مجله البيان (صفحة 2034)

نجيب الكيلاني رائد القصة الإسلامية المعاصرة (1)

دراسات أدبية

نجيب الكيلاني..

رائد القصة الإسلامية المعاصرة

(?)

بقلم: محمد حسن بريغش

مات الدكتور نجيب الكيلاني (رحمه الله) بعد أن ترك تراثاً أدبيّاً ضخماً،

وظل على مدى أكثر من أربعين عاماً يواصل عطاءه الأدبي حتى بلغت قصصه

أكثر من أربعين قصة، وبلغت دراساته النقدية والأدبية والاجتماعية، وأبحاثه

الطبية، ودواوينه الشعرية هذا العدد أيضاً [1] .

لقد عرف الناس (نجيب الكيلاني) أديباً روائيّاً أكثر مما عرفوه طبيباً يتابع

أمراض الناس، ويشترك في البرامج الصحية الوقائية، فضلاً عن المداواة.

وكانت رحلته في عالم الأدب رحلة غنية مثيرة، تستحق من الدارسين والنقاد

وقفات متأنية، ودراسات متنوعة جادة، لتوضح صورة النتاج الأدبي الذي تركه

للأجيال من بعده.

أما رحلته في عالم الأدب الإسلامي، فقد تركت له بصمات واضحة في

الدراسات والإبداع، مما يجعل أي دارس للأدب الإسلامي المعاصر مضطرّاً

للوقوف أمام تراثه الأدبي، ليستخلص من تجربته وآرائه كثيراً من السمات التي

تميز بها الأدب الإسلامي المعاصر.

لقد كان من أوائل الذين كتبوا عن الأدب الإسلامي، وحاولوا وضع القواعد

والسمات المميزة له، إما عن طريق الدراسات الأدبية، أو عن طريق كتابة الشعر

والقصة، ولذا: نرى أن من أوائل كتبه التي نشرها: كتاب (الإسلامية والمذاهب

الأدبية) ، وكتاب (شوقي.. في ركب الخالدين) ، وكتاب (إقبال.. الشاعر الثائر) .

ولذلك: فإن الدراسة الشاملة لأدبه، ولا سيما لقصصه ودواوينه الشعرية

ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أنه منذ البداية كان أديباً مسلماً، يتبنى فكرة، وينتسب

إلى جماعة إسلامية أخذت على عاتقها الدعوة لتحكيم شرع الله (عز وجل) ، بل إنه

دخل السجن وهو لا يزال طالباً في الجامعة.

وما دامت هذه وقائع حياته المبكرة، فلا يمكن أن ننظر إلى جميع إنتاجه إلا

من المنظور الإسلامي، ولا يمكن أن نقبل تبرير أي عمل من أعماله باسم المراحل

والظروف والأجواء [2] . إنه أمر بدهي أن يقع الإنسان في الخطأ حين يجتهد،

كما أنه من المعروف أن العمل الأدبي لا يكتمل دفعة واحدة، وإذا جعلنا مقياسنا في

تقويم إنتاجه: المقياس الإسلامي للأدب؛ فهذا يعني أننا نعترف به أديباً إسلاميّاً منذ

بواكير إنتاجه، وهي ميزة مهمة له، وصفة تزيد من قدْرِهِ مهما كانت الأخطاء التي

وقع فيها.

لقد أشار (الكيلاني) (رحمه الله) إلى مثل هذا عندما نقل حديثاً دار بينه وبين

الأستاذ (محمد عبد الحليم عبد الله) الأديب المعروف، إذ قال له وهو يستلم الجائزة

الأولى في القصة القصيرة:

(أشعر أنك تكتب أحياناً وأنت موثوق اليدين ... انطلق يا رجل)

فأجابه الكيلاني: (إنها ليست قيوداً ... ولكني أحاول أن ألتزم بمبادئى

وقيمي) [3] .

ويزيد الأمر وضوحاً عندما عقّب في إحدى الندوات على الدكتور (رشاد

رشدي) عن موقف الأديب عند كتابة القصة، وضرورة حياديته، فقال الكيلاني

(رحمه الله) : (إن الأديب متحيز.. متحيز لفكرة، لموقف، لمبدأ، وهذا لا يتنافى

مع الموضوعية، إذ إن الأديب مقتنع بادئ ذي بدء بمعتقده وبإيجابيته) [4] .

وفي وقفتنا للتحدث عن الكيلاني في هذه المناسبة: لن أستطيع الإحاطة

بإنتاجه، ولا ببعضه، ولن أستطيع الوفاء بحقه، أو الوقوف على صورة شاملة

لأدبه، لأن ذلك يحتاج إلى جهد واستقراء لإنتاجه كله، وتتبع لكثير من الظواهر

الفنية والموضوعية في أدبه، ولكنني سأكتفي في هذا الموضوع بوقفات عند بعض

المميزات والنقاط التي أضحت في نظري علامات واضحة في مسيرته الأدبية،

وهي ذات فائدة في تناول أدبه بالدراسة الشاملة إن شاء الله (تعالى) [5] .

إن استعراض آثار الكيلاني تشير إلى إنتاج شعري كبير، حيث ترك سبعة

دواوين شعرية هي: (أغاني الغرباء) و (عصر الشهداء) و (كيف ألقاك) و (مدينة

الكبائر) و (مهاجر) و (أغنيات الليل الطويل) و (نحو العلا) ، وهي متفاوته في

ميزاتها الفنية، ولكنها جميعاً تتسم بالأسلوب الواضح العذب، الذي ينبض بالصدق، ويتميز بالعفوية، ويمتلئ بمعاني العزة والقيم الإنسانية الأصيلة، إنها تعبر عن

الصورة الإنسانية الكريمة التي تنفض عنها آثار الزيف والظلم، وتأبى الاستسلام

للقهر والجهل والعبودية، وتنهض لاستجلاء الصورة التي كرم الله بها هذا المخلوق، يقول في إحدى قصائده:

أنا يا زهرتي الفيحاء سارٍٍ ... لى جمر التوجس والعناءِ

أصارع حمأة الأحزان ليثًا ... وأقهر كل أوهام الفناءِ

ولا أعنو لطاغية تولَّى ... يمزق شمل أحلام الهناء

ولم أسكر بمال أو نفوذ ... ولا اعتَكَرَتْ بمأثمهم سمائي

وأسقيت الجهاد رحيق عمري ... على شوق إلى يوم النداءِ

فحب الله في قلبي ربيع ... تألق بالطهارة والصفاءِ

لذات الله قد سجدت جبيني ... فكيف لغيره يرقى انتمائي

أرى في كنفه ألقَ التسامي ... وأسبح في بحار من نقاءِ

أهيم مُحَرَّرًا من كل قيد ... يبارك مقصدي حلو النداءِ

فلا دنيا لتوهن من شموخي ... ولا طمع يزلزل كبريائي [6]

إن اهتمامه بالشعر سبق اهتمامه بالقصة [7] وغيرها، وكانت قراءاته

الشعرية مبكرة، فلقد كان منذ صغره يحلو له أن يكون شاعر الحفل في المناسبات

الشائعة في مصر، ولذلك اهتم بقراءة كثير من الدواوين الشعرية، وحفظ الكثير

من الشعر، وإن كانت هذه القراءات تنصب في أكثرها على دواوين الشعراء

الحديثين، أمثال: البارودي، وعلي الجارم، وشوقي، وحافظ إبراهيم،

وإسماعيل صبري، والبوصيري.. وغيرهم [8] ، ولعل هذه القراءات التي كان

أكثرها من الشعر المعاصر هي التي جعلت شعره يتسم بالسهولة والوضوح

والبساطة، وقلما نجد في شعره صورة معقدة، أو لفظاً بعيداً عن الوضوح

والمألوف، وبالإجمال: فإن ما تركه من شعر يدل على موهبته الشعرية، ويدفع

للوقوف عند هذه الدواوين السبعة.

أما في ميدان القصة التي أخذت فيما بعد جلّ اهتمامه: فلقد ترك لنا تراثاً

ضخماً، ما بين قصة قصيرة جمعها في مجموعات [9] ، وقصة طويلة جاوزت

الأربعين كتاباً، وكانت متنوعة في موضوعاتها وأزمانها، فمنها القصة التاريخية،

ومنها القصة الاجتماعية، ومنها القصة الواقعية السياسية، ومنها القصة التي تُعنى

بقضايا الشعوب الإسلامية.

ولعل الكيلاني قد فتح باباً، وكان يخط طريقاً جديداً في عالم القصة، عندما

كتب عن مشكلات الشعوب الإسلامية بأسلوب قصصي ممتع ومحكم، وطرح

قضايا هذه الشعوب، أو لفت الأنظار إليها، في وقت كانت تهيمن على المجتمع

أفكار الاشتراكية، والشيوعية، والمعسكرات السياسية الممثلة لها، وكانت القضايا

الإسلامية ومشكلات الشعوب الإسلامية غائبة عن مسرح الأحداث [10] ، حينها

كتب هذه القصص التي كان لها وقعها ولا سيما عند الشباب المسلمين: (ليالي

تركستان، وعذراء جاكرتا، وعمالقة الشمال، ثم: الظل الأسود) ، وكان الكاتب

موفقاً عندما اختار موضوعات قصصه بحيث تواكب الخط الممتد من الشمال

الشرقي إلى الجنوب الغربي، ومن الشرق إلى الغرب، فكأنه أراد أن يرمز بهذه

القصص لحاضر العالم الإسلامي ومشكلاته وامتداده، وتعالج قضية الإنسان المسلم

الذي يقف أمام الطغيان ليدافع عن حريته وكرامته ووجوده، ويحمي عقيدته التي

تمثل القيم الإنسانية كلها [11] .

وكانت أهمية هذه القصص تأتي من كونها تمثل مرحلة من مراحل التطور

التاريخي والفني للدكتور الكيلاني، فقبل هذه القصص كان متردداً في كتابة القصة

الإسلامية إلا بصورتها التاريخية: (نور الله) ، (قاتل حمزة) ، ولكنه خرج عن هذا

التردد بصورة من الصور، حين اختار قضايا معاصرة بعيدة عن العالم العربي

(روسيا، إندونيسيا، نيجيريا، الحبشة) فكتب عنها، محققاً هدفين: أولهما:

إسهامه في مجال القصة الإسلامية، وتقديم تجربة جديدة في هذا التوجه، وثانيهما:

عدم إثارة من يهيمن على دفة السياسة والفكر والأدب في بلاده.

وهذا يؤكد بأن الكيلاني كان في بداياته القصصية مَعْنيّاً بترسيخ قدميه،

وتقديم نفسه ككاتب قصة مصري عربي يجيد كتابة الرواية، ويقف مع كتاب القصة

الآخرين: (نجيب محفوظ، وباكثير، والسحار، وعبد الحليم عبد الله، والشرقاوي، ويوسف إدريس.. وغيرهم) .

ولهذا: لم تكن قصصه الأولى تختلف عن قصص غيره إلا في نسبة مشاركة

المرأة والجنس في القصة، أو في طريقة اختيار الموضوع والشخصيات، وتناول

المشكلات، دون أن يتميز عن الآخرين بتصوره، ولكنه ظل مثل غيره يهتم

بقضايا الاستغلال، والظلم، وانعدام تكافؤ الفرص في المجتمع، واختار

موضوعاته من الريف بشكل خاص وألح على مسألة استغلال المُلاك للفلاحين،

وإبراز الفروق الطبقية بين الفلاحين وأصحاب الأراضي، وكذلك تحدث عن

مشكلات الريف الصحية، وما يرافقها من بؤس ومشكلات أخلاقية واجتماعية..

إلخ.

وتحدث عن الفقر وما يرافقه في المجتمع المصري بعامة، وفي الريف بشكل

خاص.

هذه القضايا التي عرضها الكيلاني في رواياته كانت مشتركة بينه وبين جميع

كتاب القصة، وإن كانت طريقته تختلف قليلاً أو كثيراً عن هؤلاء الكتاب، لقد ظل

متمسكاً بتقاليد القصة السائدة آنذاك، ومتردداً في الوقت نفسه في حجم التقيد بهذه

التقاليد في قصصه، ويبدو ذلك واضحاً في قصصه، مثل: (الطريق الطويل،

ليالي السهاد، رأس الشيطان، الربيع العاصف، الذين يحترقون..) [12] .

ومع هذا: فإن المسيرة الطويلة للدكتور الكيلاني في عالم القصة بشكل عام

والقصة الإسلامية بشكل خاص تجعله رائداً للقصة الإسلامية بحق، ولا يؤثر في

هذه الريادة كونه مرّ بمراحل مختلفة، وتأرجح بين الرضوخ لتقاليد القصة الغربية، أو الالتزام بالتصور الإسلامي للقصة: في عرضه للموضوعات، وطريقة تناولها، ورسم شخصياتها، لأنه ظل مستمراً ودؤوباً في طريقه، مدافعاً عن القصة

الإسلامية، مبرراً لتقصيره، أو عدم تقديمه للنموذج الإسلامي: (ولم يكن من

المنطقي أن نثب فجأة إلى منطقة الكمال بين عشية وضحاها، إن الأديب ينمو

ويتدرج ببطء عبر التجارب والأحداث، تنضجه رويداً رويداً، وإلا احترق،

واحترق قلمه) [13] هكذا اعتذر عن عدم التزامه الواضح بالتصور الإسلامي.

وكانت مسيرته هذه وسط عالم يعج بالطغيان السياسي والفكري، وهيمنة

لأصحاب الاتجاهات العلمانية وأحياناً الإلحادية على وسائل الثقافة والإعلام، ولم

يكن بمقدور الكيلاني كما يقول أن ينفذ من خلال ذلك بالصورة التي يتمناها، ولا

سيما أن الكُتّاب حينذاك كانوا يتهيّبون من كلمة (إسلام) ، وكان يسيطر على قافلة

النقد حشد من الشيوعيين، ولم يكن هناك وجود للنقد الإسلامي [14] .

ويمكننا أن نضيف بعض العوامل الأخرى التي منعته من تقديم القصة

الإسلامية آنذاك، مثل عوامل: النشأة، ومؤثرات البيئة، والمجتمع، والثقافة التي

تلقاها في صغره (الحكايات والقصص الشعبية، وقصص ألف ليلة وليلة، وروايات

التاريخ الإسلامي لجورجي زيدان، وكليلة ودمنة، وكتب طه حسين، وتيمور،

والحكيم، والمازني، والعقاد، والرافعي، والزيات، والجارم، والمنفلوطي) [15] .

هذه القراءات تغذي الناشيء بلون محدد من الأدب، وبتصور جديد في الحياة، يبتعد كثيراً أو قليلاً عن التصور الإسلامي، ولكنها لا تكوّن لديه التصور

الصحيح، إنه كان يفتقد التصور الصحيح المنبثق عن المصدرين الأساسيين

للإسلام: كتاب الله وسنة رسوله، ولا يكفي التوجه العاطفي والنفسي والفكري

للشاب نحو الإسلام، ولا تكفي النية الطيبة إن لم يأخذ هذا التوجه مضمونه الحقيقي

من المصادر الأساسية والدراسات الشرعية.

ولعل هذا الأمر يثير لدينا قضية مهمة، تبدو عامة عند كثير من الأدباء

والكتاب المسلمين، الذين يتحدثون عن الأدب الإسلامي، أو القضايا الاجتماعية

والفكرية، أو يمارسون النقد، أو الإبداع، أو (التنظير) .

إن كثيراً من هؤلاء يبدو فقيراً في زاده الشرعي، لأنه يتعامل مع هذا الأمر

من منطلق الاختصاص، ويخضع في ذلك للتقسيم المتعسّف الذي يتبناه الاتجاه

العلماني المهيمن على الفكر والأدب والتربية، حيث حصروا الأمور الشرعية كلها

ضمن عملية التخصص، مثلها مثل دراسة الفن، أو الاقتصاد، أو الرياضة، أو

الفيزياء، بمعنى أنها لا تخص إلا من يود دراستها باختياره من أجل التخصص،

وزادوا إمعاناً في الاستهانة بالعلوم الشرعية عندما أطلقوا عليها مصطلحات جديدة

عامة مثل (التربية الإسلامية) لطمس حقيقة هذه العلوم، ولإخراجها من دائرة العلم

إلى دائرة التهذيب النفسي، والمحاولات التربوية، وبذلك لم يعد هناك مجال للقول

بعلم التفسير، أو الحديث، أو الفقه، أو التجويد، أو ... كلها نوع من التربية،

تقف بإزاء (التربية الفنية) أي: الموسيقى، والرسم، والنحت، والرقص، و ...

و (التربية الرياضية) و (التربية الاجتماعية) .. إلخ.

وكذلك فهذا يعني أن التربية الإسلامية جزئية بسيطة تهم جانباً أو بعض جانب

من الإنسان، فضلاً عن إقصاء هذا المصطلح عن أن يشمل الرؤية الإسلامية لتربية

الإنسان تلك التربية الشاملة.

نعم، إن هذه المشكلة عامة عند كثير من الكتاب والأدباء الإسلاميين، وأعني

بها ضآلة الفهم الشرعي، بل الجهل بفقه الإسلام في الأمور التي يتخصص كل

كاتب فيها، ولذلك نجده يردد الآراء الغربية بعد طلائها بمسحة إسلامية، ومقياسه

في ذلك نظره الفكري، لا دليله الشرعي [16] ، وينتج عن هذا: اتجاهات وآراء

بعيدة عن الإسلام، وفي الوقت نفسه تصبح عالة عليه، وقد تؤدي إلى انحرافات

خطيرة على الأجيال المقبلة.

ولذلك لا نستغرب أن تكون الصورة غير واضحة عند الدكتور الكيلاني وهو

يكتب القصة مادامت ثقافته وقراءته من هذه المنابع التي ذكرناها، ولم يكن بينها

ثقافة شرعية أصيلة تحوطه، وتشكل له سوراً يحمية من الانزلاق إلى مواقع

الشبهات والخطأ.

ولقد كان الكيلاني واضحاً في هذا حين قال: (وبعد أن رسخت قدمي لحدّ ما

على طريق الأدب فكرت في تنفيذ ما تحمست إليه أي الأدب الإسلامي وكتبت عنه، لم يكن الموضوع بالسهولة التي يظنها البعض) [17] .

ولا يعني هذا أن الكيلاني لم يكن في هذه المرحلة في قصصه إلى جانب

الأخلاق ونزعات الخير، والتماس المناسبات لكي يشير إلى صورة من صور

الإسلام في الشخصية أو السلوك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015