دراسات اقتصادية
وقفات متأنية مع
عمليات التمويل في البنوك الإسلامية
د.محمد بن عبد الله الشباني
يتم استخدام بيع المرابحة أو ما يطلق عليه بعض الفقهاء المعاصرين (بيع
المرابحة للآمر بالشراء) على نطاق واسع في تمويل احتياجات الأفراد والمؤسسات
التجارية، فعقد المرابحة يمثل أكثر الوسائل استخداماً في استثمار الأموال المتاحة
لدى البنوك الإسلامية.
لقد أُثيرت شبهات كثيرة حول أسلوب وطريقة استخدام هذا النوع من البيوع
الذي استُخدم من قِبَل البنوك الإسلامية كوسيلة لتوفير التمويل قصير الأجل وطويل
الأجل، وأن ما يتم ما هو إلا حيلة لاستحلال الربا باسم (بيع المرابحة) .
إن أهمية هذا الأسلوب من وسائل التمويل المستخدمة من قبل البنوك
الإسلامية تعود إلى أنه أكثر الأساليب استخداماً من ناحية، وإلى ما يثار حوله من
شبهات، مما يستدعي مناقشته، بقصد بناء أسلوب تمويلي بعيد عن الربا وعن أي
شبهة تؤثر على إسلامية العمليات التمويلية.
لقد سبق أن ناقشتُ عقد المرابحة في كتابي (بنوك تجارية بدون ربا) منذ أكثر
من سبع سنوات، وقد أوضحت في تلك الدراسة بعض التحفظات، واقترحت
بعض التعديلات، ولكن بعد مضي هذه الفترة وبحكم ممارستي في الواقع العملي
واطلاعي على بعض العقود التي تجريها بعض الشركات مع البنوك الإسلامية
تكونت لدي قناعة: أن الأسلوب والطريقة المطبقة لا تختلف من حيث الغاية
والهدف عن الوسائل المتبعة في البنوك الربوية؛ فضمان الربح وتجنب المخاطرة
عنصران أساسان في عملية ما يطلق عليه (بيع المرابحة) ، ولهذا: سوف يتم
مناقشة هذا الموضوع من عدة جوانب تتمثل في فهم بيع المرابحة كما هو معروف
في الفقه الإسلامي، وأسلوب بيع المرابحة المتبع من قبل البنوك الإسلامية،
والشبهات المثارة على هذا الأسلوب المستحدث لبيع المرابحة، ومناقشة وجهات
النظر المختلفة المؤيدة والمانعة لهذا الأسلوب، مع إيضاح البدائل المقترحة كأسلوب
للتمويل يبتعد بذاك الأسلوب من التمويل عن شبهة الربا.
بيع المرابحة لدى الفقهاء الأقدمين:
يعرف ابن قدامة في المغني المرابحة بأنها: (البيع برأس المال وربح
معلوم) [1] أو يصورها بقوله: (رأس مالي فيه، أو: هو عَلَيّ بمئة بعتك بها وربح عشرة) [1] ، وصورة المرابحة عند المالكية كما جاء في الموطأ للإمام مالك: (الأمر المجتمع عليه عندنا في البَزّ [*] يشتريه الرجل ببلد، ثم يقدم به بلداً آخر، فيبيعه مرابحة..) [2] .
وتختلف المذاهب الفقهية فيما بينها في نوعية الشروط: فالمذهب الحنبلي:
يشترط لصحة المرابحة معلومية الربح، وثمن الشراء، وعلى البائع تبيان ثمن
شرائه على حدة، وما أنفقه على البيع على حدة [3] . أما المذهب الشافعي: فهو
يتفق مع المذهب الحنبلي في معلومية الربح والثمن، ولكنه لا يلزم فصل ثمن
الشراء والنفقة التي أنفقها، أما الأحناف: فيجيزون بيع المرابحة بثمن الشراء بربح
بشرطين: الأول: أن يكون المبيع عرضاً، فلا يصح بيع النقدين مرابحة،
والثاني: أن يكون الثمن مثليّاً كالريال والدولار ونحوهما [4] .
مما سبق يتضح أن بيع المرابحة كما ورد في كتب علماء الفقه الأقدمين
يشترط: وجود السلعة، ومعلومية الثمن، وتحديد الربح من قِبَل البائع قَبل البيع،
ويقصد بمعلومية الثمن: معلومية ثمن شراء البائع للسلعة التي يريد المرابحة فيها
من قبل راغب الشراء وما أنفقه البائع عليها، وبالتالي: فإن أي شكل من الأشكال
المستخدمة في بيع المرابحة أو ما يطلق عليه: (بيع المرابحة للآمر بالشراء) هو
عقد مستحدث يجب ألا ينسب إلى بيع المرابحة كما أشار إليه الفقهاء، وإنما يجب
أن يدرس بمعزل عن ذلك وفق الظروف التي استُحدث فيها هذا العقد والغاية التي
قصدت منه.
أسلوب بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية:
تتمثل إجراءات بيع المرابحة كما هو متبع من قبل البنوك الإسلامية في
الخطوات التالية [5] :
1- يتقدم طالب التمويل للبنك الإسلامي مبدياً رغبته في شراء أصل رأسمالي
أو مواد خام أو سلعة رأسمالية أو استهلاكية أو سلع بغرض الاتجار فيها، ويقدم
للبنك فاتورة التسعيرة المرسلة من المصدر أو البائع المحلي الذي يمتلك السلعة وقد
حددت في هذه التسعيرة مواصفات السلعة المراد شراؤها.
2- يتفق البنك الإسلامي مع طالب التمويل بقيام البنك بشرائها لصالحه،
ويتم توقيع وعد بالشراء من قِبَله ووعد من البنك بأنه سيقوم ببيعها له بزيادة معينة
تمثل ربح البنك.
3- يتم توقيع عقد بيع مرابحة بعد وصول مستندات البضاعة للبنك، يحدد
في هذا العقد قيمة البيع بما في ذلك ربح البنك، وهذا على أن يتم دفع الثمن مؤجلاً
على شكل أقساط أو كمبيالات.
بتحليل هذه الصورة من التعامل التي يطلق عليها (بيع المرابحة) أو (بيع
المرابحة للآمر بالشراء) نجدها تتصف بالآتي:
1- الهدف والغاية من هذه المبايعة هو قيام البنك بتوفير المال اللازم لطالب
التمويل، فالبنك لا يتعامل بالسلع المراد بيعها، أي: إن مهمته ليست الاتجار،
واتباع هذا الأسلوب هو محاولة للخروج من المحظور الشرعي.
2- الهدف من الوعد بالشراء والوعد بالبيع: توفير حقيقة الالتزام من كلا
الطرفين (البائع والمشتري) ، وبدون هذا الوعد لا يقوم البنك بالالتزام.
3- طالِب التمويل لم يتقدم للبنك الإسلامي بقصد شراء سلعة موجودة ومملوكة
عند البنك، وإنما قصده: توفير المال لشراء هذه السلعة على أن يتم سداد قيمتها
مؤجلاً، فالتأجيل غاية العقد وليس البيع هو الهدف، وبالتالي: فإن ما يُطلق عليه
(العائد الربحي) لا يخالف في الحقيقة ما يمكن أن يعادل (الفائدة) التي يتم تحصيلها
من القروض والتسهيلات البنكية حسب ما يتم فعله من قبل البنوك الربوية، والعبرة
في العقود بمقاصدها لا بألفاظها.
لقد ثار حول هذا التعامل جدل يتعلق بمدى إسلامية هذه الصورة المستحدثة
من التعامل، وأُثيرت شبهات عدة يمكن حصر بعضها في الأمور التالية:
أولاً: أنها معاملة قُصد منها التحايل على أخذ الربا، وقد جاء الشرع بإبطال
الحيل والتنديد بأصحابها من اليهود ومن حذا حذوهم، وقد استُدل على أن هذا البيع
هو حيلة لاستحلال الربا بما ذكره ابن عبد البر المالكي في (الكافي) [6] من صور
لبيع المرابحة مشابهة للذي تتعامل به البنوك الإسلامية حالياً، يقول: (معناه: أنه
تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة محللة، مثال ذلك: أن
يطلب رجل من آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة وهو يعلم أنها ليست عنده ويقول له:
اشترها من مالكها هذا بعشرة وهي علي باثني عشر إلى أجل كذا، فهذا لا يجوز) ،
لقد كان الرد على هذه الشبهة من المجيزين لهذه الأسلوب من التعاقد: بأن البنك
الإسلامي يقوم بالشراء حقيقة، ولكنه يشتري ليبيع لغيره، كما أن العميل الذي
طلب أن يقوم البنك بالشراء له يريد شراءها حقيقة، وبالتالي: فلا حيلة في الأمر،
كما أن الادعاء بأن هذه العملية تشبه ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت
الصورة فقط قول غير صحيح، فإن تغيير الصورة أحياناً يكون مهمّاً جدّاً، وإن
كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر؛ فالمهر للزوجة وما تعطاه البغيّ يجتمع في
الظاهر في أنه مقابل الاستمتاع، لكن النية مختلفة، ويندرج هذا في المقارنة بين ما
يُدفع مقابل الاستقراض من ربا، وما يُدفع ربحاً مقابل البيع، وأن الفرق بينهما أن
ما يتم في البنوك الإسلامية هو بيع يترتب عليه ضمان البائع (البنك) للسلعة حتى
يتم استلامها من قبل المشتري، فإذا هلك المبيع فهو على ضمان البائع، ويتحمل
تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب، كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل
المحدد لعذر مقبول لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي [7] .
إن حقيقة الشبه تقوم على أساس النية، التي هي مدار الأمر وأصل من
الأصول التي يرجع إليها في التأكد من سلامة القول والفعل، ولا شك أن النية لا
يمكن قياسها ولا يمكن التأكد منها، ولكن الأمر راجع إلى قلب وفؤاد الشخص،
وبهذا: فإن الصورة الظاهرة لهذا العقد يجب ربطها بالنتيجة؛ فالبنك الإسلامي لا
يُتاجر في العروض وإنما يُتاجر في الدراهم، فهو لا يقوم بالشراء لصالحه بقصد
البيع بعد أن يتملك السلع وبدون اتفاق مبدئي، بل إنه لا يلتزم بالشراء إلا بعد التأكد
من وجود العميل الراغب في الشراء وأخذ الضمانات لحفظ حقوقه، كما أن السلعة
لا يتم شراؤها إلا وفق ما يرغبه المشتري من مواصفات، وبالتالي: فإنه لا نية
للتجارة لدى البنك كما يظهر من التعامل، والقاعدة الشرعية المتفق عليها: أن
العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ثانياً: أن هذا الأسلوب من المرابحة لم يقل به أحد من فقهاء الأمة الأقدمين،
بل وُجد من قال بحرمته، واستدل من قال بهذا القول بما روي عن الإمام مالك في
الموطأ تحت باب النهي عن بيعتين في بيعة: (أنه بلغه أن رجلاً قال لرجل: ابتع
لي هذا البعير بنقد حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر،
فكرهه ونهى عنه) [8] .
إن واقع الأمر في البنوك الإسلامية أن العميل هو الذي يبيّن للبنك: السلعة
المطلوبة، ومن توجد لديه، وسعرها، ومواصفاتها، بحيث يقتصر دور البنك على
شرائها وسداد قيمتها لمن توجد عنده، ويبيعها إلى أجل للعميل، وقد ذكر ابن جزي
في (القوانين الفقهية) صورة من صور بيع العينة، وهي: (أن يقول رجل لآخر
اشتر لي سلعة بعشرة وأعطيك خمسة عشر إلى أجل، فهذا ربا محرم) [9] ، لقد رُد
على ذلك من قبل المجيزين لهذا الأسلوب بأنه: ليس من الضروري في المعاملات
المستجدة أن نجد مِنَ الأئمة السابقين مَن قال بحلها، وليس من اللازم رد كل مسألة
إلى صورة من صور المعاملات القديمة لتُخَرّجَ عليها وتأخذ حكمها، بالإضافة إلى
ذلك: فقد أشار المجيزون إلى قول الإمام الشافعي في كتابه (الأم) : (وإذا أرى
الرجلُ الرجلَ السلعة، فقال: اشترِ هذه وأُربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل،
فالشراء جائز، والذي قال أربحك فيها: بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً وإن شاء
تركه) ، لقد اعترض على هذا بأنه: حتى ولو قُبل هذا القول، فإن نص الشافعي
(رحمه الله) خلا من ذكر الأجل، كما أن الإلزام غير جائز في المرابحة، بعكس ما
هو معمول في البنوك الإسلامية من ضرورة توقيع الالتزام.
ثالثاً: ومن الشبهات المثارة: شبهة أنه بيع من بيوع العينة (بيوع العينة
محرمة) ، أما وإنها من بيوع العينة؛ فقد ذكر المالكية في كتبهم هذه الصورة ضمن
بيوع العينة، وعدوها من الصور الممنوعة، وهي أن يقول: اشترِ لي سلعة كذا
بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، وهذا هو جوهر (بيع المرابحة)
الذي تجريه البنوك الإسلامية، يرد المجيزون لهذا البيع بأن: المالكية توسعوا
كثيراً في إدخال صور من البيوع في دائرة الحظر بحجة سد الذرائع، وأن إدخال
هذه الصور من البيوع الممنوعة لم يجئ به كتاب ولا سنة، بل هو عمل اجتهادي
محض، فقد اختلفوا في وجه منع بيوع الآجال، فمنهم من قال: إنها أكثر معاملات
أهل الربا، ومنهم من قال: إنها سد لذرائع الربا، كما أن بيع المرابحة الذي تجريه
البنوك الإسلامية لا يدخل ضمن مفهوم بيع العينة؛ فالجوزجاني يقول: إن العينة
إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والوَرِق؛ فيشتري السلعة ويبيعها
بالعين التي احتاج إليها، وليست به إلى السلعة حاجة، وصورة بيع العينة كما جاء
في (نيل الأوطار) للشوكاني: أن يبيع شيئاً إلى غيره بثمن معين (مئة وعشرين
مثلاً) إلى أجل (سنة مثلاً) ويتسلمه المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل
من ذلك القدر (مئة مثلاً) يدفعه نقداً، فالنتيجة: أنه سلمه مئة ليتسلمها عند الأجل
مئة وعشرين، وعليه: فإن بيع المرابحة الذي تجريه البنوك لا يدخل ضمن صور
بيع العينة؛ لأن طالب السلعة يرغب فيها، فهو يحدد مواصفات السلعة، ويحدد
مصادر صنعها أو بيعها، والبنك يشتريها بالفعل ويُساوم عليها، ثم يبيعها للعميل
الذي طلب الشراء ووعد به، كما يفعل أي تاجر، فإن التاجر يشتري ليبيع لغيره
وقد يشتري سلعاً معينة بناء على طلب بعض عملائه [10] .
رابعاً: أن أسلوب هذا التمويل بواسطة بيع المرابحة يدخل تحت النهي عن
بيعتين في بيعة أو حقيقتين في حقيقة، وقد ورد الحديث الذي رواه أبو داود في
سننه عن أبي هريرة مرفوعاً (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) [11]
ويقول المجيزون لبيع المرابحة: إن تفسير هذا الحديث لا يماثل واقع بيع المرابحة
الذي تجريه البنوك الإسلامية؛ فقد ذكر ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود) تعليقاً
على هذا الحديث: أن للعلماء في تفسيره قولين: أحدهما: أن يقول بعتك بعشرة
نقداً أو عشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك، ففسره في حديث ابن
مسعود قال: (نهى رسول الله عن صفقتين في صفقة واحدة ... ، قال سماك:
الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساءٍ بكذا وكذا، وبنقد بكذا وكذا.) [12] والتفسير
الثاني: أن يقول: أبيعكها بمئة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالاً، وهذا
معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: (فله أوكسهما أو
الربا) ..) وعلى ضوء هذا: فإنه لا يوجد ثمنان معروضان (نقداً بكذا ونسيئة بكذا) في بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، وإنما هو بثمن واحد محدد معلوم، وبالتالي: فإنها مواعدة على بيعة حقيقية واحدة، ثم عقد بيع واحد بعد امتلاك البنك للسلعة [13] .
خامساً: من الأمور المثارة من المعترضين على هذا الأسلوب من التمويل:
أنه يدخل في بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عند البائع، وهو ما يسمى أيضاً بيع
المعدوم، وهو بيع منهي عنه، والبنك الإسلامي يبيع العميل ما لا يملكه، فالسلع
التي يُطلب منه شراؤها من الداخل أو استيرادها من الخارج لم تدخل في حوزته
بملك حقيقي، فهو لا يشتري السلعة إلا إذا ضمن المشتري وتواعد معه. يرد
المجيزون لهذا الأسلوب على هذه الشبهة بأن: معنى ما وردت به السنة من النهي
عن بيع ما ليس عندك هو كما ذكر الخطابي في (معالم السنن) أنه يراد به: بيع
العَيْنِ دون بيع الصفة، وبيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك، لأنه بيع
ما ليس عنده ولا في ملكه؛ وهو غرر، كما أشاروا إلى ما ذكره ابن تيمية تفسيراً
لهذا الحديث في الفتاوى بأنه: يراد به بيع عين معينة، فيكون قد باع مال الغير
قبل أن يشتريه، وفيه نظر، وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان
في الذّمة، وهذا أشبه فيمن يكون ضمن له شيئاً لا يدري هل سيحصل أو لا يحصل. وأن ما يُعمل به من قِبَل البنك الإسلامي هو أن ما يتم قبل إجراء عقد البيع إنما
هو مواعدة بينهما وليس بيعاً وشراء، وإنما يتم البيع وفق الصيغة المتبعة من قبل
البنك الإسلامي إذا تم تملك السلعة بالفعل، أي ورود مستندات الشحن ووصول
البضاعة إلى الميناء.
على ضوء ما سبق من مناقشة لأسلوب المرابحة أو المرابحة للآمر بالشراء
كما يتم اتباعه من قِبَل البنوك الإسلامية وما طُرح حول هذا الأسلوب من شبهات
تمت مناقشتها، فإن ما يظهر من حقيقة هذا الأسلوب هو: أنه أسلوب أقرب للربا
منه للبيع، وحتى يتضح الأمر عن مدى قُرب وبُعد هذا الأسلوب المتبع من الربا
لابد من معرفة طبيعة الربا والاختلاف بينه وبين الربح الناتج عن البيع.
إن المعنى اللغوي المجرد للفظ الربا هو: الزيادة في ذات الشيء سواء أكانت
هذه الزيادة حسية أم معنوية، وسواء أكانت من جنس الشيء نفسه أم خارجة عنه،
وسواء أكانت في متحدي الجنس أم غير متحدي الجنس [14] ، أما المعنى
الاصطلاحي: فقد قيدها في الزيادة في أشياء مخصوصة [15] ، ويقصد بهذه
الزيادة المخصوصة أنها: زيادة أحد البديلين المتجانسين من غير أن يُقابل هذه
الزيادة عوض، أما إذا قيل: إن الربا يطلق في الشرع على المبادلات والبيوع
المنهي عنها؛ فيعود ذلك إلى أن كل بيع محرم يشتمل على زيادة غير مشروعة،
سواء أكان أحد العوضين ليس مالاً مباحاً مثل الخمر، أو أن الزيادة لأجل الجنس،
فيكون بذل العوض فيه في غير مقابلة، أو أنه غير متكافئ لأن فرق الزيادة في
غير مقابلة عوض مشروع، وعلى ضوء هذا: فما هو الفرق بين البيع والربا؟ .
الفرق بين البيع والربا يمكن إجماله في الأمور التالية [16] :
1- يقتضى البيع من التاجر جهداً سواء أكان جسميّاً أو فكريّاً، فيحصل على
الربح الذي يقابل ذلك، فهو يشتري السلعة إما من السوق المحلية أو يستوردها من
أماكن أخرى، ويقوم بشحنها ونقلها وتجزئتها والإعلان عنها وترويجها، وهذه
أعمال يستفيد منها أفراد آخرون سواء من يستهلك السلعة أو من يناولها لتصل ليد
المستهلك، أما المرابي: فهو لا يمارس عملاً من هذه الأعمال، وإنما يستفيد هو
وحده من توفر هذه الأموال لديه وحاجة الناس إليها.
2- التاجر يخضع للربح والخسارة، وهذا مبدأ مهم في التجارة، فإن السلعة
لا تكون دائماً مربحة، فقد يخسر التاجر فيها وقد يربح، أما المرابي: فحصوله
على الفوائد دون عمل أو تَعَرّض للخسارة، لأن موضوع تجارته نقد متوفر لديه.
3- أن البيع يتم بين ثمن ومثمن، فكان من المعقول أن يجري فيه الكسب،
أما الربا: فهو مقابل الأجل والإمهال، وهذا ليس عوضاً.
إن فهم الطبيعة الربوية للعمليات التمويلية يقتضي تحديد الإطار الذي يمكن
من خلاله تمييز الأعمال الربوية عن غيرها. يتمثل الإطار الذي على ضوئه معرفة
العمليات التي يدخل فيها الربا والعمليات التي لا تدخل ضمن نطاق الربا المحرم في: أن المكونات الأساسية للعمليات الربوية تتكون من ثلاثة جوانب [17] .
1- الزيادة على رأس المال، أي: الزيادة المضافة على مقدار التمويل
المطلوب الذي يرغب فيه المقترض أو المحتاج للمال.
2- ارتباط نسبة الزيادة بالمدة، أي: إن مقدار الزيادة على مقدار المال
الممنوح لراغب التمويل تتناسب طرديّاً مع فترة السداد، وبالتالي: فالزمن هو
المتحكم في مقدار الزيادة وفي نسبتها.
3- الزيادة في المال عما تم تمويله شرط في أي تعامل يتم بين المتعاملين.
إن وظيفة البنوك الأساسية في المجتمعات المعاصرة بما في ذلك البنوك
الإسلامية تقوم على أساس توفير المال للمقترض، وتخضع هذه البنوك لأحكام
مراقبة البنوك المركزية التي تقوم وظيفتها على أساس التأكد من أن هذه البنوك
تتاجر في النقود اقتراضاً وإقراضاً، وبالتالي: لا يحق لها الخروج عن هذا الإطار، وبحكم أن البنوك الإسلامية تخضع لإشراف البنوك المركزية فهي ملزمة بالبحث
عن وسائل تتفق والطبيعة الإقراضية للبنوك، وعلى ضوء هذه الحقيقة: فللنظر
إلى طبيعة (بيع المرابحة للآمر بالشراء) مقارنةً بالمكونات الأساسية لمفهوم الربا،
نجد أن المرابحة التي تجريها البنوك الإسلامية وكما سبق أن أوضحنا تتكون من
ثلاثة أطراف (بائع، ومشترٍ، وبنك وسيط) ، فالبنك لا يمارس عملية البيع، فهو
وسيط بين البائع والمشتري، والغرض من وجود البنك في العملية: توفير ثمن
السلعة نقداً وقبض قيمتها من المشتري لها الذي لا يجد المال الكافي لذلك على أساس
أن يقوم بالدفع للبنك في زمن لاحق، ويأخذ البنك مقابل هذا التأجيل زيادة في ثمن
السلعة المشتراة تزداد بزيادة الزمن الذي سوف يتم فيه سداد الثمن، ولا شك أن
الزيادة في ثمن السلعة عن الثمن الحال جائز عند جمهور الفقهاء إذا كان التأجيل من
البائع للمشتري للسلعة، أي: إذا كانت العلاقة ثنائية بين بائع ومشترٍ لعوض،
ولكن عند تدخل وسيط مالي (وهو البنك) ، وأَخْذ فرق في السعر، واعتبار ذلك
تجارة وإطلاق لفظ (بيع المرابحة) عليه لا يغير من الحقيقة شيء، فهذا الأسلوب
يشبه الحسم المصرفي الذي تقوم به البنوك الربوية عند دفع قيمة الكمبيالة المسحوبة
لصالح أحد التجار على فرد آخر، فيقوم البنك مقام المسحوب له الكمبيالة، ويأخذ
مقابل ذلك: خصماً على قيمة الكمبيالة محسوبة على أساس الزمن الذي بين تاريخ
الحسم وتاريخ استحقاق الكمبيالة، فالمرابحة التي تجريها البنوك الإسلامية تشبه
حسم الكمبيالات من حيث الغاية والهدف، وإن اختلف الأسلوب؛ فالأسلوب المتبع
من قبل البنوك الربوية من حيث العلاقة الثلاثية هو: أن التمويل في (الحسم) يمنح
إلى البائع، وفي (بيع المرابحة) إلى المشتري، ودور الوسيط (البنك) : توفير
المال لأي طرف من الطرفين.
وعلى ضوء ما سبق: فإن (بيع المرابحة) أو (بيع المرابحة للآمر بالشراء)
كما يتم في البنوك الإسلامية يعتبر من البيوع التي ينبغي تجنبها؛ لما فيها من شبهة
الربا، ولابد من البحث عن أساليب التمويل التي لا لبس فيها ولا شبهة، وبدون
محاولة للبحث عن حيل شرعية لخداع النفس، بل إن من الواجب إعادة النظر في
إجراءات وطرق العمل في البنوك الإسلامية بدون تأثر بالطرق المتبعة في النظام
البنكي الربوي.
والبديل الذي يمكن اقتراحه كوسيلة لتمويل احتياجات الراغبين في التمويل
يرتبط بأمر ضروري يجب وضعه في عين الاعتبار، وهو: ضرورة إعادة هيكلية
تنظيم البنك الإسلامي بحيث لا يخضع لأساليب الرقابة المركزية للنظام البنكي
الربوي، بل يجب إيجاد وسائل وإجراءات ذات استقلالية تعالج العلاقات التنظيمية
بين البنك المركزي وما يمكن أن يمارسه من رقابة على السياسة النقدية وما يمكن
أن يطرحه من وسائل لتنفيذ السياسة المالية التي ترغب الأجهزة المشرفة على
الأنشطة الاقتصادية في المجتمع في تنفيذها.
إن الإطار الذي يجب أن يمارس فيه البنك نشاطه التمويلي يرتكز على
ركيزتين: الأولى: المشاركة، والثانية: المضاربة [18] .
إن عمليات التمويل التي يحتاج إليها النشاط الاقتصادي تتمثل في تمويل
أربعة أنواع، هي:
1- تمويل أصول رأسمالية.
2- تمويل شراء مواد أولية لمصنع.
3- تمويل شراء سلع لغرض الاتجار بها.
4- تمويل مالي للصرف على الأعمال التشغيلية قبل تحقيق الإيراد.
ويمكن اتباع أسلوب المشاركة فيما يتعلق بتمويل الأصول الرأسمالية، بحيث
يكون للبنك نسبة من الأرباح التي يحققها المستفيد من هذا الأصل، أو استخدام
أسلوب التأجير لهذه الأصول تحت ضمان المستأجر لهذا الأصل، بحيث يكون
هناك عائد إيجاري، ولابد في هذه الحالة أن يتم وضع سياسة استثمارية للبنك،
بحيث لا يؤثر تمويل هذا القطاع على نسبة السيولة لدى البنك.
أما بالنسبة لتمويل شراء مواد أولية: فيمكن اتباع أسلوب بيع السّلَم، بحيث
يقوم البنك بشراء جزء من المنتج النهائي بسعر يتفق عليه وفق شروط بيع السلم،
أما بالنسبة لتمويل شراء السلع لغرض الاتجار بها، وكذلك تمويل الاحتياجات
التشغيلية لمختلف الأعمال الخدمية: فيمكن اتباع عقود المضاربة، بحيث يقوم
البنك بتمويل التاجر باعتباره مضارباً أو باعتباره شريكاً في شركة عنان، بشرط
أن يتوفر لدى البنك الجهاز الإداري والمحاسبي والفني لمتابعة نشاطات المضاربات
مع الآخرين، ويمكن قيام بنوك متخصصة لتمويل عمليات المضاربة وفق الأنشطة
الاقتصادية المختلفة.