مجله البيان (صفحة 1999)

منتدى القراء

ضغط الواقع

بقلم:خالد محمد الذواد

يتخذ الأفراد والجماعات والأمم في أحيان كثيرة مواقف معينة، ما كانت لتتخذ

لولا وجود عوامل ضاغطة، أدى تراكمها إلى اتخاذ هذه المواقف، المغايرة لما كان

ينبغي اتخاذه.

وهذه العوامل نطلق عليها: ضغط الواقع، وهو: تلك العوامل الضاغطة

المجتمعة، التي تؤثر في اتخاذ موقف ما.

ومقاومة ضغط الواقع تنعدم حتماً بانعدام القدرة على المقاومة وانعدام إرادة

المقاومة، وبالنسبة لنا نحن المسلمين فالقدرة هي قوتنا الذاتية بكافة أشكالها،

والإرادة نستمدها من إيماننا وعقيدتنا، وما موقفا معتّب بن قشير (المنافق) وسعد

ابن معاذ (الصحابي) إلا تصوير لذلك الخيط الدقيق لما بين المؤمن والمنافق من

فروق.

فعندما تحزبت الأحزاب على المسلمين زاعمة استئصال شأفتهم في شوال من

السنة الخامسة للهجرة قبائل العرب من الخارج، واليهود من الداخل عظم البلاء

واشتد الخوف، وظن المؤمنون بالله الظنون، في تلك اللحظة قال معتب: كان

محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن

يذهب إلى الغائط [1] .

لم يستطع معتب مقاومة ضغط الواقع الذي عاشه في تلك اللحظة، بسبب

انعدام القدرة والإرادة، فقال من كلمات الكفر ما قال، وفي مقابل هذا اتخذ سعد بن

معاذ موقفه الرائع، فقد بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما اشتد خطر

الأحزاب إلى عيينه بن حصن والحارث بن عوف قائدي غطفان ليعطيهما ثلث ثمار

المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وقبل أن يتم الصلح على هذا

استشار سعد بن معاذ وسعد بن عباده، فلما علما أنه يفعل ذلك من أجلهم ولحمايتهم

والتخفيف عنهم، قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على

الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها

تمرة، إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه،

نعطيهم أموالنا! والله مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله

بيننا وبينهم [2] .

لم يؤثر ضغط الواقع الذي عايشه سعد على موقفه، بل تحرر منه بإيمانه

وعزته وشجاعته، فسجل له التاريخ موقفاً لا يمكن أن ننساه.

أما عن المواقف المعاصرة: ففي كل بيئة، في كل بيت، بل وعند كل فرد،

فالعالم والمفكر والقائد وكل فرد معرض لضغط الواقع، وقليل فقط من يستطيع

مقاومة كل الضغوط، ومن ثم: التحرر التام منها.

وقد يتخذ الفرد موقفاً ما تحت ضغوط معينة، لا يشعر هو بوجودها، وعدم

شعوره لا يعني بالطبع عدم وجودها حقيقة، وينبغي على الفرد أيّاً كان أن يتخذ

مواقفة بمعزل عن تأثير الضغوط المختلفة مهما بلغت قوة هذه الضغوط، لكي تكون

حياته في النهاية والتي هي مجموعة المواقف التي يتخذها كما يريد هو وكما يعتقد،

لا كما تفرضها عليه ظروفه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015