

إعلامي، وسياسات تنفذ بالقوة وبخاصة في المجتمعات المسلمة؟ .

إنها ليست مجرد المطالبة بحقوق للمرأة أيّاً كانت، وأيّاً بلغت درجتها من

المعقولية، أو الشطط، بل هي الدعوة إلى تغيير شامل وجذري، وقلب لكل

المفاهيم بدون استثناء التي ظلت البشرية تنظر بها إلى المرأة، وبخاصة المفاهيم

الدينية، فبالاستناد إلى شذرات مقتطفة من الماركسية والليبرالية وعلوم

الأنثروبولوجيا، تعمد (الفمنزم) إلى تصوير التاريخ البشري وكأنه دراما كبرى قام

فيها الرجال ومنذ عهد مبكر بقلب الأوضاع التي كانت المرأة فيها صاحبة السيادة

والطّوْل (المجتمع (النسوي) ، ليقيموا محلها المجتمع (الرجالي) الذي تبشر

(الفمنزم) بسقوطه، لكن المستهدف ليس مجرد عكس للأوضاع بشكل مبسط ليعود

للنساء الحكم والسيطرة، ويرجع الرجال إلى عهد العبودية القديمة المزعوم.

إن المطلوب عبر سلسلة طويلة من الخطط والإجراءات: هو إلغاء الجنس

ذاته، أي: جنس الرجال والنساء معاً، بكل ما ينطوي عليه من مفاهيم و (أدوار)

ثابتة تكرسها الأديان المنزلة، وإحلال الجنس بمفهوم (النوع) ، الذي يعني: أن

يكون المخلوق البشري مادة خاماً محايدة تخلو من الملامح والقسمات التي درجت

البشرية على التمييز من خلالها بين النساء والرجال كجنسين مختلفين لكل منهما

أوضاع وأدوار محددة، يقوم بها داخل المجتمع والأسرة، وتدور حول تحليل

مفاهيم (العلمانية) .

ولا يوجد مانع داخل إطار هذا المفهوم الجديد، أن يقوم أفراد هذا النوع

المحايد العام ولفترات محدودة فقط بانتحال بعض الأدوار التي كانت في (الماضي

الغابر) تنسب للرجال أو النساء، شريطة أن يقوم الرجال بأداء أدوار النساء

التقليدية والعكس، ومن المهم هنا أن نذكر أن هذا المفهوم الذي تروج له (الفمنزم)

يمثل في الوقت نفسه الأساس (الفكري) لحركات الشذوذ الجنسي التي أصبحت في

السنوات الأخيرة ذات نفوذ واسع في دوائر الثقافة والإعلام والمجتمع بل والسياسة

في الدول الغربية، والتي لن تصبح (شاذة) بعد تطبيق مفهوم (النوع المحايد) ، بل

ستصبح هي أكثر الأوضاع طبيعية واعتيادية.

هذا هو الهدف العام وراء غابة النشاطات والمؤتمرات التي تخلقها الحركة

النسوية العلمانية من خلال مؤسساتها الدولية والمحلية، إنه الغاية الكبرى وراء كل

الشعارات التي يجري عليها الإلحاح بشكل محموم حول (تمكين المرأة) ، وإكسابها

النفوذ الاقتصادي والسياسي، و (إلغاء التقاليد) المعوقة لتقدمها، ونشر (التعليم)

الجنسي، وإدماج كل أشكال الانحراف (من الزنا إلى الشذوذ) لتصبح أوضاعاً

طبيعية.

نحن إذن أمام حركة تسعى إلى إلغاء جنس المرأة نفسه، وكل ذلك تحت شعار

الدفاع عن المرأة وضمان تقدمها، لكنه التقدم الذي يؤدي إلى إلغاء الجنس ذاته مع

جنس الرجال، ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أصبحت هذه الحركة عالمية

الطابع؟ ولماذا أصبح لمؤتمر بكين كل هؤلاء المدافعين والأنصار في عالمنا

الإسلامي؟ !

الإجابة على السؤال الأول هي: إن هذه الحركة تسد فراغاً عقديّاً في مجتمع

وصل به الخواء حد اعتبار الحملة ضد التدخين بمثابة أهم الأعمال الأخلاقية، كما

أنها حركة تضمن لذلك المجتمع (الغربي) إسقاط ذاته وبسطها على المجتمعات

التابعة (الإسلامية والنامية) .

أما الإجابة على السؤال الثاني فهي في نوعية الجهات التي تحتضن هذه

الحركة في عالمنا العربي الإسلامي، إنها النخب العلمانية ذات الهيمنة على

مجريات شؤون مجتمعاتنا، وهي، وإن كانت محدودة العدد، إلا أن سيطرتها على

مفاتيح مؤسسات الإعلام والتعليم والثقافة بل والسياسة تعطي لها نفوذاً يفوق حجمها

بكثير.

ونعود إلى مؤتمر بكين، وهو كما قلنا التتويج العملي لحركة (الفمنزم) ، أو

كما صرح عضو مجلس الشيوخ الأمريكي البارز السناتور (هيلمز) في 27 يوليو

الماضي من أن المؤتمر: تديره وتحدد أفكاره جماعة محدودة من النساء اليساريات

(وهذا اللفظ من الاصطلاح الأمريكي يتضمن معاني العلمانية الملحدة) اللواتي يعملن

لهدم قيم الأسرة وسائر التعاليم الأخلاقية.

لقد اتخذ مسار تبرير توصيات ووثائق وبرامج هذا المؤتمر في العالم

الإسلامي خطين أساسيين:

الخط الأول: بناه أنصار الحركة النسوية العلمانية ممن هم في مواقع السلطة

الرسمية، أو الناطقين باسمها (كبعض المفتين الرسميين) ، وقد اعتمد هذا الخط

على تجاهل كل مخططات المؤتمر والتركيز في الدعاية الإعلامية على رسالة غير

معقدة تقول: إن هذا المؤتمر يبحث في حقوق المرأة؛ وإن الإسلام يحض على

حقوق المرأة؛ لذا: فإن المشاركة في المؤتمر وتبني توصياته وسياساته في هذا

الإطار عمل لا غبار عليه إن لم يكن من صميم الإسلام (!) ، لكن أصحاب هذا

الخط يتجاهلون أن حقوق المرأة في الإسلام غير حقوق المرأة التي تدعو إليها

الحركة الواقفة وراء مؤتمر بكين، فليس من هذه الحقوق حق الزنا، والحمل

السفاح، والشذوذ، وهي حقوق رتبها هؤلاء في زعمهم كعلامات للتقدم، وليس من

حقوق المرأة في الإسلام أن ترفض الدين بحجة أنه متخلف ومعادٍ للمرأة لمجرد أن

اليساريات الأمريكيات يقلن ذلك، ثم إن حقوق المرأة في الإسلام تقترن بواجبات

معينة أهدرها أصحاب مؤتمر بكين: كواجبات الأمومة، ورعاية الأسرة.. وحقوق

المرأة في الإسلام تؤخذ وتمارس في سياق الإيمان المشترك، وفي سياق الأمة

الواحدة المتكاتفة، أما الحقوق المزعومة التي يرتبها مؤتمر بكين: فتدار من خلال

عملية حادة تشق صفوف المجتمع، ولا تؤخذ إلا على جثة حقوق الرجال، أو حتى

وجودهم كجنس متميز، وهي تمارس في سياق مجتمع يعادي الإيمان بالله وينشيء

دعائم الإلحاد تحت شعارات العلمانية.. ليس الأمر إذن سوى حركة خداع ساذجة!!.

أما الخط الثاني الأساس الذي يتخذه مسار تبرير توصيات المؤتمر فهو لا

يخلو كذلك من الخداع، ويمثل هذا الخط الدوائر العلمانية التي لا ترتبط مباشرة

بالسلطة مما قد يكون عاملاً يفرض عليها حرجاً في التعبير عن التوجهات والآراء

والمشاعر. يقوم هذا الخط على أن قرارات مؤتمر بكين هي في حقيقتها مواصلة

لحركة تحرير المرأة، وأن الإسلام يدعو لتحرير المرأة، فالمؤتمر على هذا الوجه

يحقق هدف الإسلام، ولكن الإسلام (التقدمي العلماني) ، وليس الإسلام (الرجعي)

(الظلامي) في زعمهم الذي يسود الدنيا الآن! ! .

إن الإسلام حرر المرأة كما حرر الرجل من الجاهلية والضلال، ولكن أنصار

مؤتمر بكين يريدون تحرير المرأة من الإسلام نفسه، أو من الإيمان به وقيمه

وتعاليمه وشريعته، وشتان ما بين النوعين من التحرير. وتحرير المرأة الإسلامي

يتم في إطار شامل لكل المجتمع، لكن تحرير مؤتمر بكين يتم على أشلاء المجتمع

وبعد صراع مرير يتم فيه إلغاء جنس الرجال، ثم جنس النساء نفسه، وصولاً إلى

(النوع) البشري الذي يصلح لكل أدوار الأجناس: الخشن، والناعم، والثالث، إنه

تحرير يتم عبر التدمير، وليس تحريراً يتم عبر البناء والتعمير؛ تدمير الأسرة،

وتدمير كل القيم الإنسانية، بحجة أنها كانت مجرد مواضعات نسبية زال أوانها منذ

عصور سحيقة.

هذه هي المحاور التي يدور حولها تبرير قرارات مؤتمر بكين، والترويج لها، والدفاع عنها، وهي محاور كما رأينا تعتمد أساساً على تجاهل الأبعاد الحقيقية

لهذا المؤتمر، كما لاحظناها فيما سبق، وتصور نتائجه في إطار محدود ومستأنس

فيما يبدو كمجرد دفاع عن حقوق للمرأة وتحرير لها من أوضاع ظالمة، لكن أحداً لا

يخوض جهلاً أو خبثاً في حقيقة الحركة النسوية العلمانية التي توجت جهودها

بمؤتمر بكين.

لكن ما يهمنا حقيقة من المؤتمر: أن القرارات والتوصيات التي تصدر عنه

وعن أمثاله من المؤتمرات تتحول على الفور إلى أوامر وسياسات، تلتزم جميع

الأجهزة الحكومية وغير الحكومية في البلدان الإسلامية بتنفيذها، وكأن هناك

حكومة عالمية تقوم على هذه التوصيات، ولا تهدأ حتى تراها مطبقة على واقع

الحياة. وإذا كانت المظاهر الواضحة لهذه الحكومة العالمية تتمثل في الأمم المتحدة

ووكالاتها في أخطبوط الإعلام الدولي الممتد والمسيطر بأقماره الصناعية، وفي

شبكة ما يسمى المعونات الأجنبية، التي هي أداة التدخل والتأثير في الدول

الإسلامية في العصر الحديث.. فإن هناك مظاهر أخرى غير واضحة لهذه الحكومة

العالمية أو ما يسمى بالنظام الدولي الجديد أبرزها على الساحة الإسلامية العربية:

تلك التجمعات للنخب العلمانية في أندية ومحافل ومنابر وروابط يطلق عليها الآن

وصف (المنظمات غير الحكومية) : وتزعم النشاط في مجالات حقوق الإنسان،

والبحث العلمي والفكري، والخدمات الاجتماعية، وبالطبع حقوق الإنسان وأوضاع

المرأة، وعلى الرغم من وصف (غير الحكومية) الملحق بهذه التجمعات إلا أنها في

الواقع تمارس نفوذاً قويّاً على الحكومات المحلية بمستوياتها المختلفة من أعلى إلى

أسفل، بل إنها تمارس نفوذاً يفوق نفوذ هذه الحكومات، وذلك بفضل اندماجها في

الشبكة العالمية لهذه المنظمات، وبالفعل: فقد أصبحت هذه (المنظمات غير

الحكومية) الذراع الأساس للحكومة العالمية في فرض وإعمال كل السياسات

الموضوعة في مؤتمرات المرأة والسكان، وآخرها مؤتمر بكين، وقبله مؤتمر

القاهرة، إن هذه المنظمات التي تضم نخباً نسوية علمانية منعزلة عن مجتمعاتها

الإسلامية أصبحت تستمد قوة كبيرة بفضل الدعم المالي والمعنوي الذي تتلقاه من

شبكاتها الخارجية، بل إنها أصبحت أكثر ارتباطاً بالوضع العلماني الغربي من

ارتباطها أو حتى صلتها بمجتمعاتها المحلية، وتحولت إلى مجرد فروع للحركة

العالمية للمنظمات غير الحكومية العاملة في مجالي المرأة والسكان.

إن المنظمات غير الحكومية المنعزلة عن مجتمعاتها، والتي لا توجد لها

جذور في أرض المجتمعات الإسلامية تمارس نفوذاً لا تناسب بينه وبين الحجم

الحقيقي لأفرادها ووزنهم الفكري، ويعود ذلك إلى الاندماج في النظام الدولي الجديد

والارتباط به لأداء دور الفروع من خلال شتى أنواع الدعم، كما يعود إلى

الالتصاق بالسلطات السياسية والتنفيذية القائمة من خلال اختراقها والنفاذ إلى القمة

فيها ولا سيما زوجات الرؤساء ذوات الميول المتغربة.

إذن: نحن نواجَه حقيقةً، ليس بحركة فكرية (في مجال (الفمنزم) أو الحركة

النسوية العلمانية) تسعى إلى نشر أفكارها بوسائل الإقناع والحجة وما أشبه ذلك،

بل بحركة تآمرية الطابع تتوسل إلى أغراضها بأسلوب التآمر الخفي، وإجبار

المجتمعات الإسلامية على تنفيذ وإطاعة سياسات لا توجد لها أية جذور في الأرضية

الإسلامية.

وهكذا.. فرغم أننا نبدو بعيدين عن مؤتمر بكين وأمثاله والقرارات الصادرة

عنه، ورغم أننا نبدو بعيدين عن شطحات أفكار ومبادئ (الفمنزم) ، إلا إننا نجد ولا

أقول نفاجأ بأن هذه الأفكار تطبق في بلادنا الإسلامية كسياسات فعلية تنفذ بقوة

القانون دون أن يكون قد سبق حتى التبشير بها، أو كسبت الأنصار لها، واللجوء

إلى هذا الأسلوب المشبوه في الفرض والإجبار يدل على أن مروجي هذه الأفكار

والسياسات واثقون من أنه لو طرحت على حقيقتها فإنها لن تجد أي صدى مهما

كانت درجة لمعان الشعارات التي تحيط بها.

هذا هو الأسلوب الذي تُفرض به علينا مخططات نرفضها، ونقدم الحجة

ضدها، ونقول: إنها تخالف عقيدتنا وتاريخنا وتراثنا وشريعتنا، لكننا مع ذلك

نجدها مطبقة ومنفذة بشكل يبدو سحري الطابع، لكنه يعود في الحقيقة إلى أسلوب

التآمر غير الشريف الذي ألمحنا فيما سبق إلى بعض جوانبه وآلياته.

هذه هي الحقائق وراء كل الضجيج والصخب والبريق الذي أحاط بمؤتمر

بكين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015