مجله البيان (صفحة 2010)

هموم ثقافية

كيف نحمي ثوابتنا..؟

عبد العزيز كامل

كان الحديث في لقاء سابق؛ عن ظاهرة باتت شبحاً مهدّداً بالانفصال روابطنا، وبالانفصام عرانا، ألا وهي: التزحزح عن ثوابتنا أو بعض ثوابتنا في قضايانا

المعاصرة الكبرى، حيث لا تكاد تبقى لنا قضية إلا وقد استهدفت بالاختلاف أو

استهلكت بالمزايدة من بعض من يتتبع اختلافات العلماء والدعاة في عالمنا الإسلامي

ليبرز منها عند الطلب ما يوافق غرضه وهواه.

إن هذا يهدد الهدف المنهجي الصادق لكل مسلم مشفق ناصح، ألا وهو:

اتفاق فصائل العاملين للإسلام على حدودٍ دنيا من الأهداف، يتبناها الجميع،

ويسيرون نحو تحقيقها بخطًى ثابتة، وإلا فعلى أي شيء نجتمع في العمل للدين إذا

تميعت عقيدة الولاء والبراء، وتراجعت قضية تحكيم الشريعة في بلاد المسلمين،

وبهتت صورة الكفاح الصادق لنصرة الإسلام، وبردت العواطف تجاه المستضعفين، وخفقت الأصوات عن إحقاق الحق وإبطال الباطل، وأُطفئت في داخلنا جذوة

التحرق لانتصار التوحيد، وخمدت فورة التوثب لعبور الهزيمة والتخلف؟ ! .

من المستفيد إذا قعدنا وقام غيرنا، وكسلنا ونشط سوانا من: أتباع الديانات

الباطلة، والمذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة؟ !

إن الكثيرين من المرجفين والمبطلين قد انطلقوا يبشرون بأفول نجم التدين،

وذهاب بريق الصحوة، وانحسار مَدّ الدعوة، فهل نعيب عليهم أن أقررنا أعينهم

بما يشتهون؟ !

إننا لن نستطيع هذه المرة أن نعلق مسؤولية عدم تحقيق الأهداف على مشجب

ضخامة التحدي ومؤامرات الأعداء، بل الأمر فينا ومنا، وعقباه إلينا وعلينا،

حيث بتنا نفض جموعنا عن قضايانا المحورية، ونصرف وجوهنا عن همومنا

الجادة.

والخطر كل الخطر، أن تتم عمليات الإشغال والانشغال عن هموم الإسلام

باسم الإسلام، ويتم الصرف عن العمل باسم العلم.

ولكل هذا فإن إعمال الفكر، وكد الذهن من أَجْلِ استجماع أسباب حماية

الثوابت يطرح نفسه أمراً مهمّاً، ولن يكون ذلك إلا باستلهام روح النصيحة لله

ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم، واستشعار أهمية تغليب المصالح على

المواقف الخاصة، واستبعاد تعرض ثوابت الدين للمخاطر من أجل الحفاظ على

الخواطر.

ويظهر لنا من خلال تتبع أحوال السلف مع أمانة المحافظة على العلم والدين،

أن هناك أسباباً تُعين مراعاتها على حماية الثوابت، منها:

1- لا مجاملة في الحق:

فالحق قديم، وهو يعلو ولا يُعلى عليه، ومن نوقره من أجل الدين لا ينبغي

أن يرتفع فوق حقائق الدين، ومن الضوابط في ذلك عدم الخلط بين الصلاح

الشخصي والخطأ العلمي، فكل إنسان بل كل إمام يؤخذ منه ويرد إلا صاحب

الحجرة كما قال الإمام مالك والزلة من العالم أمر وارد، وهو قبلها وبعدها: عالم،

وبمقتضى علمه لابد أن يعذر الناس في رد زلاته، وإلا فالأمر كما قال عمر بن

الخطاب (رضي الله عنه) : يفسد الناس ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال منافق

بالقرآن، وزلة العالم [1] ، فالمجادلة في الزلات والأخطاء إفساد للعلم، ومحاباة

على حساب الدين، وقد قال الإمام أحمد: ليس في الدين محاباة [2] .

2- من احترام العالم ألا يُسأل إلا فيما يعلم:

ذلك أنه لا ينبغي في الأصل أن توجه للعالم الأسئلة في غير تخصصه،

خاصة إذا كانت مبتورة أو ملتوية، أو موجهة لتحصيل غرض مبيت، فهذا من

التغرير بالعالم والتوريط له، وهذه هي (الغَلُوطات) التي نهى النبي -صلى الله

عليه وسلم- عنها، في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن معاوية (رضي الله

عنه) أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الغلوطات [*] .

قال الخطابي: الغلوطات: هي شرار المسائل، والمعنى: أنه نهى أن

يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها، ويستسقط

رأيهم فيها [3] ، وإن كان لابد من تلك المسألة، فلتطرح على المجامع العلمية،

التي تقلبها من جميع جوانبها التخصصية، فهذا أدعى إلى الاحتياط للدين، وأسلم

للفتوى.

3- من الاحترام للعلم ألا يُجاب في شيء إلا بعلم:

فمن الآفات التي قل التحفظ منها في زماننا: المبادرة إلى إعطاء الجواب على

سؤال مباغت، دون مراجعة للنصوص والأقوال، وقد كان شأن الصحابة أن

يجمعوا كبار فقهائهم لكبار المسائل، فهذه سنة من سنن الخلفاء الراشدين التي ينبغي

أن نعض عليها بالنواجذ؛ قال عثمان بن عاصم، التابعي الجليل: إن أحدهم ليفتي

في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، فينبغي لمن

يستفتى أن يتحصن ب (لا أدري) حتى يدري؛ قال ابن عباس (رضي الله عنه) :

إذا ترك العالم (لا أدري) أصيبت مَقَاتِلُه [4] .

وقال الإمام مالك: ذل وإهانة للعلم أن تجيب كل من سألك [5] .

4- احترام لا تقديس:

فإذا كان احترام أهل العلم ديناً وتقوى، فحفظ العلم نفسه للعمل هو الدين

والتقوى، فعلماء أهل السنة درجوا على استبعاد وساوس العصمة لغير الأنبياء،

وتناقلوا تلك المقولة النفيسة: اقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتن وقد كان

سعيد بن المسيب (رحمه الله) لا يكاد يفتي فتوى أو يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني [6] ؛ ولهذا ينبغي أن يكون ربط الناس دائماً بمنهاج السلف، لا بنسبة

الأشخاص إليهم.

5- كلما عظم الأثر عظمت المسألة:

ذلك أن القضية، كلما كان لها ارتباط بقطاع أكبر من الأمة: كلما عظمت

المسؤولية في الكلام فيها، أو نقل الكلام فيها.. وفي عصرنا: لا تصلح

الاجتهادات الفردية في القضايا المصيرية، ولا يصح السكوت عن خطأ علمي من

بقية أهل العلم، فهذا أيضاً من مسؤولية العلم، فكما أن كتمان العلم ابتداءً لا يجوز: فإن السكوت عن بيان الخطأ فيه أيضاً لا يجوز، وقد قال النبي -صلى الله عليه

وسلم- في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه: من سُئل عن علم فكتمه: ألجمه

الله بلجام من نار يوم القيامة [7] ، قال الشارح: وكلما كان العلم المسؤول عنه مما

يترتب عليه العمل والمسؤولية، كانت الضرورة أشد لبذل العلم، قال الخطابي:

هذا في العلم الذي تترتب عليه الفروض [8] أما السكوت عن إظهار الحق أو

استظهاره من مفت أو مستفت فإنه هلكة كما وصفه قتادة، وحرام كما قال عنه محمد

بن كعب القرطبي: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على

جهله [9] .

6- الاحتياط عند النظر في القول المتفرد أو الجديد:

وخاصة إذا لمحت فيه آثار الخلط بين مواطن الاجتهاد وموارد النص، أو

تنزيل الأصول منزلة الفروع، أو إيقاع الأحكام على غير الوقائع، ولا ينبغي

للجديد المتفرد من القول أن يأخذنا ببريقه، حتى ننظر من أين أتت تلك الجدة، ومم

استمد ذلك التفرد، ولا نعلم مسألة من القضايا الكبار التي سبقت الإشارة إلى بعضها

إلا ولأهل العلم قديماً وحديثاً كلام فيها، يفرض على من تكلم فيها لاحقاً ألا يهمله أو

يلغيه؛ قال الإمام أحمد (رحمه الله) : من تكلم في شيء ليس له فيه إمام، أخاف

عليه الخطأ، وقال: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا

يفتي [10] .

7- الاحتياط عند تنزيل الأحكام على الوقائع:

فكم من قضية تحشد فيها نصوص وأقوال موضوعة لقضية أخرى، فلهذا:

يبدو عند التمحيص والنظر أن حكمها غير حكمها، لأن واقعها غير واقعها، ولهذا: فإن ابن القيم (رحمه الله) عندما اشترط في المفتي أن يكون فقيهاً بالواقع المحيط

بالمسألة (في كتابه إعلام الموقعين) فإنه لم يكن فقط محتاطاً بهذا للفتوى، بل كان

حامياً ومراعياً لحرمة النصوص أن تستخدم في غير محلها، وفي الصحيح أن عمر

بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين،

فلقد رأيتني (يوم أبي جندل) ، ولو استطعت لرددت على رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- أمره [11] .

8- دقة السؤال وأمانة السائل:

فليست الأمانة مطلوبة فقط من المسؤول، بل من السائل أيضاً، فمن أمانته

أن يحسن صياغة السؤال، ويجرده من الإيهام والإبهام، وقد عد العلماء حسن

السؤال في أول مراتب العلم.

ومن أمانة السائل أيضاً: أن يتحرى أمانة المسؤول وصدقه وأهليته، قيل

لعبد الله بن المبارك: كيف نعرف العالم الصادق؟ قال: الذي يزهد في الدنيا ويقبل

على الآخرة.

9- دقة الجواب وأمانة المسؤول:

فالعالم الأمين لا يجيب على السؤال مجرداً، بل ينظر في القرائن المحيطة

بالسائل، فلعله يستعين بالعلم على البطالة، أو يستخدم الفتوى في ضلالة، أو

يبتغي الرفعة على صنعة الدين، أو يريد تسخيره لهدف دفين.

ولهذا كان ديدن العلماء والمصلحين أن يتأسوا برسول الله -صلى الله عليه

وسلم- في النظر إلى حال السائل قبل إعطائه الجواب، وفي عدم التمكين كمن يريد

أن يختل الدنيا بالدين، قال ابن مسعود (رضي الله عنه) : لو أن أهل العلم صانوا

العلم ووضعوه عند أهله: لسادوا أهل زمانهم، ولكنهم وضعوه عند أهل الدنيا

لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم [12] وقال الإمام أحمد: ليتق الله عبد ولينظر ما

يقول وما يتكلم، فإنه مسؤول [13] .

10- التماس العذر لا يكفي عن أخذ الحذر:

وذلك فيما قد يكون من مؤامرات خارجية في الفتوى، فالعذر من الدين،

ولكن الحذر أيضاً من الدين، فليحذر السائل وليحذر قبل ذلك المسؤول من التفريط

في متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن

تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [النور: 63] ، قال سفيان الثوري: لقد كان

الرجل يستفتى فيفتي وهو يرعد [14] .

وأخيراً نقول:

لا، لإسقاط الرموز:

وقد يسأل سائل، وما علاقة هذا بحماية الثوابت؟ ، والجواب: إن هناك

أشخاصاً اعتباريين، يقفون بمجموعهم خلف ثوابتنا يحمونها ويذودون عنها، وهم

مجموعة العلماء والعاملين والدعاة المخلصين في مختلف بلدان العالم الإسلامي،

أولئك رضيتهم الأمة الواعية والْتفّت حولهم الشعوب المدركة، وحازوا احترامها

فصاروا رموزاً عندها للدعوة والدين، فهؤلاء لا ينبغي أن نسقط كل يوم منهم واحداً

من أعين الناس لصواب تخطاه، أو خطأ تغشاه، فالخطأ من العالم أو الداعية لا

ينبغي أن يصير خطيئة، يستباح من أجلها عرضه، ويُنهش بسببها لحمه، ذلك أن

من تركنا رأيه اليوم في مسألة، سنحتاج إلى رأيه غداً في مسائل، ومن لم يكن

اليوم في قضية موفقاً لعله سيكون غداً في غيرها متفوقاً، فنحن إذا هدمنا هذا الرمز

من مصر اليوم، وذلك الرمز من الشام غداً، وذاك الثالث من اليمن أو غيرها بعد

غدٍ، من يبقى لنا؟ ومن يتحدث في الناس باسمنا ويذود عن ديننا؟

إن ثوابتنا ستظل تتساقط بقاياها كل يوم، مع كل رمز نسقطه، لأن

المصداقية عند عموم الناس وللأسف لا تتجزأ.

حقّاً إنها مهمة صعبة ... أن نحمي ثوابتنا وأن نُبقي في الوقت نفسه على

تماسكنا، ولكنها يسيرة على من اتقى الله وعدل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015