مقال
بقلم: محمد عبد الأعلى
النقلة من (التراب) ، أو (الطين) ، أو (الماء المهين) ، ... إلى البشر الكريم
ذي العينين واللسان والشفتين مظهر نعمة (الوجود من العدم) التي منّ الله (سبحانه)
على الإنسان بها، وإخراج الإنسان من عالم العجمة إلى عالم البيان: نعمة أخرى
حققت وجوده المعنوي، مثلما تحقق وجوده المادي بالنعمة الأولى، وتآزرت
النعمتان متواكبتين لتكونا ركيزة أهلية الإنسان للتلقي والفهم والبلاغ عن الله
[الرَّحْمَنُ (?) عَلَّمَ القُرْآنَ (?) خَلَقَ الإنسَانَ (?) عَلَّمَهُ البَيَانَ] [الرحمن: 1- 4] .
نورانية المنهج:
والبيان وضوحاً وعمقاً، صفاء وقوة: من سمات التعبير والتفكير التي
تتأصل وتترسخ لدى المتأمل لوصف الكتاب والرسول والمنهج بالنور، [قَدْ جَاءَكُم
مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ] [المائدة: 15] ، [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ]
[الصف: 8] ، فالنور معنى تتآخى فيه وتنبثق عنه معاني الوضوح، والشمول،
والاستقامة، والدلالة، والبيان، فالنور كاشف لغيره وهو في نفسه لائح واضح،
وأشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة، تحدد المسار، وتهدي من أقرب نقطة،
وكذلك تنتشر فتكشف وتشمل.
والرسول [لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ] وهو مبين، والقرآن [غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ] ، وهو مبين، والمؤمن الذي [هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] استقامة في
الفعل وصدقاً في القول يكتسب النور سمة لإسلاميته [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] [الأنعام: 122] ، أما أولئك الذين سلكوها
عوجاً وأرادوها ضلالة [وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ
قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ] [البقرة: 14] هؤلاء [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ
يُبْصِرُونَ] [البقرة: 17] .
إسلامية النص:
الوضوح حُلة يكتسيها النص إذا قويت صلة صاحبه بمنهج القرآن، واقترب
من هدي النبي، وأحسب أن كل طرائق التعبير وأساليب الكتابة يجب أن تكتسي
الحلة ذاتها، وإلا عرت من صفة النفع الذي أوقف الرسول ضمن ما أوقف المثوبة
عليه (أو علم ينتفع به) .
ولا أعني بالوضوح: أن يكون النص خالياً من العمق، تتحد نتائج قراءته
لجميع من يقرأ، مهما تباينت مداركهم وتفاوتت مستويات فهمهم، فقط أريد أن
أُبرئ العمق من كل صلة تربطه بالغموض والإيغال في الرمزية.
ورد في القرآن الكريم قول الله (تعالى) : [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن
نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ] [البقرة: 266] ، وقد يكون المعنى الظاهر لهذه الآية: إن حدائق
النخيل والأعناب نعمة من الله يمنحها من يشاء من عباده، ولكنه (سبحانه) قد يرسل
عليها الأعاصير بسبب معاصي أصحابها، فتهلك الثمار والأشجار جزاءً للمعاصي.
ولكن ابن عباس (رضي الله عنهما) كانت له قراءة أخرى لتلك الآية، لما
سأل الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) النّاسَ عنها، قال ابن عباس
(رضي الله عنهما) : (ضربت مثلاً بعمل، فقال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس:
لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى
أغرق أعماله) ، قال ابن كثير: (وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية وتبيين
ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً، ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدّل
الحسنات بالسيئات عياذاً بالله من ذلك فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من
الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل منه شيء..
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ضرب الله مثلاً حسناً وكل أمثاله حسن
قال: [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ..] ... وكذلك الكافر: يكون يوم القيامة إذا
رد إلى الله (عز وجل) ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل
بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره
عند فقر ما كان إليه كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره
وضعف ذريته.) [1] .
فهناك عدة مستويات للفهم في تلك الآية يحتملها النص حينما يكون هناك مجال
للاحتمال.
ولكنها محكومة بالنسبة للقرآن بمنهجية وضوابط، ويظل القرآن ثريّاً معطاءً، وفي الوقت ذاته غير ذي غموض [قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]
[الزمر: 28] .
المطبوعة الإسلامية:
المطبوعة الإسلامية مجال من مجالات البيان الإسلامي، وهي وسيلة بلاغ
تنعكس فيها معالم المنهج الإسلامي فكرةً ومنهاجاً مهما تنوعت (الزوايا) وتعددت
(الأبواب) وتباينت (الملفات) ، وهي قناة توصيل أحسبها ذات ثلاث شعب: انتفاع، استمتاع، توعية.
فهي تعرض تأصيلاً لقواعد المنهج الإسلامي في شتى المناحي العقدية والعملية؛ بياناً لمعالم المنهج، وتبصيراً بعور المنهاج الأخرى، كما تضرب المثل من
الواقع تطبيقاً على تلك القواعد، وترشد وتنصح؛ إظهاراً للحق، وقياماً بواجب
البلاغ.. وتلك شعبة الانتفاع.
وهي نافذة المسلم إلى عالمه الإسلامي والعالم الخارجي، يتعرف من خلالها
أحوال المسلمين على رحابة البسيطة: يتعرف واقعه الذي يعيشه، وقضاياه التي
يجب أن ينفعل لها ويساهم في نصرتها، ومعالم مخطط المكر العالمي وخباياه،
وموقفه من أحداث الساعة وما تلده الأيام.. وتلك شعبة التوعية.
وهي لا تنعزل عن بستان الأدب الذي تكون الجولة فيه رحلة ممتعة مع وعاء
الإسلام؛ بحثاً عن معطيات الإعجاز والثراء، وفتحاً لنوافذ التعبير عن الخلجات
والمشاعر الإسلامية، مقارعة لأبواق الباطل وكشفاً لتهافتها، يتفيء فيها المسلم
ظلال الحكمة ويتذوق إسلامية المعاني.. وتلك شعبة الاستمتاع.
وليست المطبوعة الإسلامية صالوناً للفكر (الأرستقراطي) أو الأدب (العاجي) ، إنما هي قناة توصيل وتواصل مع المسلمين، فهي قناة توصل الخطاب من الكاتب
إلى القارئ، فالقارئ هو محور جهدها وغاية مسعاها، ولقد أولى القرآن الكريم
أهمية قصوى لمسألة التواصل والتوصيل، وركز على قضية اللغة باعتبارها ركيزة
لكل خطاب؛ فالمتلقي هو المحل القابل وهو العامل المحدد ليس للأسلوب بل لنوع
اللغة، فلا يعقل أن يخاطب الناس بلغة لا يفهمونها ولا يفقهون فحواها؛ ومن ثم:
كان كل رسول يبعث بلغة قومه لكي تنجلي القضايا وتستبان المحجة [وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] [ابراهيم: 4] .
بيت القصيد:
فلا يستقيم أن يذهب الكاتب على صفحات المطبوعة الإسلامية بالقارئ في
دهاليز الغموض والرمزية، لا يستطيع أن يتقدم خطوة في فهم ما يقرأ، يدعه
حائراً يعتصر الكلمات، مجهداً فكره؛ فلا يقبض سوى الريح، تكوم أمام ناظريه أو
تنثر الألفاظ، تستر فيها المعاني عزيزة إلا في (بطن الشاعر) ، هل وجب على
القارئ أن يرجم بالغيب ليستكنه مرادات لم تُرد أو يتأول للكاتب تأويلات قد لا ترد
له على بال.. ماذا ينفع ذلك القارئ أو يمتعه أو يزيد في وعيه وقد وقف مشدوهاً
أمام العمق السحيق الذي لا يصل نظره إليه، ماذا يفيده؟ ! والهدف أن تجند نفسه،
ويصقل قلبه، ويتسع أفقه (وقد تداعى الأكلة إلى قصعتها) .
وقد يكون للغموض أسباب سياسية أو اجتماعية تدفع الكاتب أن يتخذ الرمز
جُنّة يستتر وراءه للتعبير عن فكرته، وقد يكون هناك أسباب أخرى، ولعل من
أسباب الغموض قصور الرؤية لدى الكاتب، وعجز أدواته الفنية، وقد يكون هناك
سبب نفسي آخر هو: (نزوعه إلى تجارب لا يشاركه فيها عدد كبير من
الناس) [2] .
ولكن الكاتب الإسلامي الذي يتواصل مع أمته لا يمكن أن تأسره تلك النزغات، فهو الدال على الخير، وهو (يقول خيراً أو يصمت) ، فلا يعالج آهات الأمّة
وأساها بمزيد من الآداب المضطربة المبهمة ومزيد من الحيرة والإرباك، إذ إن
الصورة الغامضة قد تورث لدى المتلقي اضطراباً، فلا يتبنى موقفاً ولا تتحرك له
عاطفة.
وهل أتاكم نبأ القوم: إنهم قد ضاقوا بأهل الغموض ذرعاً: (إنه لحدث
تاريخي جلل أن يترجم الشعر العربي إلى لغات أجنبية، ولكن الخطوة الذكية
المتصفة بالواقعية تقتضي بأن يترجم الشعر العربي إلى اللغة العربية أولاً؛ لأن ما
ينشر على أنه شعر حديث هو مجرد كلمات يعجز ناظمها عن تأويلها) [2] ، (إنه
نوع من التعقيد الناجم عن زيغان الدلالة الناجم بدوره عن زيغان الدال، ناجم عن
افتقاد لحظة التجلي الشعرية التي يصير فيها الغموض وضوحاً) [3] ، (وهناك من
يقول وبنوع من الإجحاف بأن على القارئ أن يكون أحد المشاركين في مخاض
القصيدة وكتابتها كاملة، ولا ندري ما المانع من كتابتها كاملة غير منقوصة ليشاركه
القارئ في مطالعتها وارتياد مغاليقها وتذوقها واستيعابها مثبتاً جدارة موهبته في
إيصال ما في نفسه إليه) [4] ، (إن غياب المقاييس والضوابط في هذه الأيام قد
سهل على الكثيرين اقتراف جريمة الشعر) [5] .
أرأيتم؟ ! تلك مقولات بعض النقاد وهم المشتغلون بالأدب المنشغلون به،
وحتى من خلال منظارهم فليس الغموض اتجاهاً رائداً ولا أسلوباً سديداً ولا ضرورة
عصرية، وإنما هو تقليعة بالغ المقلد في إظهار غرابتها.
ولست أريد أن ينعزل الأديب المسلم عن عصره.. لِيَنْزِلْ ساحة القوم..
لينازِلْهم ويبارزْهم بمصطلحهم، ويناظرْهم بلسانهم، ولكن.. لتكن المطبوعة
الإسلامية ساحته الخضراء التي يتواصل فيها مع قارئه نصيحة من نور المعصوم
تستلهم، وفكرة من ثمر الشجرة الباسقة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
(فالأديب هو واحد من المدعوين للمارسة الخطيرة بفنه القادر على التأثير
والتحصين، بل إنه مدعو إلى أكثر من هذا؛ إلى دعوة المجتمعات الإسلامية
لاستعادة ممارستها الأصيلة وقيمها المفقودة وتكاملها الضائع، وإحساسها المتوحد،
وصبغتها الإيمانية التي أبهتتها رياح التشريق والتغريب) [6] ، وهل يكون ذلك إلا
بأسلوب ودود لا يدغدغ مشاعر القارئ، ويرفع من درجة فوران الدم في عروقه،
فالقضية قضية التزام وهو (التزام مضمون وفكرة، وهو يقتضي بداهةً الحرص
على اللغة العربية والصلة الوثيقة بين المضمون وما يتطلبه من شكل مناسب،
فالتجديد في مجال الأشكال باقٍ ما بقيت الحياة، والالتزام ليس أبداً نقيضاً للحرية
بمعناها الأصيل.. فالالتزام الأمثل انبثاق تلقائي من قلب الأديب وفكره، وهو ليس
تصوراً كلاميّا، أو شعوراً عامّاً، لكنها حقيقة واقعة تقوّم الأحكام والآداب) [7] .
وقلب الكاتب الإسلامي هو القلب الذي تلألأت فيه معالم المنهج الإسلامي،
وتبلورت فيه رغبة هداية البشر، وامتزجت مع أمل إصلاح الأمة والمساهمة في
نصرة دين الله.