مجله البيان (صفحة 2026)

دراسات تربوية قرآنية

لا تحسبوه شراً لكم

(?)

بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل

في الحلقة الماضية: أوضح الكاتب أهمية فهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ

شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] ، وبيّن ارتباط هذا الفهم بسنن الله (سبحانه) في التغيير، ثم نوّه بأهمية هذا الموضوع، فكان مما تناوله: علاقة هذه السنة بالعقيدة،

ودورها في علاج اليأس والإحباط، والرضى بقضاء الله ...

وفي هذه الحلقة يوضح الكاتب هذه السنة.

- البيان -

من ثمرات هذه السنة:

إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب، يظهر جليّاً

في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء؛ فكان لزاماً على المسلم، وبخاصة

الداعية المجاهد، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله (تعالى) : [لا

تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] ، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة،

أذكر منها ما يلي:

1- حقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا:

إن الله (عز وجل) لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما

المقصود الأسنى من معرفة أسمائه (عز وجل) وصفاته: أن ندعوه بها، وأن نتعبد

له (سبحانه) بها؛ قال الله (تعالى) : [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]

[الأعراف: 180] إن في كل اسم من أسمائه (سبحانه) عبودية على العبد، يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف.

فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله (عز وجل) بها من خلال معرفة هذه السنة: الحكيم، العليم، البر، الرحيم، الودود، اللطيف.. وغيرها. فعندما يؤمن العبد

المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله (عز وجل) في كل أحكامه الكونية

والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله (عز وجل) ، والرضا

بقضائه، وأنه بر رحيم، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من

لطفه (سبحانه) أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا

من معاني اسمه سبحانه (اللطيف) .

يقول الشيخ السعدي (رحمه الله) : (ومن معاني اللطيف: أنّه الذي يلطف

بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من

حيث لا يحتسب، ويرقّيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال،

حتى إنّه يذيقه المكاره، ليوصله إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة) [1] .

إن اليقين بلطف الله (تعالى) ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله

ونصره، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره، كما أنه ينشيء في القلب

الافتقار إلى الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه، وسؤاله (عز وجل) دائماً حُسْنَ

العاقبة والاختيار.

وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم؛

وذلك بأن نحرص أشد الحرص ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة على

ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين في ربطها

بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر

أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان.

2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال:

وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته

ويتعبده بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات

والمصائب؛ فلا يضعف ولايخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور: هو الذي قدرها عليه، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن

ليرحمه ويرده إليه.. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه، ويرضى بما يختار له مولاه

(سبحانه) ، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة. إن

هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد؛ لقوة الرجاء في الله (عز

وجل) ، واليقين بفرجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله (عز وجل) فيما أعده

للصابرين؛ قال (تعالى) : [إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ

مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] [النساء: 104] .

وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً

لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.

فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في

الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة: فإنه بذلك يقوى صبره،

واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله (عز وجل) ، مع تفقد النفس من الذنوب،

وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.

3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته:

عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله (عز وجل) هو عين الحكمة

والرحمة، والخير، سواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على

القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب،

وتوالت المحن؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي

تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم، نعم سوف لا

يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة، من الشعور بالقلق والاكتئاب

وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه

إلا الله (عز وجل) . وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من

كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.

إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله (عز وجل) باب إلى الهم، والغم،

والحزن، وشتات القلب، وسوء الحال، والظن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله

إلا معرفة الرب (عز وجل) بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والتعبد له (سبحانه)

بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله (عز وجل) ،

وأنه أرحم بعبده من نفسه [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [آل عمران: 66] .

4- سلامة القلب:

عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله (عز وجل) ومعرفته (سبحانه) بأسمائه الحسنى

وصفاته العلا، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل

ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة؛

فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال

(تعالى) في وصف إمام الحنفاء (عليه الصلاة والسلام) : [إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]

[الصافات: 84] وقال (تعالى) حكاية لدعاء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) : [وَلا

تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ

سَلِيمٍ] [الشعراء: 87 89] .

ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي:

أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء:

وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله (عز وجل) ورحمته في كل ما يقضيه من

أقضية كونية وشرعية: يعلم علم اليقين أن لله (عز وجل) الحكمة البالغة في إعطاء

من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء. وهذا العلم لابد

أن يثمر الرضى بما يقدره الله (عز وجل) ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول

الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله (عز وجل)

والتسخط لها.

ب- لسلامة من أمراض الخوف والطمع:

إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما

آتاه الله (عز وجل) ، مطمئناً إلى اختيار الله (سبحانه) له؛ لأنه (عز وجل) أعلم بما

يصلح للعبد من نفسه، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير (داء الطمع

والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها) ؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله

(عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله (سبحانه) ؛ فحري بقلب

هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة،

منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت؛ قال (تعالى) : [مَا

أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ

ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا

يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] [الحديد: 22، 23] ، والعبد المؤمن لا يدري أين يكون

الخير، أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم، وهو علام الغيوب.

كما أنها تثمر أيضاً: الزهد في الدنيا، والحذر منها، فكم فرح بالدنيا أناس

فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم؛ قال (تعالى) : [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا

فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] [الشورى: 27] .

وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن

به، وفوض أموره إليه. إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا

يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه

(عز وجل) ، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير.. معرفة

حقيقية يتعبد لربه بها: فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي

الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً

عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم. ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن

اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظهر

في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري؟ ! فلعل في طيات المحنة

منحة ونعمة.

ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء:

إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما

ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما

عرف ربه (عز وجل) وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله (عز وجل)

سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك: التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق،

وعدم غمطهم وظلمهم، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس،

ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله

(عز وجل) في ابتلائه لعبده بالخير والشر. ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس

لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن

هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس من

هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك

وهو لا يدري أين يكمن الخير أو الشر؟ ! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له

ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة

مفتوحة من الله (عز وجل) عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر! .

5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع:

إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على

تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة؛

حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات.

ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في

حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ

هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] .

أما إذا حصل العكس من ذلك والعياذ بالله وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في

مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله (تعالى) ؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا

تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ

والعبرة بحال من وقعت له المصيبة.

6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير، والسير على هداها:

إن إدراك معاني أسماء الله (عز وجل) وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب

المؤمن منافذ عديدة على سننه (عز وجل) التي لا تتبدل ولا تتحول، وبخاصة

إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه

قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] يطبع في القلب شعوراً

برحمة الله (عز وجل) وخيره وبره، وأن كل ما يقضيه (عز وجل) هو عين الخير

والمصلحة والحكمة، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله

(عز وجل) التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله (عز

وجل) في التغيير: فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية

ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي

تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب

مادية، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر

فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.

كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً: معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن

بها الأمور والأحوال والأشياء، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة؛ لأنها من عند الله

(عز وجل) الحكيم، العليم، الرحيم، الودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون،

والذي له الكمال المطلق، وهو الغني الحميد. وهو (سبحانه) يقول الحق، ويقصّ

على عبيده رحمة منه وفضلاً جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم

وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن

الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.

ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب

العامر بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من

التفصيل، وذلك فيما يلي:

أ- العاقبة للمتقين: إن وعد الله (عز وجل) لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل،

ولقد قال وقوله الحق: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ

المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: 171- 173] هذا وعد

الله (سبحانه) ، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير.

ب- ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها، وهي قوله (تعالى) : [وَلَن

يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] [النساء: 141] يقول ابن القيم (رحمه

الله تعالى) في معنى الآية: (قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم، وقيل: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى،

وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن

الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.

وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها بحمد الله؛ فإن الله

(سبحانه) ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فحيث كانت لهم سبيلٌ

ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما

نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب

تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة

التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم، فدخلوا

منها) [2] .

والحاصل مما سبق: أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله

(عز وجل) وتوحيده؛ فإنه (سبحانه) لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط

الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين

عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله (تعالى) : [لا

تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير

في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار،

وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر

النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعف الإيمان؛ لأنه والحالة هذه يستمر

الفساد بدون إصلاح.

وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله (تعالى) :

ج-[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .

ومثلها قوله (تعالى) : [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ

مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96] .

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً.

د- قوله (تعالى) : [وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا

نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ] [آل عمران: 178] .

هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة

على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن

وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء

بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم

أو قلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب دنياً وأخرى، وكم من أناس صالحين حرموا

في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد، ولكنهم في خير وسعادة دنياً وأخرى. وهذه

المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره، وصدق الله العظيم: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، أذكر منها قوله

(تعالى) : [فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ] [التوبة: 55] .

7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال:

وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ

خَيْرٌ لَّكُمْ] فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله (سبحانه)

إلا في ضوء ما أعلمه الله (عز وجل) عباده من السنن والثواب، فإنه والحالة هذه

لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في

جوانبها، متجرداً في ذلك لله (عز وجل) ، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي

ذكرها الله (سبحانه) في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل: فإنه في الغالب يصدر عن الحق، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا (الحلم)

و (الأناة) اللتان يحبهما الله (عز وجل) .. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل

أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم

فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ

ونكدٌ وندمٌ.

ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة: ما نراه من تعجل

بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم، وتعريض

أنفسهم للابتلاء، وتمنيهم لمواجهة الأعداء ... وينسون أو يغفلون عن قوله: (لا

تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا) [3] . لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه

الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال. وقد يتمنى العبد حالة معينة

ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله (عز وجل) برحمته يحول

بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه (سبحانه) من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛

فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه، فلما أصبحوا تحت وطأته: ضعفوا

وانتكسوا والعياذ بالله فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير

والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته (عز وجل) ورحمته.

مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بالله (عز وجل)

وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه (عز وجل) يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد

أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته، وأنه (سبحانه) هو العليم الحكيم

والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير

والرحمة، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.

وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان: [خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ

آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ] [الأنبياء: 37] فطبيعته العجل والتسرع، إلا مَن منّ الله

عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له، مع فعله للأسباب الممكنة، فإنه يسلم من الأفكار

المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم]

وصدق الرسول: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) [4] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015