مقال
بقلم: عادل الماجد
كثير من قضايانا تحتاج إلى اجتهاد ببذل الوسع في معرفة المصالح والمفاسد،
ومن ثم نقرر قراراً وننفذ ما قررناه وننتهي.
وبغض النظر عن صواب القرار من خطئه أو التنفيذ نقول: فلان مجتهد!
ونقطع بهذه الكلمة كل حوار حول النتائج، وإن كانت أفسدت مصالح وجلبت مفاسد، فيكفي أنه اجتهد! ! بل نهديه أجراً لا نتيقنه عندما نقول: فلان اجتهد وهو
مأجور! !
فهل هو مأجور أم آثم؟ وهل يحق لأي مسلم أن يبذل وسعاً في أي قضية
ويقرر وينفذ ولو كان غير مؤهل لذلك؟ ! وهل الإخلاص والصدق يخولان للمرء
أن يجتهد في مسائل لا يعلم مناطها أو يعلم المناط ولكن يجهل فقه تحقيقه؟ !
إن بذل الوسع يكون من مجتهد جمع بين فقهين: العلم، والواقعة؛ يقول
صاحب أضواء البيان (رحمه الله) : فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم،
فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا [1] ،
ويقول الشاطبي في الموافقات: الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان.... والثاني:
غير المعتبر، وهو الصادر عن من ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن
حقيقته: أنه رأي بمجرد التشهي، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر
على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله [2] .
فالاجتهاد حق خاص لا يتعدى عليه الآخرون، وهم مأزورون غير مأجورين إذا لم
يكونوا من أهله إلا أن يعفو الله ولا يمكن حمل التقصير على حسن النية وسلامة
المقصد.
وحتى صاحب الحق في الاجتهاد لا يسلم له اجتهاده؛ إذ إنه لا يعدو الظنية
في الحق، وقد يجتهد اجتهاداً لا يقر عليه ولا يعذر في خطئه، فلا يؤخذ رأيه بل
يرد؛ يقول الشاطبي: منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها ولا الأخذ بها تقليداً،
وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة [3] ثم يقول: ومنها:
أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن
اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم
يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهدين [4] ...
وسبب هذه الزلة تقصير من المجتهد في بذل الوسع؛ يقول الشاطبي: فيعرض فيه
الخطأ في الاجتهاد، إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه، وإما
بعدم الاطلاع عليه [الدليل] جملة [5] ويعلق الشيخ عبد الله دراز على ذلك: وقد
يكون هذان من عدم بذل الوسع، ومن التقصير فيما هو واجب على المجتهد.
لذا: كان الوقوف أمام الاجتهاد من أهم أسباب حفظ الحق ودفع الخطأ، وما
أدخلنا في التخبط والعماية إلا اجتهاد خاطئ في غير محله؛ إما أنه صادر ممن
يفتقر إلى العلم، أو ممن يفتقر إلى فقه الواقعة، ومع ذلك يجد منا اتباعاً وتبريراً،
لأن قائله فلان المعروف أو فلان الصادق العابد! !
ومن المعلوم الثابت: أن المجتهد لا ينفرد بالوسائل، بل هو محتاج إلى غيره
من أهل التجارب والصنائع والتخصصات، وإن اجتهد دون التحقق من أهل
الوسائل فهو مقصّر في واجب بذل الوسع ملام غير مشكور؛ يقول الشاطبي: لا
يلزم أن يكون مجتهداً في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة؛ فالدليل عليه أمور: أحدها: أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة مما سوى الصحابة، ونحن
نمثل بالأئمة الأربعة، فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في
انتقاده ومعرفته ثم يقول وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب
الحيض وغير ذلك، ويبني الحكم على ذلك، والحكم لا يستقل دون ذلك
الاجتهاد [6] .
إنه بدون تلك العناية بالتعامل مع الاجتهادات سترتفع مصالح وتجلب مفاسد
باسم الاجتهاد وإرادة وجه الله في العمل! ! وننسى هذا المنهج العظيم الذي مراده
الحق ممن كان ورد الباطل عمن كان، ومن الأمور المشتهرة في السلف ومن بعدهم: تخطئة المجتهد والرد على من تطاول إلى الاجتهاد وهو دونه، فكم وقع في خطأ
مجتهد عظيم مثل الأئمة الأربعة ومن سبقهم وممن بعدهم، ونص على ذلك في كتب
الفتيا والفقه وغيره، من غير اكتراث: مَنْ صاحب الخطأ، فهل نقف تلك الوقفات
أمام الاجتهادات الخاطئة التي أودت بمصالح وأفسدت أكثر مما أصلحت، وهل
نقول: قف! ! لا يحق لك الاجتهاد؟ ولا يشترط أن يكون المخطئ رجلاً خبيث
النية، سيء المقصد، يتربص بنا الدوائر! ! بل قد يصدر من المخلص والصادق
النصوح، ولكنه يقع لأسباب كثيرة، منها:
أولاً: الهوى: وهو الميل عن الحق، وأصعبه: الهوى الخفي الذي يعتقد
صاحبه أنه متجرد من هواه وهو واقع فيه من حيث لا يشعر؛ قال الماوردي:..
وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره، حتى تموه أفعاله على العقل،
فيتصور القبيح حسناً والضرر نافعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون
للنفس ميلاً إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وأما السبب الثاني:
فهو استثقال الفكر في تمييز ما اشتبه وطلب الراحة في اتباع ما يسهل حتى يظن أن
ذلك أوفق أمريه وأحمد حاليه، واغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم فلن
يعدم أن يتوسط بخدع الهوى [7] .
ثانياً: الغفلة: هو اصطلاح للشاطبي في الموافقات يعبر به عن أحد أسباب
خطأ المجتهد [8] ، وهذه الغفلة تحدث للصغير والكبير والبر والفاجر ولا يسلم منها
أحد؛ فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول بعدما سمع أبا بكر (رضي الله
عنه) يتلو [وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] :
فكأني لم أسمع بهذه الآية من قبل. فكم من عالم تقي ورع قال رأياً خالف نصّاً
صحيحاً صريحاً لا يخفى على صغار طلاب العلم بسبب غفلة. وآخر من الدعاة
العاملين اتخذ رأياً أو عمل عملاً جليّاً خطؤه ظاهراً فساده، وذلك لغفلة منه، وهو
وإن كان غير ملومٍ على غفلته، فإنه يلام إن مضى بعد بيان الحق على اعتبار أنه
اجتهاد منه! !
ثالثاً: التقصير: ومن التقصير: الكسل عن بذل الوسع في الحكم، فيكسل
عن تقصي المسألة أو التثبت من الواقعة أو الدليل، وقد يعجل فيقصر به الوسع؛
يقول ابن تيمية في أقسام من ترك الحديث من المجتهدين: لكن الذي قد يخاف على
بعض العلماء أن يكون الرجل قاصراً في درك تلك المسألة، فيقول مع عدم أسباب
القول وإن كان له فيه نظر واجتهاد، أو يقصر في الاستدلال، فيقول قبل أن يبلغ
النظر نهايته [9] .
ومثل ذلك لا يكون اجتهاداً لأنه صدر من مجتهد قصرت به وسائل الاجتهاد
المعتبرة في هذه المسألة، بل يقطع الشيخ عبد الله دراز بأن ذلك المجتهد ملوم قطعاً
في تقصيره، فيقول: يصح أن يقال: إنه [المجتهد المقصر] لم يبذل غاية الوسع،
والاجتهاد يتوقف عليه، فإذا لم يقم ببذل أقصى الوسع والوقوف عند حد كان يمكنه
تجاوزه في البحث يكون مقصراً وغير آتٍ بحقيقة الاجتهاد، فيكون ملوماً
قطعاً [10] .
وتتعجب اليوم من فتاوى واجتهادات تطلق سريعاً دون تروٍ أو دراية، فلا
تعجب أنه يُفتى في قضية ربما جمع عمر (رضي الله عنه) أهل بدر للإفتاء فيها [*] !! فالله المستعان.