دراسات شرعية
أصول الفقة.. والمنطق الأرسطي
بقلم: عثمان محمد إدريس
لم يكن لـ (منطق أرسطو) مجال في (علم أصول الفقه) في العصور المتقدمة؛ فقد ألّف الإمام الشافعي (رحمه الله) كتابه الأصولي الموسوم ب (الرسالة) بلسان
عربي مبين خالٍ من لسان أهل (يونان) ..
والمشهور لدى الباحثين [1] أن أول مؤلّف أصولي امتزجت مسائله ببعض
المباحث المنطقية إنما كان في أواخر القرن الخامس الهجري [2] ! !
وفي هذا المقال: يود الباحث تسليط الضوء على أحد المباحث الأصولية التي
اشتهر استعمال بعض الأقيسة المنطقية فيها، وهو: (ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي) ملتزماً فيه المنهج العلمي في الاستدلال والمناقشة والترجيح، بعيداً عن
التعصب والتقليد المذمومَين..
- البيان -
الحكم الشرعي لأي فرع فقهي إنما يترتب على مقدمتين فأكثر [3] ؛ تشمل
الأولى: الدليل التفصيلي، وتشمل الأخرى: القاعدة الأصولية.
ولما كانت غاية الأصوليين من وضع القواعد الأصولية هي: التوصل إلى
حكم شرعي صحيح؛ فقد بحثوا أيضاً كيفية استعمالها للتوصل إلى ذلك.
ولكنهم أثناء بحثهم لهذه المسألة اختلفوا في جواز استعمال (القياس المنطقي)
والاستفادة منه في ترتيب تلك المقدمات.
الأقيسة المنطقية المتعلقة بكيفية التخريج:
يذكر بعض الأصوليين [4] وهم الذين يرون جواز استعمال القياس المنطقي
في عملية التخريج استعمال نوعين من الأقيسة المنطقية في هذا المجال، هما:
القياس الاقتراني الحملي، والقياس الاستثنائي المتصل.
أ- القياس الاقتراني الحملي:
وهو ما تَكَوّنَ من قضايا حملية فقط [5] ، ومثاله قولهم:
كل جسم مؤلّف
وكل مؤلف مُحدَث
إذن، كل جسم مُحدَث.
قال صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود (رحمه الله) : (.. مثلاً إذا قلنا: الحج
واجب؛ لأنه مأمور الشارع، وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب.
فالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه، هي: القضايا الكليّة التي تقع (كبرى) ل
(صغرى) سهلة الحصول عند الاستدلال على مسائل الفقه بالشكل الأول، كما في
المثال المذكور، وضم القواعد الكلية إلى (الصغرى) السهلة الحصول، ليخرج
المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل، وهو معنى التوصل بها إلى الفقه) [6] .
ويقول الدكتور يعقوب الباحسين: (أما كيفية استنباط الأحكام الشرعية الفرعية: فإن الفقيه المجتهد يأخذ القاعدة الكلية التي توصل إليها علماء الأصول، فيجعلها
مقدّمة كبرى في القياس الحملي، أو ملازمة في القياس الاستثنائي، بعد أن يقدّم لها
بمقدمة صغرى، موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة، ودليل تفصيلي يعرفه
الفقيه بيسر وسهولة، كالأمر بالصلاة في قوله: [وَأََقِيمُوا الصَّلاةَ] ، فيكون بذلك
قياساً منطقيّاً، هذه كيفيته:
المقدمة الصغرى: (الصلاة مأمور بها) في قوله (تعالى) : [وَأََقِيمُوا
الصَّلاةَ] ، وهذا دليل تفصيلي.
المقدمة الكبرى: و (كل مأمور به واجب) ، وهذه قاعدة أصولية، أو دليل
كلي إجمالي.
النتيجة: (الصلاة واجبة) ؛ وهذه النتيجة حاصلة بإسقاط الحد الأوسط
المكرر) [7] .
ب- القياس الاستثنائي المتصل:
وهو الذي تكون مقدمته الكبرى: قضية شرطية متصلة، مركبة من قضيتين
حمليتين قُرِنَ بهما صيغة شرط.
ومقدمته الصغرى: قضية حمليّة، مذكورة في المقدمة الأولى بعينها أو
نقيضها ويُقرن بها حرف الاستثناء (لكن) .
ونتيجته: قضية حملية تنطوي عليها المقدمة الكبرى [8] .
ومثاله: إذا كانت الشمس طالعة فالكواكب خفية،
لكن الشمس طالعة،
إذن: فالكواكب خفية.
واعلم أن القياس الاسثنائي المتصل لا ينتج إنتاجاً صحيحاً مطّرداً إلا إذا كانت
القضية الشرطية المركب منها لزومية [9] .
يقول سعد الدين التفتازاني (رحمه الله) : (وإذا استدللت على مسائل الفقه
بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم، فالملازمات الكلية هي تلك القضايا، كقولنا:
هذا الحكم ثابت؛ لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتاً،
لكن القياس دلّ على ثبوت هذا الحكم، فيكون ثابتاً) [10] .
وإذا طُبق هذا القياس على مثال الأمر بالصلاة، فإنه يقال:
إن كانت الصلاة مأموراً بها، فهي واجبة،
لكن الصلاة مأمور بها،
إذن، فالصلاة واجبة.
كما أنها قد سبقت عبارة الدكتور يعقوب الباحسين في استعمال هذا النوع من
القياس المنطقي [11] .
رابعاً: حكم استعمال الأقيسة المنطقية في كيفية التخريج:
اختلف الأصوليون في حكم استعمال الأقيسة المنطقية (القياس الاقتراني
الحملي، والقياس الاستثنائي المتصل) في عملية ترتيب مقدمات الحكم الشرعي،
على قولين، هما:
القول الأول: جواز استعمال هذين القياسين في عملية ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي.
وممن ذهب إلى هذا القول: أبو حامد الغزالي [12] ، وصدر الشريعة [13] ، وسعد الدين التفتازاني [14] ، والبناني [15] ، والعطار [16] ..
القول الثاني: عدم جواز استعمال هذه الأقيسة في عملية ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي، وإنما يُقتصر على الأساليب العربية فحسب.
وممن ذهب إلى هذا القول: أبو الوليد الباجي [17] ، وابن الصلاح [18] ،
وابن تيمية [19] ، وابن القيم [20] ، والمازري [21] ، والشاطبي [22] .
* الأدلة:
أدلة القول الأول:
1- أن القياس المنطقي ومنه هذان القسمان آلة قانونية، تعصم مراعاتُها
الذهن أن يزل في فكره [23] ، بمثابة علم الحساب والهندسة ونحوه.. مما لا يُعلم
بها صحة الإسلام ولا فساده، ولا ثبوته ولا انتفاؤه.. فلا مانع من استعمالها والحالة
هذه [24] .
2- أن صحة النظم أو الأسلوب العربي في ترتيب مقدمات الحكم الشرعي
المؤدي إلى صحة الحكم الشرعي إنما تكون ممن يُجيد اللغة العربية، أما وقد أصبح
أكثر المتأخرين لا يجيدونها، فالأَوْلى إلزامهم بهذه الأقيسة المنطقية.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بجملة من الأدلة، أهمها:
1- أن استعمال (علم المنطق) بما فيه هذه الأقيسة المنطقية في المباحث
الشرعية، والاشتغال به، بدعة محدثة في الدين؛ وذلك لأنه علم مستحدث في
الأمة الإسلامية، لم يشتغل به السلف الصالح، وإنما ظهر في القرن الثاني الهجري
أثناء حركة الترجمة [25] .
يعبر عن هذا الإمام ابن الصلاح (رحمه الله) بقوله: (وأما المنطق فهو مدخل
الفلسفة، ومدخل الشرّ شرّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا
استباحه أحد من الصحابة، والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين،
وسائر من يُقتدى به من أعلام الأمة وساداتها) [26] .
وقال أيضاً: (وليس بالأحكام الشرعية والحمد لله افتقار إلى المنطق أصلاً،
وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان [27] فقعاقع [28] ، قد أغنى
الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت
الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق، ولا
فلسفة، ولا فلاسفة) [29] .
ولأن الاشتغال بهذا العلم يؤدي بصاحبه إلى الاضطراب في دينه فيجعله
يكذب بالحق أو يعاند.. مما يؤول به إلى الكفر والزندقة [30] بعد ذلك.
2- أن في استعمال الأساليب، والعبارات، والتركيبات العربية.. غُنْيَة عن
استعمال الأقيسة المنطقية الواردة بلسان أهل (يونان) ، بل إن استعمال هذه الأخيرة
مدعاة للاضطراب والخطأ والاختلاف.
وهذه بعض نصوص أهل العلم في هذا المعنى:
أ- يقول الإمام الشافعي (رحمه الله) : (ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم
لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس..) [31] .
ومراده (رحمه الله) ب (لسان العرب) هو: (مصطلح العرب ومذاهبهم في
المحاورة والمخاطبة والاحتجاج والاستدلال) [32] ، وهو اللسان الذي جرت عليه
نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية [33] .
وكأن الإمام الشافعي (رحمه الله) يريد أن يقول: (إن اللسان العربي المبين
متى استقامت به ألسنة الناس، وعرفوا طرق دلالة الألفاظ على معانيها، وأدركوا
أسرار اللغة العربية، فإن هذا كله يغني عن دراسة المنطق) [34] .
ب- يقول الإمام ابن قتيبة (رحمه الله) : (ولو أن مؤلف (حد المنطق) [35]
بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو، لعد
نفسه من البكم، أو يسمع كلام رسول الله وصحابته (رضي الله عنهم) لأيقن أن
للعرب الحكمة وفصل الخطاب..) [36] .
ج- ويقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : (المسألة السادسة: فنقول: لَمّا انبنى
الدليل على مقدمتين: إحداهما تحقق المناط، والأخرى تحكم عليه ... )
(واعلم أن المراد بالمقدمتين ههنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق
الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التناقض والعكس وغير ذلك، وإن جرى
الأمرعلى وفقها في الحقيقة، فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح؛ لأن المراد
تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في
الشريعة، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير: ما كان بديهياً في الإنتاج، أو ما أشبهه
من اقتراني أو استثنائي، إلا أن المتحري فيه إجراؤه على عادة العرب في
مخاطباتها، ومعهود كلامها؛ إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما
يكون..) [37] .
3- أنه قد تبين بالنظر في القياس المنطقي فساده، وبالتالي: فساد ما يترتب
عليه. كما تبين بالاستقراء والتتبع: عدم تحصيل أي فائدة منه؛ وذلك لعدم التفات
أهل العلوم والصناعات إليه، سواء من المسلمين أو غيرهم، بل من أهله أحياناً.
وسيأتي تفصيل هذا الدليل في الرد على الدليل الأول للقائلين بالجواز [38] .
* مناقشة الأدلة:
أ- مناقشة أدلة القول الأول:
1- مناقشة الدليل الأول:
لا يسلم أصحاب القول الثاني (وهم القائلون بعدم الجواز) بكون المنطق آلة
قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره.
وكلامهم في الرد على هذه الدعوى منصب على جهتين، هما: جهة كون
المنطق بما فيه القياس المنطقي فاسداً في نفسه. والجهة الثانية: على التسليم
بصحته أو بصحة بعض الأقيسة المنطقية، فإنه لا فائدة منه، وإليك بيان هاتين
الجهتين:
الجهة الأولى: كون القياس المنطقي فاسداً في نفسه:
أظهر جملة من العلماء المسلمين ومن غير المسلمين في القديم والحديث فساد
القياس المنطقي، بعد ما نظروا فيه نظرة علمية فاحصة.
وإليك نصوص بعض علماء الإسلام في فساد القياس المنطقي:
أ- قال ابن قتيبة (رحمه الله) لمن يحاول الانتفاع بهذه المصطلحات المنطقية:
(فإذا ما حاول الانتفاع بها؛ وذلك باستعمالها في كلامه، لم تكن إلا وبالاً على لفظه، وقيداً للسانه، وعيّاً في المحافل، وعقلة عند المتناظرين) [39] . ...
ب- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (والكلام في المنطق إنما وقع
لمّا زعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، فاحتجنا أن
ننظر في هذه الآلة، هل هي كما قالوا، أو ليس الأمر كذلك؟) [40] .
ومن كلامه في إبطال هذه الدعوى:
قوله: (الواقع قديماً وحديثاً أنك لا تجد من يُلزم نفسه أن ينظر في علومه به
إلا وهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علم وبيانه) [41] .
وقوله أيضاً: (الذي وجدناه بالاستقراء: أن الخائضين في العلوم من أهل هذه
الصناعة أكثر الناس شكّاً واضطراباً، وأقلهم علماً وتحقيقاً، وأبعدهم عن تحقيق
علم موزون. وإن كان فيهم من قد يحقق شيئاً من العلم: فذلك لصحة المادة والأدلة
التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق) [42] .
بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) أن من أهل المنطق الحُذّاق منهم
خاصة من لا يلتزمونه في كلّ علومهم، فقال: (.. ونفس الحُذّاق منهم لا يلتزمون
قوانينه في كلّ علومهم، بل يعرضون عنها؛ إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما
لفسادها، وإما لعدم تميّزها، وما فيها من الإجمال والاشتباه) [43] .
كما استشهد (رحمه الله) في هذا المقام برجوع الكثيرين ممن اشتغلوا به،
وقضوا أغلب أعمارهم في اعتماده، بل ممن أوجبوا تعلمه وحكموا على من يجهله
بعدم الوثوق في علمه عن استعماله والاشتغال به، بعد أن اعترفوا بفساده، وما
يؤدي إليه من الخطأ والضلال.. فقال (رحمه الله) عن أبي حامد الغزالي (رحمه
الله) : (وبيّن في آخر كتبه أن طريقهم [44] فاسدة لا توصل إلى يقين، وذمّها أكثر
مما ذم طريقة المتكلمين.. فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم، ويُبين أن طريقهم
متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين،
ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم) [45] .
كما نقل (رحمه الله) عن الفخر الرازي (رحمه الله) قوله: (لقد تأملت الطرق
الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت
أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) [46] .
ج- وقال ابن القيم (رحمه الله) : (وأما المنطق: فلو كان علماً صحيحاً؛ كان
غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطله أضعاف حقّه! وفساده،
وتناقض أصوله، واختلاف مبانيه: توجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في فكره! ولا
يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل
الصريح) [47] .
وقال في موضع آخر: (وأخبر بعض من كان قد قرأه، وعني به، أنه لم
يزل متعجباً في فساد أصوله وقواعده ومباينته لصريح المعقول، وتضمنها لدعاوٍ
محضة غير مدلولٍ عليها! وتفريقه بين متساويين، وجمعه بين مختلفين؛ فيحكم
على الشيء بحكم، وعلى نظيره بضدّ ذلك الحكم! أو يحكم على الشيء بحكم، ثم
يحكم على مضاده أو مناقضه به) [48] .
وقوله أيضاً: (وقد زعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن
العروض ميزان الشعر. وقد بيّن نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتعويجه
للعقول، وتخبيطه للأذهان، وصنّفوا في رده وتهافته كثيراً..) [49] .
وقوله (رحمه الله) : (وما دَخَل المنطق على علم إلا أفسده، وغيّر أوضاعه،
وشوش قواعده) [50] .
الجهة الثانية: عدم الفائدة منه:
على التسليم بصحة المنطق بما فيه الأقيسة المنطقية وما يترتب عليه: فإنّ
العلماء ذكروا أنه لا فائدة منه، وأنه يمكن الاستغناء عنه، ومن ذلك قولهم:
أ- قال ابن الصلاح (رحمه الله) : (.. ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض
في بحر الحقائق والدقائق علماؤها؛ حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة) [51] .
ب- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (لا تجد أحداً من أهل الأرض
حقق من العلوم، وصار إماماً فيه مستعيناً بصناعة المنطق؛ لا من العلوم الدينية
ولا غيرها.
فالأطباء والحُسّاب والكُتاب ونحوهم يُحققون ما يُحقّقون من علومهم وصناعتهم
بغير صناعة المنطق.
وقد صُنّف في الإسلام علوم النحو، واللغة، والعروض، والفقه، وأصوله،
والكلام.. وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل
عامتهم كانوا قبل أن يُعرّب هذا المنطق اليوناني.
وأما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفاً وإن كان الفقه وأصوله متصلاً بذلك
فهي أجلّ وأعظم من أن يُظن لأهلها التفاتاً إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة
من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وأفضلها القرون الثلاثة من كان
يلتفت إلى المنطق أو يعرّج عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا
يدرك أحد شأوها، كانوا أعمق الناس علماً، وأقلهم تكلّفاً، وأبرهم قلوباً، ولا يوجد
لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين من الفرق أعظم ما بين القَدَم
والمِفْرَق [52] , [53] .
وقال (رحمه الله) : (أما بعد، فإني كنتُ دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا
يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد) [54] ..
وقال أيضاً: (ومعلوم أن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
وأئمة المسلمين، عرفوا ما يجب عليهم، وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يُعرف
منطق اليونان..) [55] .
وقال أيضاً (رحمه الله) : (.. ونفس الحذّاق منهم [56] لا يلتزمون قوانينه
في كلّ علومهم، بل يعرضون عنها؛ إما لطولها، وإما لعدم فائدتها..) [57] .
د- وقال ابن القيم (رحمه الله) : (وهذا الشافعي، وأحمد، وسائر أئمة الإسلام
وتصانيفهم، وسائر أئمة العربية وتصانيفهم، وأئمة التفسير وتصانيفهم، لمن نظر
فيها، هل راعوا فيها حدود المنطق وأوضاعه؟ ولو صح، لهم علمهم بدونه أم لا؟ بل هم كانوا أجلّ قدراً، وأعظم عقولاً من أن يشغلوا أفكارهم بهذيان
المنطقيين) [58] .
2- مناقشة الدليل الثاني:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إنه يُشترط في المستنبِط أن يكون عارفاً بقدر
من اللغة العربية [59] يمكنه من النظر في الأدلة الشرعية، ولا شك أن من توفر
لديه هذا القدر من علوم اللغة العربية فإنه يعتبر مجيداً للغة العربية، وبالتالي: فهو
قادر على استعمال الأساليب والتركيبات اللغوية الصحيحة التي يراها مناسبة
لترتيب مقدمات الحكم الشرعي.
3- مناقشة الدليل الثالث:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إن اعتبار المنطق كالحساب والهندسة
ونحوها مما لا يُعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه، غير مسلّم؛
إذ التحقيق أنه مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوى باطلة كثيرة [60] .