افتتاحية العدد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أما بعد..
فمن المظاهر الكبرى لديننا الإسلامي الحنيف: أنه دين إنساني عالمي، تكفل
الله ببقائه وحفظه؛ وجاء رسولنا الخاتم رحمة للبشرية جمعاء [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 107] ، ومن فضل الله (تعالى) على الأمة: أن انتشر
الإسلام في الأرجاء، ودخل الناس فيه أفواجاً.
وحينما بعدت الأمة عن مشكاة هذا الدين لأسباب شتى: تداعت الأمم عليها
كتداعي الأكلة على قصعتها، كما أخبر بذلك الرسول، وعلى الرغم مما عاناه
الإسلام وأهله من عداوات ومحن وشدائد؛ إلا أن ذلك يؤذن دائماً ولله الحمد بمزيد
من العودة إلى الله، والرجوع إليه، والتمسك بأهداب دينه، والدعوة إليه، والموت
في سبيله، هذه الخاصية العجيبة لهذا الدين هي مصدر قوته وكماله ومصداقيته
وصلاحه لكل زمان ومكان، لكونه الرسالة الأخيرة التي ارتضاها الله (جل وعلا)
للأمة الإسلامية بقوله (تعالى) : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] ، وتؤكد السنة الصحيحة على هذا المعنى
في كثير من مبشراتها، ومنها قول النبي: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على
الناس) [1] .
وهذا ما فطن له الصحابي الجليل (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) حينما
قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله) .
وهذا ما يشق على أعداء هذا الدين عبر العصور ويفسر مخططاتهم لمحاربة
الإسلام وأهله، وسعيهم الحثيث لإبعاد الأمة بعامة والشباب منهم بخاصة عن
الالتزام بهذا الدين والعض عليه بالنواجذ.
ولذلك: كانت الصحوة الإسلامية المعاصرة التي تولى رعايتها والدعوة إليها
نخبة من صفوة الأمة وعلمائها هي ما أقض مضاجع الأعداء، وأفسد ما كانوا
يسعون إليه من تضليل الأمة الإسلامية؛ ولقد عجزت الأقلام المشبوهة من أذناب
اليسار وغلاة العلمانيين عن إقناع الأمة وبخاصة شبابها بوسائلهم المعتادة، فلجؤوا
إلى الاستعانة بأدعياء التنوير الهالكين، وأعادوا مطبوعاتهم التي كانت محل النقد
والازدراء والمقت، لسطحيتها وانحرافها عن جادة الصواب، ومع ذلك فما زالوا
مستمرين في سياساتهم المشبوهة تلك، مع العمل وفقاً للخطوات التالية:
1- المطالبة بتنحية الشريعة الإسلامية، بدعوى انتهاء زمانها، وأنهم بحاجة
إلى المجتمع المدني الذي تضيع فيه الهوية الإسلامية.
2- عزل الأمّة عن علمائها الأخيار، ودعاتها الأبرار، والسعي بشتى
الوسائل للتقليل من شأنهم، وتشويه سمعتهم.
3- اصطناع فئات مشبوهة الاتجاه تقوم مقام الغرب وتؤدي رسالته في
تغريب الأمة وإبعادها عن دينها، ليكونوا رموزاً يقتفى أثرهم.
4- التربص بكل توجه إسلامي مخلص، وضربه ومصادرته بدعوى أنه
(إرهاب وتطرف!) .
5- اصطناع سياسات (تجفيف المنابع) التي يشارك فيها ذوو الاتجاهات
العلمانية بمختلف رؤاهم الفكرية، للوقوف معاً ضد الصحوة الإسلامية، والعمل
المتواصل للقضاء عليها بتلك السياسة، التي تعني: قطع الصلة العقدية في المجتمع
الإسلامي بين حاضره وماضيه، للوصول إلى عزل الأمة جمعاء عن دينها الحق
وفهمه الصحيح بمنهاج سلفنا الصالح، والذي يجمع بالفعل بين الأصالة والمعاصرة، وذلك هو العائق الوحيد الذي يعرقل كل سياسات الانهزامية والتبعية.
ولكي تنجح تلك السياسة الخبيثة، اتخذت الخطوات التالية:
أ) مصادرة كل توجه إسلامي صادق في المجتمع، ومحاصرته وإخراجه من
إطار ديمقراطياتهم (المزعومة) بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، بينما المجال
مفتوح لكل اتجاه ساقط، حتى ولو كان شيوعيّاً بائداً.
ب) العمل المتواصل لتغريب المجتمعات المسلمة، بإشاعة الإعلام الفاسد
بشتى صوره المرئية والمسموعة والمقروءة، ومحاولة إبعاد تأثير الدين في نفوس
أبنائه بتلك الوسائل.
ج) تغيير مناهج التربية والتعليم، وقطع صلتها بدين الأمة وتاريخها، بحجة
تطويرها وتحديثها، لتخالف كل مسلمات الأمة، ولتتناسب مع (اتجاهات التطبيع)
مع العدو الصهيوني.
وهناك دراسات علمية موثقة لهذا التوجه رصدت هذه الظاهرة بصورة كاملة،
توضح إلى أي مدى تسير الأمة في طريقها للهاوية، إن لم تتداركها رحمة الله
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] .
ومع كل ذلك، فمما يبشر الأمة ويجعل الدعاة إلى الله (تعالى) على ثقة بفشل
تلك الاتجاهات المشبوهة: أن الله بالغ أمره [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] [الصف: 8، 9] .
إننا نعيد ونؤكد: إن كل المحاولات التغريبية التي تسعى لقطع الأمة من
جذورها، مصيرها إلى الزوال بإذن الله (تعالى) ، وهي إن نجحت في بلد ما من
البلدان، أو في وقت ما من الأوقات، فإنّه نجاح مؤقت، مؤذن بحول الله (تعالى)
وقوته إلى العودة الصادقة إلى دين الإسلام.
إن هذا الدين هو قدر الله ورحمته في هذه الأرض، وظاهرة العودة إلى
المنابع الأصيلة هي إحدى مظاهر السنن الربانية الكريمة التي لا تتبدل ولا تتغير،
وحينما يحال بين الصحوة الإسلامية وهذا السبيل بالوسائل المعيقة لأداء دورها:
ستكون النتائج محزنة جدّاً، كما هو الحال في كثير من البلدان الإسلامية، لكنها
ستؤول بإذن الله إلى نصر مبين لأوليائه.
إنّ القافلة تسير، لا يضرها من خذلها أو خالفها، تحدوها عناية العزيز القدير، واللهَ نسأل أن نكون من روادها والسائرين في ركابها على بصيرة، مع الذين أنعم
الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين، وأن يقر عيوننا بعز الإسلام، وذل
أعدائه.. وما ذلك على الله بعزيز.