مجله البيان (صفحة 2033)

قصة قصيرة

نهاية طريق

بقلم: خالد أبو الفتوح

ما إن انتهى (سالم فرحات) من إنزال آخر راكب حتى انتحى بسيارته جانباً

وانكب يعدد حصيلة ليلة من العمل الشاق.. انفرجت أسارير (سالم) مع بلوغ العد

نهايته واطمئنانه على وفرة دخله الليلة.. (الآن أستطيع إحضار ما تبتغيه سهاد) ..

قالها وهو يمد رجليه أمامه ويلف ذراعه حول مسند الكرسي المجاور له.. وبعد

هنيهة من الشرود.. اعتدل في جلسته، أخرج من جواره زجاجة مشروب.. صب

بعضه واحتساه عسى أن يعينه على مواصلة المسير.

أدار محرك السيارة وواصل السير راضياً ومنتشياً.. بعد قليل، ظهر أمامه

بائع الفاكهة الذي اعتاد المرور عليه..

(أُحضر بعض الفاكهة للأولاد؟)

(ولكن.. قد يؤثر ذلك على طلبات (سهاد) .. لا أريد أن أخسر رضاها)

واصل سيره بسرعة وكأن هناك من يلاحقه أو أن هناك غاية يريد أن يطوي

الأرض طيّاً حتى يدركها.. وبعد أحد المنعطفات ظهر على جانب الطريق ثلاثة

أشخاص يشيرون له..

(زبائن! ! يبدو أنها ليلة سعادة وأنس من أولها لآخرها.. لا بأس من زيادة)

أوقف السيارة عندهم، ومال بجذعه تجاههم..

(إلى أين وجهتكم؟)

(حتى نهاية الطريق ... ) قالوها وهم يهمون بالركوب.

لم يهتم (سالم) بمساومتهم على الأجرة كعادته مع كل زبون؛ فأي شيء

يدفعونه سيكون دخلاً إضافيّاً إلى الحصيلة التي اطمأن على وفرتها، كما أنه لن

يتكلف شيئاً لتوصيلهم إلى (نهاية الطريق) .

(ما اسم صاحبنا، ومن أي البلاد؟) .. قالها أحد الثلاثة بادئاً حديثاً يقطع به

طول الطريق وسكون الليل..

(سالم فرحات.. من الصبراوية.. من تل منيب في الصبراوية.. من عائلة

الع..

(كفى.. هذا هو طلبنا) .. قالها آخر بحدة من خلفه وهو يلصق أداة حادة في

رقبته! ! .

انتصب (سالم) في جلسته.. شخصت عيناه.. بدا وكأنه تمثال من شمع....

(لابد أن هذه هي العصابة التي طالما حذرني منها شريكي (عرفان شهيد) .. كيف لم

ألحظ الياقات الزرقاء التي يرتدونها؟ ! .. يا لغبائي.. يا لنكستي! ! ..) .. لم

يتنبه (سالم) إلا على صوت أحدهم يوجه الحديث إلى زميل له:

(هل أقود السيارة بدلاً منه؟) .

(لا.. لا.. حتى لا نلفت الانتباه إلينا، ولكن وجهه حتى نصل إلى (نهاية

الطريق) ..)

لم يملك (سالم) إلا الاستسلام لتوجيهات الجالس جواره.. وبعد سلوك بعض

الطرق والدروب بدا أمامه مبنى تحيط به الصحراء من كل جانب.. كان عجيباً أن

يكون في هذا المكان مبنى بمثل هذه الفخامة.. لم تخفف هيئة المبنى من إحساس

(سالم) بالوحشة والانقباض الذي كان يزداد كلما دنا من المبنى.

أمام المبنى أوقفوه، نزع أحدهم مفتاح التشغيل من مكانه، بينما نزل آخر

ووقف في مواجهة باب السائق..

(أخرج ما معك يا سالم) .. قالها الثالث من خلفه.

(عَرقي.. قوت أولادي ... لم يكمل (سالم) كلامه.. أَحسّ بالدونية عندما

لكمه أحدهم قائلاً له:

(أي أولاد يا ضائع.. نفّذ يا خسيس!)

أخرج (سالم) حصيلة الليلة من أسفل كرسيه، وأعطاها لهم.

(وبقية ما تخبئه، وكل ما في جيوبك)

استسلم (سالم) تماماً، وبدا على وجهه الإرهاق ممتزجاً بالقهر.. سلّمهم كل ما

طلبوه.

جذبه الواقف بجواره خارج السيارة، وساقه دفعاً نحو المبنى.. أجلَسوه أرضاً، وتحلقوا حوله..

(سالم.. طبعاً لا تنكر علاقتك بسهاد.. ولعلك لا تعرف أنها صديقتنا..)

انعقد لسان (سالم) ، ومن فرط دهشته لم ينبس ببنت شفة.

(تحت أيدينا صور لك معها وتسجيلات بصوتك.. أتحب أن تطلع عليها؟)

(الله أمر بالستر)

(نعم.. ونحن نستر عليك.. إذا وقّعت على هذه الورقة!)

أمسك (سالم) بالورقة.. تفحصها.. تردد قليلاً، ثم قال:

(وهل إذا تنازلت لكم عنها أطلقتم سراحي ولم تفضحوني؟)

(نعم.. وقد نكافئك أيضاً..)

تناول (سالم) القلم منهم، ووقّع وهو يتمتم: (هكذا انغلق الباب الذي كنت

أرتزق منه)

تركوه يمضي.. خرج وهو مطأطئ الرأس مثقل الخطى.. وعندما وصل

إلى السيارة نظر إليها بحسرة، وعاود النظر إلى المبنى ومن به.. ثم مضى وهو

يجر رجليه.. (سالم.. قف مكانك..) .. صوت حاد مصدره المبنى.. تسمّر

(سالم) على إثره..

(ارجع بظهرك إلى الخلف!)

رجع بظهره حتى وصل إلى المبنى.. أدخلوه مرة أخرى.. جردوه من

ثيابه.. بدا وكأنهم يضمرون شيئاً آخر..

في هذه الأثناء لمح (سالم) شبح شخصين خارج المبنى.. تجدد أمله في

النجاة..

(هل يعملان على إنقاذي..؟ !)

ولكن لم يطل أمل (سالم) ، حيث خرج أحد الثلاثة وتهامس مع الشخصين..

ثم دخل..

(أبشر يا (سالم) .. لقد قررنا محاكمتك.. محاكمة عادلة) .. ثم دفعه إلى أحد

الأركان!

وبينما ينهار (سالم) ، قام أحدهم ممثلاً للادعاء، فترافع طالباً الإعدام لهذا

المجرم الوضيع..

ثم قام آخر ودافع عن (سالم) طالباً إطلاق سراحه؛ فقد أدى ما عليه ونفذ ما

طُلب منه.. ثم جاء وقت النطق بالحكم..

وقف (سالم) مشدوهاً يترقب مصيره.. لا يرفع بصره عن وجه الحكَم! ! ..

(نظراً لحاجتنا لجهود (سالم) .. ونظراً لاستجابته وتفهمه.. فقد قررنا أن

يعمل (سالم) على السيارة لحسابنا، مقابل إطعامه وجبتين يوميّاً.. مع النظر في

أمر تزويجه من صديقتنا سهاد) ..

لم يصدق (سالم) ما سمعه.. قفز من مكانه هاتفاً: (يحيا العدل.. يحيا

العدل.. يحيا العدل) .. أخذ يقبلهم ويعانقهم بانفعال.. لم يكترثوا باحتفاله الهستيري، كان واضحاً اشمئزازهم منه..

دفعوا إليه مفاتيح السيارة.. أدارها.. غاب عن أنظارهم.. كان أول ما فعله

أن ذهب إلى بيت (سهاد) .. قضى معها ما تبقى من ليل.. وعند استيقاظه نزل

ليعمل حسب الاتفاق..

ولكن.. كانت مفاجأة..!

لم يجد السيارة! !

قالوا له: (لقد حضر (عرفان شهيد) ومعه أكبر أولادك، وقادوها إلى وجهة

غير معلومة..!)

ثار (سالم) ..

(عملوها.. سرقوها.. سرقوا حق الأسياد.. سرقوا حق الأسياد....)

.. هكذا صاح (سالم فرحات) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015