مجله البيان (صفحة 2054)

المسلمون والعالم

الأصولية الغربية

المنظمات الأصولية وصناديق الاقتراع

(?)

بقلم: ياسر قارئ

تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين منشأ الأصولية الغربية في أوروبا، ثم انتقال مركزها إلى أمريكا؛ فكشف عن جذورها التاريخية والمعتقدات المحركة لها، ثم وضح أثر هذه المنظمات الإنجيلية في الحياة العامة وبخاصة في صناعة السياسة الخارجية.. وفي هذه الحلقة يواصل الكاتب بيان دور المنظمات الأصولية.

-البيان-

في هذا الجزء الأخير من البحث سيكون الحديث عن الساسة الأمريكيين

المعاصرين، ومواقفهم وتبنيهم لآراء وأفكار الأصوليين، على الرغم من الفصل

التاريخي بين الكنيسة والدولة الذي رسخه الدستور، ثم أختم الحديث بذكر آراء ثلة

من النخبة المثقفة في أمريكا حول الدين والدولة.

إن المطلع على واقع المجتمعات الديمقراطية وبالأخص المجتمع الأمريكي

ليدرك أن اتخاذ القرار ليس بمنأى عن المؤثرات الخارجية التي تشكل لجان العمل

السياسي (أو اللوبي) قطب الرحى فيها؛ لذلك فإنه يصدق على هذا الوضع

تشخيص بعض المحللين السياسيين بأن اللوبي أو التأثير على السياسة هو جزء من

صناعة القانون أو السياسة الأمريكية، حتى إنه يمكن القول بأن تاريخه يقترب من

أن يكون هو تاريخ التشريع الأمريكي [1] ، ولقد مر معنا في الحلقة السابقة ذكر

أنشطة المنظمات الأصولية وبالذات السياسية منها لذلك: فليس من قبيل المفاجأة أن

يعلن المرشحون الرئاسيون الثلاثة في سنة 1980م عن أنفسهم بأنهم إنجيليون

أصوليون، وأن لدى كل واحد منهم من الرصيد الإيماني ما يثبت حقيقة

ادعائه [2] .. والحقيقة التي يعرفها الجميع الآن هي: أن ظاهرة الأصوليين السياسيين لم تتوقف عند تلك الحقبة الزمنية، بل استمرت حتى الانتخابات الأخيرة سنة 1992م، ولا يعني فشل مرشح اليمين الأصولي والرئيس السابق انتهاء فاعلية الأصوليين السياسية؛ إذ إننا نفاجأ وبعد عامين من تلك الهزيمة بعودة قوية للأصوليين، وذلك عقب اكتساح الحزب الجمهوري لمقاعد مجلسي الكونجرس والنتائج المباشرة التي تمخضت عن ذلك كالبرنامج السياسي الذي طرحه الجمهوريون تحت مسمى (العقد مع أمريكا) وما تحويه من نَفَس أصولي عميق، وإثارة لمسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس قبل نهاية الألف الثانية!

لعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن نشاط الأصوليين لم يتوقف في يوم من الأيام، وإنما يمر بفترات صعود وهبوط بحسب الظروف والإمكانات، لكن وبحكم الفترة

الزمنية التي يعالجها هذا الجزء من البحث، فإنه منذ فضيحة (ووترجيت) التي

أطاحت بالرئيس الهالك نيكسون: والأصوليون يجدون أبواب البيت الأبيض

مشرّعة أمام أهدافهم وطموحاتهم، ولئن كانت فترة حكم خليفته قصيرة إلا أنه كان

النواة الأولى لعلاقة قوية وحميمة مع المكتب البيضاوي استمرت لمدة ستة عشر

عاماً متتالية.

ولكن لسوء حظه: ظهر على المسرح السياسي مرشح أكثر إيماناً وأقرب لحناً

إلى الأصوليين وهو حاكم ولاية (جورجيا) السابق والمرشح عن (الحزب

الديمقراطي) لانتخابات عام 1976م، فقد حملته سمعته الطيبة ومحافظته الأخلاقية

وتدينه العميق! لكسب تأييد منظمات العمل السياسي الأصولي، ولعل من الأدلة

على ما أقول هو إصداره إعلان من رئاسة الدولة ينفي فيه اتهام اليهود بقتل المسيح

(عليه السلام) [حسب معتقدات النصارى] وتشكيله للجنة رئاسية تتابع موضوع

حرق اليهود في العهد النازي، تلك الأكذوبة التاريخية التي يروجها اليهود

لاستنزاف أموال ومشاعر النصارى في العالم! [3] .

ولعل السبب في تحول المنظمات الأصولية عنه في الانتخابات التالية

سنة 1980م هو صراحته المتناهية التي تثير شكوك الأعداء، فقد بلغ به الهيام بالنصوص والنبوءات الدينية إلى التصريح الرسمي من على منبر الكنيست الإسرائيلي في سنة 1979م بأن (سبعة رؤساء قبله قد آمنوا وجسدوا هذا الإيمان بإقامة علاقات فريدة مع إسرائيل؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي، لأنهما (أي الشعبين) يتقاسمان تراث التوراة) [4] ... وهذا التراث هو الذي أشرت إليه سابقاً من الاعتقاد الجازم بحرفية النص المقدس في العهدين القديم والجديد، وبصدق التوجيهات والنبوءات السياسية التي

يحتويانها! ، فكيف وقد صرح هو شخصيّاً أثناء حملته الانتخابية بأن تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية [5] .

ثم خلفه رئيس هو أشد إيماناً بالكتاب المقدس، فاستبشر الأصوليون به خيراً، وطفقوا يدعمونه ويروجونه لجماهيرهم، وحيث إن فترة حكمه قد امتدت لثمان

سنوات متتالية فيها الكثير من التصريحات والقرارات المؤيدة لتوجهات الأصوليين

ونظراً لحساسية بعضها، أجدني مضطرّاً إلى الاقتصار على شيء منها يكفي

للتدليل على عمق العلاقة بين الرئاسة والأصوليين دون خلل بالمقصود من الدراسة؛ فمنذ اللحظات الأولى لتوليه منصب حاكم ولاية (كاليفورنيا) [*] يعلن بأن اعتماده

على الله هو جزء أساس من حياة الولاية والدولة، وسيظل كذلك طالما بقي هو

الحاكم، وقد قام بالتعريف بالقس (بيلي جراهام) في حفل صلاة الإفطار عقب فوزه

سنة 1972م، موضحاً أن الحل والجواب لجميع مشاكل وتخبط المجتمع هو في

كلمات المسيح (عليه السلام) [6] .

فليس بدعاً إذن أن يضع يده على إنجيل والدته عند مبايعته بالرئاسة ويفتحه

على الآية التي تقول: (لو أن شعبي تواضعوا ودعوني وسألوني وابتعدوا عن

طريق الضلال؛ فسوف أجيبهم وأغفر لهم وأصلح أرضهم) [7] . وبالطبع، فهذه

ليست هي المرة الأولى في حياته التي يخلط فيها بين الدين والدولة في الاحتفالات

العامة؛ إذ إنه في صبيحة إعادة انتخابه حضر حفل صلاة إفطار، وأكد خلال

خطابه بعدم الفصل بين الدين والدولة في الولايات المتحدة [8] ، ولعل الذي دفعه

إلى هذا القول بالإضافة إلى قناعته الشخصية هو التأييد الذي حصل عليه من قِبَل

النخبة الثرية والأصولية في الانتخابات، فقد أشارت محطة (Cرضي الله عنهS) في استبيان

لها إلى أن 78% من الأصوليين البيض ساعدوا المرشح الرئاسي ليحقق خامس

أكبر نسبة للأصوات في التاريخ الأمريكي [9] .

ولقد ملك على الرئيس إيمانه بالنصرانية ومشاعره التي ترجمت ذلك إلى

قرارات سياسية، فنجده يطالب بوجوب تدريس نظرية الإنجيل عن الخليقة في

المدارس الحكومية أسوة بنظرية (دارون) مقحماً بذلك الدين في المناهج الحكومية

العلمانية [10] ، وفيما يتعلق بالجانب العسكري: يعبر الرئيس بمصطلحات إنجيلية

عن الحرب مع الروس؛ إذ يصف الوقت الفاصل بين إطلاق الصواريخ الأمريكية

النووية على الروس والإيذان ببدء معركة (هرمجدون) بحوالي ست دقائق، تلك

الحرب التي يؤمن بها الأصوليون وينتظرون حدوثها ليأتي (أمير السلام) فيقضي

على الكفار ويرفع المؤمنين النصارى [11] .

وتغلبت على الرئيس عاطفته الإيمانية فيخاطب الحضور في مؤتمر المذيعين

الدينيين الوطني سنة 1983م قائلاً: إننا جميعاً كيهود وبروتستانت وكاثوليك

مسؤولون عما يجري لإخواننا المؤمنين المعذبين في العالم، وإنه وللمرة الأولى

قامت إذاعة صوت أمريكا [خاضعة لوزارة الخارجية] ببث صلاة عيد الميلاد من

الكنيسة في واشنطن، وإن الحكومات التي لا تحب سماع أصواتكم لن تضيرنا في

شيء على الرغم من مصادرتها للكنائس وحرقها للأناجيل، لأن النهاية سوف تكون

لمصلحة المؤمنين؛ وذلك لأن أعظم قوى الأرض العسكرية لا تستطيع الوقوف في

وجه (أمير السلام) صاحب القلب الرحيم الذي يشفي همومنا وجراحنا ويزكي

قلوبنا [12] .

ويستغل الرئيس منصبه ليصدر تفسيراً جديداً للدستور فيما يتعلق بالفصل بين

الدين والدولة؛ فيخبر الحضور في مؤتمر العمل السياسي للمحافظين سنة 1983م

بأن المؤسسين لم يتعمدوا إقامة جدار فاصل بين الدين والدولة، والأدلة على ذلك

كثيرة، منها: ذكر الكائن العظيم أربع مرات في إعلان الاستقلال، وشعار الدولة

الذي يثبت الإيمان بالرب، فضلاً عن أن المحكمة العليا والكونجرس يفتتحون

أعمالهم بدعاء أو صلاة [13] ، وتوج هذا التلازم بإعلانه في الشهر نفسه الذي عقد

فيه هذا المؤتمر: السنة الرسمية للإنجيل، وأقره على ذلك الكونجرس [14] .

ولم يقف تشخيصه ودعمه لمطالب الأصوليين عند ذلك، بل إنه في لقائه في

البيت الأبيض بموفَدِي المنظمات الأصولية عبّر عن سعادته برؤيتهم في ذلك المكان

الذي لم يدخلوه منذ أمد بعيد لأسباب معينة، لكنهم، طالما ظل هو ساكن هذا البيت، فإنهم وكل من يساند القيم اليهودية النصرانية سيلقون كل ترحيب؛ لأنهم

يستحقون ذلك [15] ، وهذا الترحيب الحار يفسر لنا دعوة البيت الأبيض في

سنة 1984م لرئيس مؤسسة جبل المعبد بحجة كسب دعمه وتأييده لبرنامج الإدارة الأمريكية الداخلي والخارجي [16] .

ولا يختلف مساعدو الرئيس السابق في توجهاتهم كثيراً، فنجد شخصيات

بارزة مثل (وولتر إنينبزج) ممول حملات الرئيس وصديقه القديم، و (أودين ميس)

المدعي العام في إدارته ورفيق دربه منذ أيام (كاليفورنيا) ، و (جيمس ووت) وزير

الشؤون الداخلية، (وهيرب إلينجورت) المستشار الخاص للرئيس: يعلنون

انتماءهم إلى منظمة المائدة المستديرة التي تأسست عام 1979م لتنظيم اللقاءات بين

القيادات السياسية والأصوليين، ولقد قدم مستشار الرئيس في إحدى هذه اللقاءات

والحفلات الخاصة هدية شخصية من الرئيس، عبارة عن نسخة من التوراة تحمل

توقيعه إلى السيدة (هروماس) إحدى الأصوليات الناشطات [17] ، وفي ظل هذه

الصلة القوية بين الساسة والأصوليين لا يستغرب حضور (أودين ميس) والسفير

الأمريكي لدى منظمة دول أمريكا اللاتينية ومساعد الرئيس الخاص (مارشال برجر)

حفلة صلاة إفطار لمصلحة إسرائيل سنة 1984م [18] .

وعلى الرغم من أن المجتمع الأمريكي عموماً يعتبر التدخل في قضية الدين

شأناً شخصيّاً جدّاً، إلا أن الرئيس لم يهدأ له بال وهو يرى والد زوجته وبعد أن

كبر وأصابه الوسواس بعيداً عن التمسك بتعاليم النصرانية، فكتب له رسالتين

مطولتين يشرح له فيهما الراحة الشاملة التي سوف يشعر بها إذا ما وضع نفسه في

يد الرب [19] ، وهذا يبين مدى حرصه على نشر دعوته وتخليص الناس حسب ما

يعتقده!

وعلى الرغم من انتهاء فترة رئاسته الطويلة، إلا أن الأصوليين قد وجدوا في

نائبه ضالتهم، فدعموه وسوّقوه للناخبين على الرغم من وجود مرشحين من

القساوسة في تلك الحملة الرئاسية، والعجيب أن هذا النائب المغمور لفترة ثمان

سنوات قد فاق رئيسه وسلفه في الاستحواذ على أصوات الأصوليين؛ إذ حصل

على 82% من أصوات الإنجيليين البيض في انتخابات 1988م، وكان قد أجرى

لقاءات قبل وبعد ترشيحه من قِبَل الحزب الجمهوري ليؤكد للإنجيليين ولاءه

لمعتقداتهم، بل واقتبس في خطاب قبوله الترشيح رسميّاً بعضاً من قناعات

الأصوليين [20] ، وكان الحزب قد دعى رابطة الإنجيليين الوطنية للإدلاء برأيها؛

حتى يتسنى تضمينه في إعلان الحزب [21] ، ولقد علق أحد المحللين السياسيين

على انتصار المرشح الجمهوري قائلاً: إن تركيزه على الخطاب الديني هو سر

فوزه على منافسه الديمقراطي الذي لم يتوقع اهتمام الناخبين الكبير به في عصر

التنوير [22] .

أما أحد أقرب مساعدي الرئيس والذي أصاب شهرة عالمية بسبب فضيحة

(إيران جيت) ، فإنه يعلن في مذكراته تَدَيّنَه الشديد ومحافظته وأسرته على درس

الأحد الأسبوعي منذ أن كان في مدينة (نيويورك) قبل أن ينضم إلى مجلس الأمن

القومي [23] ، لذلك: فليس غريباً أن يصطحب إنجيله الخاص معه في جميع

سفراته، بل ويدعو مسؤولين حكوميين إليه كما فعل في صفقته الشهيرة [24] ،

ولعل سر ولعه بالإنجيل هو عمله في طفولته كخادم للقسيس، فكان يتوجب عليه

حفظ الطقوس والترنيمات القدسية (باللاتينية) ، وتعلمها بعد تخرجه من الكلية

الحربية باللغة الإنجليزية [25] .

ليس هذا هو الاستثناء الوحيد في الخليط الديني العلماني في المؤسسة الحاكمة

في أمريكا؛ إذ استطاع الأصوليون التغلغل إلى مناصب كبيرة أخرى كالمحكمة

العليا التي لا تناقَش قراراتها، ولعل في تصريحات بعض قضاتها ما يؤكد التناغم

بينهم وبين مبادئ الأصوليين؛ فعلى سبيل المثال نجد أن القاضية (ساندرا أوكونر)

التي رشحها الرئيس (ريجان) لهذا المنصب تعلن على الملأ: أن أمريكا دولة

نصرانية، على الرغم من كونها تشغل منصباً رسميّاً حساساً يجيز لها إعادة تفسير

الدستور الذي ينفي هذه المزاعم [26] ، ولقد وافقها في ذلك رئيس المحكمة القاضي

(وليام رينكوست) مؤكداً أن الجدار الفاصل بين الدين والدولة هو بمثابة استعارة

(لغوية) نتجت عن سوء الفهم، ويجب طرحها جانباً؛ إذ ليس هناك ما يمنع

دستوريّاً من تأثير الدين على الحكومة [27] .

ويضرب الإيمان بالأصولية النصرانية بجذوره في مبنى الكونجرس حيث

السلطة التشريعية، فهناك سناتور يصرح بأن ولاءه السياسي هو للرب أولاً فالأسرة

فالناخبين، ويدعو المرشحين الآخرين لاقتفاء أثره [28] ، وآخَر يقدم اقتراحاً إلى

الكونجرس في سنة 1983م لجعلها سنة الإنجيل، ولم يتوان المجلس بأغلبيته عن

الموافقة على الاقتراح وتصديق الرئيس عليه كما أشرنا سابقاً [29] ، وفي المقابل:

فإن هناك نواباً لم يستطيعوا كتم مشاعرهم الفياضة نحو معتقدات الأصوليين التي

تمجد الشعب اليهودي؛ فها هو ذا السناتور (روجر جيسون) يعلن بأن سبب الخير

والبركة اللتان تنعم بهما أمريكا هو إكرام اليهود الذين لجؤوا إليها [30] ، ونائب

آخر خلع برقع الحياء أو الحصافة فأرسل إلى المتبرعين المتوقعين لحملته شيكلات

(عملة إسرائيل) ليحضهم على دعمه ومذكرهم بالمصاعب الاقتصادية التي تمر بها

إسرائيل، والتي سوف يساهم هو في حلها عند فوزه في الانتخابات [31] ، فلا

غرو إذن في ظل هذا الانحياز والتعصب الديني أن ينضم أكثر من خمسين نائباً إلى

رابطة الصداقة الإسرائيلية الأمريكية، من أبرزهم المرشحة السابقة لمنصب نائب

الرئيس (جيرالدين فيرارو (والمرشح الرئاسي السابق (جاك كمب) على الرغم من

خلافهما الأيديولوجي؛ فالأولى ديمقراطية، بينما الثاني جمهوري [32] .

بعد هذا العرض الموجز لظاهرة الأصولية النصرانية وأثرها على السياسة

الأمريكية: نستطيع القول بأن الدين يلعب دوراً قويّاً في حياة السياسيين قبل

قراراتهم، وهذا هو سر الدعم الذي تلقاه إسرائيل بغض النظر عن المزايدات

الانتخابية، فالإيمان بعودة المسيح إلى موطنه واقتراب الألف الثانية من نهايتها:

يدفعان الساسة والأصوليين في أحضان بعضهم البعض، ولقد أكد هذه الحقيقة

الدبلوماسي الماكر (كيسنجر) قبل عشرين عاماً وأمام نفر من الزعماء اليهود، حيث

قال: إن الهدف من حاجة إسرائيل إلى أن تكون قوية هو أن تحافظ على بقائها لا

لصد الشيوعية؛ لأن لبقائها أهمية عاطفية بحتة بالنسبة للولايات المتحدة

الأمريكية [33] .

وهذه العاطفة ليست مقصورة على القسس والمتعصبين النصارى، بل تتعدى

إلى النخبة المثقفة التي تبكي على خُبُوّ وهج الدين من الحياة العامة؛ فالصحفي

المشهور (وليام بكلي الثاني) يرفض العلمانية تماماً، ويدعو إلى التمسك بالعقيدة

النصرانية لحفظ كيان الدولة الأمريكية [34] ، أما الصحفي الكبير (جورج ول) فإنه

يهاجم (جان جاك روسو (متهماً إياه بتخريب الثقافة الغربية، وينتقد الرأسمالية

لكونها سبباً مباشراً في تغيير البنية الاجتماعية، وبالتالي: إضعاف الدين والأخلاق، ويتمنى يوم أن تحل الكنائس الإنجيلية مكان ناطحات السحاب في مركز

المدينة [35] .

ويشارك (ول) في موقفه من الرأسمالية صحفي آخر هو (إيرفنق كريستل)

الذي أسس معهد المغامرة الأمريكية، ويتحسر على الفساد الخلقي الذي أصاب

المجتمع، ويعد فقدان الإيمان بأنه أكبر خسارة في القرن الماضي؛ لأن الناس

يحتاجون إلى الدين الذي يحل مشاكلهم اليومية، وأن استمرار الدولة في التأثر

بالنظريات السياسية والاجتماعية (العلمانية) سوف يودي بها إلى الهاوية [36] .

أما (روبرت نزبت) الأستاذ السابق في جامعة كولمبيا: فإنه يختصر مبادئ

اليمين الأصولي في تركيز اهتمامه بالدين في الدرجة الأولى؛ فالكنيسة تعطي

الإنسان الضائع في مغالطات المجتمع المعاصر نوعاً من الأمان والاستمرارية،

ولابد من ربط الحرية والسلطة بالأسرة والكنيسة [37] ، ثم إن الصحفي والمحاضر

بجامعات (هارفرد) ثم (ستانفورد) ف (سيراكيوز) (ميشيل نوفاك) يصف دور

الأنجلوساكسون الأصوليين بالصابون الذي يطهر العالم من الذنب والإثم والشر،

وأن الغربة التي تعاني منها الحرية والديمقراطية والكاثوليكية الرومانية هي بمثابة

كارثة بالنسبة للغرب لأن كلاً منهما يحتاج إلى الآخر [38] .

وأخيراً: فبعد أن وضعت بين يديك أيها القارئ الكريم خلاصة ما توصلت

إليه وما سمحت الظروف به حول هذه القضية المعاصرة، فإني أطرح عليك سؤالاً

جوهريّاً، أرجو أن تكون قد وفقت في العثور على إجابته من خلال ما تقدم،

والسؤال هو: من يتحكم في السياسة الخارجية والمتعلقة بالشرق الأوسط في بلد

الحرية والديمقراطية العلمانية ومعقل الانحلال الخلقي في العالم؟ أتراهم السياسيين

العلمانيين المنتخبين؟ أم الأصوليين الإنجيليين؟ أم إن العاطفة الدينية الكامنة لدى

الفريق الأول تثيرها تحركات وأنشطة الطرف الآخر، فيلتقي الاثنان على موجة

واحدة هي بمثابة نقطة التقاطع بينهما؟ فالمعروف أن الحملات الانتخابية وروادها

لا يتشرف المرء بذكر تاريخهم؛ لما يحتويه من إسفاف وانحطاط أخلاقي لأبعد

الحدود، وإذا سلمنا بثوب النصرانية الفضفاض الذي يسع مثل تلك الانحرافات التي

لا يغفرها غلاة الأصوليين: يصبح المخرج الوحيد لهذه الجاذبية غير المتوقعة هو

كما صرح أحدهم فيما ذكرت بأن الهدف الأسمى للمنظمات الأصولية هو تغيير

الساسة أنفسهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015