سنعرض للقارىء الكريم نموذجًا يلخص صورة الحياد المزعوم في نقل
الأخبار، وسننقل الخبر بنصه كما أوردته وكالة " رويتر " للأنباء، ثم نلقي عليه
بعض الأضواء.
نيجيريا -شغب:
سجن أربعة مسلمين في أحداث شغب دينية.
لاجوس/ 2 تشرين الثاني (نوفمبر) رويتر: قال راديو لاجوس الرسمي:
إن أربعة شبان مسلمين أدينوا وسجنوا في مطلع الأسبوع الحالي بتهمة
الاشتراك في أحداث شغب دينية وقعت في شمال نيجيريا في شهر آذار مارس
الماضي وأودت بحياة 16 شخصًا.
وهؤلاء الرجال الأربعة، بين عشرات من المشتبه فيهم، الذين مثلوا أمام
محكمة خاصة في " أبوجا " التي ستكون عاصمة للبلاد في المستقبل، وقضت
المحكمة يوم السبت الماضي بسجن ثلاثة من مثيري الشغب عشر سنوات لكل منهم
بتهمة الاعتداء الجسيم على آخرين خلال قلاقل وقعت بين طلبة مسلمين ومسيحيين. وكانت هذه الاضطرابات قد اجتاحت ولاية " كادونا " ودمرت عشرات الكنائس
وبض المساجد، وحكم على الشاب الرابع بالسجن ثلاث سنوات بتهمة الإخلال
بالأمن، في حين حصل متهمان على حكم بالبراءة. وظل جميع المتهمين الذين لم
يعرف عددهم بالضبط رهن الاعتقال منذ إلقاء القبض عليهم قبل ما يزيد على سبعة
أشهر.
حتى يتهيأ ذهن القارىء للحكم مسبقًا لابد من الإثارة، والإثارة هنا وسيلتها
استعمال الكلمات، ومن أجل ذلك يطالعنا عنوان الخبر بحدي معادلة بسيطة:
الحد الأول: نيجيريا..
الحد الثاني: شغب..
واختيار كلمة شغب اختيار مقصود، فالانعكاس التلقائي البسيط الذي تحدثه
كلمة " شغب " في أذهان الناس جميعاً بشتى مستوياتهم هو: هيجان يقوم به شخص
أو أشخاص، يرافق هذا الهيجان تخريب للممتلكات واعتداء على حياة أناس آمنين،
والنقطة المهمة هنا أنه ليس وراء هذا الهيجان أي هدف سوى التخريب وحب
الاعتداء، وليس من محرك للنزوع إلى هذا الشغب إلا فساد في البنية النفسية
والعقلية لمن يقوم به وتعطشه للدم وإنزال الأذى بغيره!
وهكذا تكون الأرضية المجهزة برد الفعل العفوي تجاه هذا الخبر قد تكونت،
وقد حدث هذا بسهولة وبساطة وبحيلة بعيدة عن التعقيد لم تكلف إلا كلمة!
والآن إلى استبدال الحد الثاني من المعادلة بما يقابله:
(سجن أربعة مسلمين في أحداث شغب دينية) .
ليس من شيء طريف في هذا العنوان الصحفي سوى أمرين:
1 - حذف كل ما يمكن أن يتصف به هؤلاء الأربعة وإبقاء صفة واحدة، هي
أنهم مسلمون، فكونهم رجالاً أو نسًاء، شيبًا أو شبانًا، متعلمين أم جهلة، كل ذلك
غير مهم أما المهم فهو كونهم مسلمون، والغاية ستظهر بعد قليل.
2 - وصف أحداث الشغب بأنها دينية، وأرجو من القارىء الكريم أن يصبر
معي قليلاً إن كان ممن يستثقل الحديث عن الإعراب واللغة، ففي الحقيقة: إن
الإعراب يحدد وظيفة الكلمة، ويضعها موضعها الصحيح لتعطي الأثر المطلوب.
لقد كان إضافة صفة " دينية " إلى الأحداث ضرورية من وجهة نظر صائغ
الخبر وناقله، فلو اكتفى بكلمة أحداث شغب لما كان هناك غرابة لا لمسلم ولا لغيره، فليس غريباً أن يقوم مسلم أو مجموعة مسلمين بأحداث شغب مجردة، ولكن لما
كان صائغ الخبر حريصًا على الأمانة والحياد في النقل؛ ولما كان يريد من هذه
الصفة أن تقوم بوظيفة تكميلية لكلمة شغب أضافها.
وأحداث الشغب الدينية لابد أن ترتبط بمسلمين لينتج عنها معادلة جديدة تستقر
وتترسخ في الجانب غير الواعي لمن يقف على الحياد أو لمن له موقف سابق من
الإسلام والمسلمين هذا المعادلة هي:
المسلمون = شغب (ديني) !
في سياق الخبر تتطابق وجهة نظر ناقل الخبر المطلقة مع وجهة صاحب
الخبر وهو راديو لاغوس الرسمي، وهذا التطابق واضح من ترك نهاية الخبر
سائبة لا يعرف عند أي عبارة انتهت، ولو جهدت لتعرف نهاية الخبر كما نقله
الراديو وتميزه عن التعليق الذي تدسس بنعومة (ولكنها نعومة ثقيلة سمجة) لما
استطعت، ولظلت تخميناتك كلها في دائرة الظنون.
إن الحياد المزعوم يفضح نفسه، ويبدو حيادًا فجًا إذا ما تقدمنا مع الخبر
خطوة خطوة، فانظر إلى عبارة (بين عشرات من المشبه فيهم) كم عشرة يا ترى!! ثلاثة، أربعة، ستة، أكثر..؟ !
وكذلك عبارة (الاعتداء الجسيم) ما حدود هذا الاعتداء، على ماذا حصل؟
على أجسادهم، على أموالهم؟ ! ثم كلمة (آخرين) ألا ترى أن التجهيل مقصود؟
أليس من الحق أن يوصفوا بأي وصف؟ (قلاقل وقعت بين مسلمين ومسيحيين)
نصل إلى هذه العبارة - وبعد كل الشحن الذي شحننا به الذين يتحكمون حتى
بصراخ المسلمين وشكاواهم - لتوحي لنا بأن المسلمين دائمًا هم البادئون بالقلاقل
وأن المسيحيين دائمًا في موقف الدفاع عن النفس! هل تريد دليلاً على هذه ... الدعوى؟! هذه الاضطرابات قد (دمرت عشرات الكنائس وبعض المساجد) عشرات الكنائس: ثلاثين، أربعين، تسعين، وما فوق ذلك؟ كله محتمل، (بعض المساجد) مهما حاولنا التكثير فإن كلمة (بعض) تقول لنا: لا ليس إلى هذا الحد، (بعض المساجد! !) ، ثم لاحظ هذا التقابل الطريف:
قلاقل وقعت بين طلبة مسلمين ومسيحيين.
دمرت عشرات الكنائس وبعض المساجد!
إن تصوير المسلمين بهذه الصورة، وتجاهل الأسباب التي تدفعهم إلى ما
يقومون به من أعمال، وإظهارهم بمظهر مجموعات خارجة على القانون، تتخذ
من الإخلال بالأمن مهنة، وتصغير ما ينزل بهم من تنكيل، وتناسي ما يقع عليهم
من اعتداءات يومية، وتضخيم آثار دفاعهم عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ودينهم، وإبرازهم على هيئة قطاع الطرق؛ كل هذا من مهمة هذا الإعلام الذميم الكافر
الذي يدعي الموضوعية بينما هو في تناوله لقضايا المسلمين أبعد ما يكون عن
الموضوعية، وأقصى ما يكون عن مراعاة مقتضيات الضمير الحي، فضلاً عن
الصدق الذي هو صفة لازمة للحق من أي جهة صدر.
لقد عنيت بهذا الخبر وجعلت من تحليله دليلاً يرشدنا إلى عدم الركون إلى كل
ما تلقي به وسائل نقل الأخبار العالمية، وخاصة فيما يتعلق بأحوال المسلمين. وأنه
لابد من الحذر الشديد، والنظر بعمق إلى الأهواء التي تكمن وراء الكلمات وكشفها
وتعريتها حتى يتضح الصواب من الخطأ، وتظهر الحقيقة من بين ثنايا التحامل.