افتتاحية العدد
سقطت البوسنة الشرقية، وسقطت معها مسلّمات كثيرة، وارتفعت على دماء ...
وأشلاء الضحايا وبقايا (سربنتسا) و (جيبا) لافتات ضخمة، يهون أمامها ذعر عيون
الأطفال وأنهار الدموع المتساقطة من العفيفات المغتصبات وأرواح الشهداء الذين
سقطوا وهم يدافعون عن دينهم وعرضهم ومالهم، وظهورهم مكشوفة، وأجسادهم
عارية، يكفي أن هذه الظهور المكشوفة والسواعد المقاتلة حتى آخر طلقة قد كشفت
للجميع حقائق مهمة:
الأولى: أن المهانة والعجز الذي يلف العالم الإسلامي حيال قضاياه قد أصبح
القاعدة التي لا شذوذ عنها، وصدق الشاعر:
كم حرة صرخت من تحت غاصبها ... فجاءها المنقذان العي والصمم
لقد قبلت الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها عيشة الذلّ والهوان،
ورضيت بالدّنيّة، واستسلمت لجلادها وغاصبها، وركعت تحت قدميه، وكأنّها
تستحثه لمزيد من الاستبداد والتسلط.
قطيع يساق إلى حتفه ... ويمضي ويهتف للسائقين
والثانية: أن ترسانة الغرب الوحشية وجيوشه العابرة للقارات تختار ضحاياها
بعناية فائقة، فهي تصل إلى أقصى البراري، وتتغاضى عن الجار البوسني
(المسلم) القاطن بين ظهرانيها.
والثالثة: أن ثورة الاتصالات الإعلامية والفضائية في قمتها اليوم نجحت في
امتصاص المأساة، وتقديمها لجمهور المشاهدين والقراء كمسلسل شيق يثير الانتباه، ينتصر فيه الشر على الخير دوماً.
وأخيراً: أن حرب التخوم والأطراف التي يشنها الغرب على نقاط التماس مع
العالم الإسلامي مرشحة للتصاعد في ظل تآمر الغرب والشرق، وبمباركة من الأمم
المتحدة التي يأبى البابا «بطرس» إلا أن تكون (فاتيكان!) القرن المقبل حين
يخوض قداسته حرب الصليب القادمة! !
«بطرس غالي» لم يسمع حتماً بـ «بشير إيماموفيش» .. فبشير كهل
بوسني، غادر (جيبا) بعد سقوطها في يد الصرب، ونقل للعالم ما قاله الجنرال
الأرثوذكسي «راتكو ملاديتش» لجموع المسلمين فيها ... لقد قال لهم: «لن
يستطيع الله ... ولا الأمم المتحدة أن ينقذوكم ... إنني أنا ربكم! !» [*] تعالى الله
وتقدست أسماؤه.
أيها الـ «بطرس» ... جدك أرادها مذبحة للأحرار من أبناء الكنانة،
وركب خيل المستعمر الإنجليزي ... وأنت تركب خيل الملاحدة الصرب، الذين
رسمت لهم منظمتك ومبعوثوك خط السير نحو (جيبا) التي أحرقوها، كما هو دأب
البرابرة من أبناء الصليب ...
جدك نال جزاءه ... وأنت، وإن هربت من واجهة الأحداث وخفتت عنك
الأضواء التي تعشقها، فإن دعاء المسلمين في كل مكان سيظل يلاحقك حتى تلاقي
ركاب جدك الخائن، فدعوات المظلومين هي الجند الذي لا يغلب، وليس بينها
وبين الله حجاب!
«بشير إيماموفيش» لن يجد من المسلمين سوى الهمهمات والحوقلة الباردة، فإخوانه غارقون في لهوهم وعبثهم وخلافاتهم الصغيرة ومعاركهم المفتعلة يعيدون
كتابة تاريخ الأندلس، ويساهمون في احتلال الفرنجة ل (سربنتسا) بعد (طليطلة)
و (الحمراء) و (قرطبة) و (غرناطة) ...
عالم من بليون مسلم، وخمسين دولة، وجيوش جرارة، وموارد هائلة..
يعتذر بالعجز، ويتدثر بقلة الحيلة وضعف الهمة، حتى تدق الحملة القادمة أبوابه
في ناحية أخرى ونقطة تماس جديدة ... أي خزي وأي مهانة هذه..؟ !
المعلقون الألمان يربطون بين حرب (البوسنة) ومجزرة (الشيشان) وما يتم
طبخه للمسلمين في (تتارستان) ... ويطلقون عليها حرب التخوم؛ حيث عالم غربي
متفوق ومنتشٍ بانتصاره، أمام مسلمين ضعفاء متخاذلين، يصورهم عدوهم على
أنهم الخطر العالمي الأول ...
نعم.. المناطق الآمنة كانت من صنع الدول الغربية وبرعاية الأمم المتحدة،
والدور القادم على «ملاذات آمنة» أخرى في حالة نجاح الخطة الحالية وهي
ناجحة بكل المقاييس وهنا: لن تكون حرب تخوم وأطراف؛ فالتجربة الصليبية
القديمة والصهيونية الحالية تجعلنا نوقن أنها ستكون موجهة إلى العمق ... !
أيها المجاهدون البوسنيون.. أيها الشيوخ والأطفال.. أيتها النساء
المسلمات.. لا تعلقوا قلوبكم بألف مليون غثاء، ولكن توجهوا إلى من بيده ملكوت السموات والأرض، تقربوا إلى الله شبراً يتقرب إليكم ذراعاً، انصروه ينصركم
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .
أيها البليون عاجز ... ومتعاجز ... لقد ظللتم أعواماً عديدة تنتظرون الفرج
من عدوكم والنصر المستجلب من البيت الأبيض، فهلا أفقتم على تصريحات قيادته
التي قالت بالصوت العالي: إنها ستصوت «بالفيتو» ضد مشروع حق الضحية
في قتال الجلاد؛ لأن دماء ومدن وحضارات ومساجد البوسنة الشهيدة لا تساوي
شيئاً أمام احتمال تعكير أجواء التحالف الدولي (الصليبي) !
أيها البليون عاجز.. ومتعاجز.. لقد بحّت أصواتكم، وجفّت أقلامكم، من
الشجب والاستنكار في المحافل الدولية.. أفلم تدركوا بعد أنّ القبعات الزرقاء
(الأممية!) التي تستظلون بظلها، وتحتمون بحماها، هي أحد أسباب المأساة، بعد
أن ثبت للجميع خيانتها وتواطؤها مع إخوانهم الصرب..؟ !
لقد عبر رئيس وزراء البوسنة عن خيبة أمله في الدور الذي لعبته الأمم
المتحدة خلال الأزمة، قائلاً: «إنّ منظمة الأمم المتحدة عار على مجتمعنا
العصري.. لقد سلبت منّا الحق الأساسي في الحياة، وحق الدفاع عن أنفسنا..!» .
وصدق الشاعر بقوله:
أبلغ شهاباً وخير القول أصدقه ... إن الكتائب لا يهزمن بالكتب
عندما يصل العجز إلى هذه الدرجة.. لابد للإيمان الصادق من هبّة تمحو
وصمة العار وبصمات الخذلان التي يصنعها بعض المرجفين بأيديهم.. وصدق
الملك الحق حينما قال: [أَمَّنْ هَذَا الَذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ
الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ] [الملك: 20] .