دراسات تربوية قرآنية
بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليل
مدخل:
يواصل الكاتب (وفقه الله) وقفاته التربوية القرآنية مع بعض الآيات القرآنية،
فقد سبق أن تطرق لوقفات مع قوله (تعالى) : [وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الحَقَّ وَأََنتُمْ تَعْلَمُونَ] [البقرة: 42] ويواصل مجدداً وقفات إيمانية أخرى مع قوله
(تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] [النور: 11] .
- البيان -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن الله (عز وجل) ، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر
والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على
أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها، حيث
يديل الله (سبحانه) أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويسلطهم عليهم ويظهرهم،
فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث
الاستضعاف والذلة لجل المسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله
(سبحانه) أن تتبدل ولا أن تتحول، [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً] [فاطر: 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله (سبحانه) في نصر عباده
المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله (سبحانه) في التغيير [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] وسنة الله (سبحانه) لا تحابي أحداً.
ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد
من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه (سبحانه) وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه
الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع
أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة
عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله (سبحانه) يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى
وصفاته العلا، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد
من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والعجلة والتهور، وهذه
وقفات مع قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] [النور: 11] .
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله (عز وجل) ، والثقة بحكمته
ورحمته، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ
وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء
المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه،
وكادوا له كيداً [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً] [الطارق: 15 17] ، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز
وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ] [الأنعام: 54] وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) حول
هذا المعنى، ومما ذكره: قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً، حليماً،
عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً
لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في
عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح [1] .
وسيأتي إن شاء الله في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة، وبخاصة في
واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد،
والمؤامرات.. ما يزيد الموضوع بياناً.
أهمية الموضوع:
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
أولاً: علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله (سبحانه)
في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في
القلب ثمارها الطيبة. والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله
ربّاً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ حيث إن هذه السنة من
ثمرات أسمائه (سبحانه) الحسنى، التي منها: الحكيم، والعليم، والكريم،
واللطيف، والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله
(سبحانه) بها. كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في: أثرها على
صدق التوكل على الله (عز وجل) ، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده،
وإحسان الظن به (جل وعلا) ، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير
والإصلاح، فمهما ظهر من الشرور والمصائب، فله (سبحانه) الحكمة البالغة
[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [آل عمران: 66] وأما ارتباطها بالأصل الخامس من
أصول الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر
ورجاء الأجر من الله (عز وجل) يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير
وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان
وهو الإيمان بالقدر خيره وشره فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.
ثانياً: ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة
من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به
لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات
اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة،
فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله (سبحانه) ،
والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه (سبحانه) الحكيم العليم فيما
يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله (سبحانه) في ذلك وفق
علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثالثاً: الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله (سبحانه) في التغيير،
أو التغافل عنها بعد معرفتها، لا سيما وأن في فهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً
لَّكُم] [النور: 11] خير معين لتفهم سنن الله (عز وجل) الأخرى: كما في قوله
(تعالى) : [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] وفي
هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله (سبحانه) ، كما أن فيها
وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه
السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر
بالتصورات الجاهلية، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم
على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا
تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره.
رابعاً: التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله (سبحانه) في كل الأمور، وتفويض
الأمور إلى حسن تدبيره (عز وجل) واختياره؛ لأنه (سبحانه) يعلم ولا نعلم، ويقدر
ولا نقدر، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها.
خامساً: كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد
أو الجماعات، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة: كالقلق،
والاكتئاب، والفصام.. وغيرها، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة
الله (سبحانه) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان
والرضا، وتفويض الأمور إليه (سبحانه) ، وحسن الظن به (عز وجل) ، وأن
اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه:
إن في تفهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] [النور: 11] أحسن علاج لهذه
الأمراض وغيرها.
سادساً: إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع
العظيمة، التي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهي: اليسر ورفع الحرج والمشقة،
وأن الله (عز وجل) لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه
الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.