من قضايا المنهج
لمحات في فن الحوار.. الحلقة الأولى..
[ضوابط الحوار]
محمد محمد بدري
قد نرى بعض الفرقاء كلما أرادوا ائتلافاً تفرقوا.. وحيثما جلسوا لتسوية
خلاف تشتتوا وتنازعوا! !
ولا يرجع ذلك إلى نوعية الأخلاق المتردية لهذا الفريق أو ذاك فقط.. وإنما
يرجع قبل ذلك وبعده إلى الجهل بعلم الحوار وفن المحاورة الذي يجعل المتقاربين
في الأهداف والأفكار في خلافٍ دائم، ونزاع مستمر، وفُرقة مقيتة! !
ولكي لا نسقط في فتنة الفُرقة لابد أن نرتفع بحواراتنا إلى مستوى أن تصبح
علماً نتلقاه، وفناً نتدرب على أساليبه ونمارسه للوصول إلى أهدافنا النافعة، بعيداً
عن الارتجال وتغييب الخيال!
وهذه المقالة، دعوة لتعلم ضوابط الحوار التي تحكمه، والتدرب على أساليبه
التي تخدمه، والتعرف على عوائقه التي توقفه.. حتى يكون كلامنا باعتدال،
وجدالنا بمنطق، وحوارنا باتزان، سائلاً الله التوفيق والسداد.
لكل حوار ضوابط تحكم مساراته، وتوجه تلاقح الأفكار خلاله.. وضوابط
الحوار فضلاً عن كونها آداباً وأخلاقاً هي جزء رئيس ومؤثر في فعالية أي عمل
يُبْنى على الحوار.. ذلك: أن أي عمل في بدايته هو مشروع في محتوى بعض
الكلمات والأفكار التي ينميها الحوار ويخصبها، ويبعث فيها روح العمل.
ولا شك أن ضوابط الحوار إنما تقوم على أصول سلفنا الصالح أهل السنة
والجماعة في تمحيص الآراء المتباينة، وتجلية الإشكالات المتوقعة، دون تَحَول
الحوار إلى مهاترات يضيع معها الود لتحل محله الجفوة والقطيعة.
ومن هذه الضوابط:
1- السماع الكامل:
الحوار هو: فن السماع للآخر، وعدم الطمع في الكلام بدلاً منه، لأن هذا
الطمع يزهدنا فيما يقوله مَن نتحاور معه، ويحرمنا من تَدبّر قوله الذي لا يتحقق إلا
بالسماع الكامل لهذا القول حتى دُبرَه أي: آخره.
كما أن السماع الكامل للآخر يُشْعره باهتمامنا بما يقول، وجديتنا في التحاور
معه، وثقتنا في الوقت ذاته فيما عندنا.
وتأمل معي هذا الحوار بين عتبة بن ربيعة والنبي -صلى الله عليه وسلم-،
لقد أتى عتبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى جلس إليه، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت
قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم،
وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك
تقبل منها بعضها، قال رسول الله ص: قل يا أبا الوليد، أسمَع. قال: يا ابن أخي
إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون
أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن
كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده
عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب
التابع على الرجل حتى يداوى منه.. أو كما قال، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فاستمع مني. قال: أفعل. قال النبي -صلى
الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم [حم * تنزيل من الرحمن
الرحيم ... ] (فصلت: 12) [1] .
فانظر رحمك الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يستمع إلى عتبة
وهو يعرض عليه هذه الخواطر التي تثير الاشمئزاز مقارنة بما يشغل النبي من
عظائم الأمور، ومع ذلك يتلقاها النبي حليماً، ويستمع إليه دون مقاطعة عتبة ويردد
في نهايتها: أفرغت يا أبا الوليد؟ . فيقول: نعم، فيقول الرسول الكريم: فاستمع
مني، بل لا يبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه حتى يقول له عتبة: افعل..
فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلاوة قول ربه في ثقة وطمأنينة! !
إن السماع الكامل للآخر، وإعطاءه الفرصة حتى يُتم كلامه، مع استوضاح
أي غموض فيما يعرضه من أفكار.. إن كل ذلك لا بد أن يكون هو السمة المميزة
لكل حواراتنا، فإذا تبين لنا خطأ الآخر، فإن السماع الكامل له وعدم مقاطعته هو
المقدمة الصحيحة لرجوعه عن الخطأ مهما كان عناده وغلظته؛ فإن أشد الناس
جفافاً في الطبع وغلظة في القول لا يملك إلا أن يلين وأن يتأثر إزاء مستمع صبور
عطوف يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب [2] .
2- تجريد الأفكار:
هدف الحوار هو الاستفادة من الأفكار وليس تدمير الأشخاص، ولذلك؛ فإن
من أهم ضوابط الحوار: التركيز على فض الاشتباكات الفكرية دون التعرض
السلبي للأشخاص بتشويه أو تجهيل، فلا خلاف مطلقاً بين أشخاص المتحاورين،
وإنما بين أفكارهم، والفكرة الحسنة تُمْتدح بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ
تُرَاجع دون تسفيه قائلها أو التهكم منه، فالنظر دائماً إلى الآخر من خلال ما قيل،
لا من قال [3] ، مع احترام أهل العلم، وحفظ مكانتهم ومراتبهم، فلا نؤثمهم مطلقاً
ولا نعصمهم مطلقاً، ولا نقبل كل أقوالهم ولا نُهْدرها كلها، وإنما ننتفع بأفكارهم ما
دامت حقاً، ولا نعتقد فيهم العصمة من الخطأ، ونرى أن الآخر قد يمتلك الحق أو
أنه يكون هو الراجح عنده، وأن ما عندنا يحتمل الخطأ أو أن يكون هو المرجوح.
ولا شك أن التحاور ضمن هذا المبدأ مبدأ افتراض المخالفة هو المدخل الذي
يضع الآخر في أول الطريق الصحيح للتفكير، لأنه يرى أن من يحاوره يضع نفسه
معه في موضع المجادلة المشتركة لمعرفة الحق؛ [وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في
ضلال مبين] [سبأ: 24] .. هكذا في هدوء من يبتغي للآخر الإرشاد وليس
الإفحام والإذلال، وفي ثقة من أخلص للحق المجرد فصح انقياده له، ولم يهتم بمن
قاله من البشر، وإنما كان جُل اهتمامه بالقول في ذاته وتمييز الحسن منه والأحسن، ثم اتباع الأحسن، فكان من أصحاب البشرى بالنجاح وتحقيق الأهداف في الدنيا،
والنعيم في الآخرة؛ [فبشر عبادٌ * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك
الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب] [الزمر: 17، 18] .
3- ترك المراء:
قد يُخْفِي الحوار في نفس من يمارسه حباً خفياً للتميز على الآخر، ولا يمكن
اكتشاف هذه العورة النفسية إلا بأن يترك المحاور المراء والجدل، ويلتزم بيان
الحق بالحجج والبراهين.
ومن هنا: فقد وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- تارك المراء ببيت في
الجنة.. قال -صلى الله عليه وسلم-: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً [4] .. فرغم الاعتقاد بملكية الحق لا يكون إثباته عن طريق المراء والجدل، وإنما عبر الطرق والمسارات الشرعية التي تصل بسالكها إلى بيان الحق، وعدم الانتقال بأي حال من الأحوال من شواهد الأدلة إلى دوافع الآخر، أو من إقامة الحجج للتدليل على صحة ما نراه ونعتقده إلى إثارة الجدل للتدليل على خطأ الآخر وخبث بواعثه.. فيدور حوارنا في حلقة مفرغة، ويتفرع إلى ... مضايق ومتاهات تتمزق فيها الأفكار ويُقْتل التفكر والتدبر على مذابح المراء والجدل العقيم! !
إن المراء يغلق باب الحوار ويلغيه، لأنه يدفع طرفي الحوار إلى التصور
الخاطئ: بأن حوارهما هو مباراة لا تكون نتيجتها إلا قاتل أو مقتول، فلا يبحث
كل منهما عن حقائق أو أدلة، وإنما يكون بحثه وجهده في محاولة إغراق الآخر في
طوفان من الكلام الذي يُضيع الوقت والجهد في غير فائدة، ويوغر الصدور،
ويكرس الفرقة.
4- تغافر لا تنافر:
الحوار هو لون من ألوان التشاور حول بعض الموضوعات والأفكار، ومن
ثم: فهو جلسة تناصح وتغافر وليس جلسة تصارع وتنافر، فمع قبول رأي الآخر
أو رفضه تبقى طهارة القلب وصفاء السريرة نحوه، مع قبول معذرته والتغافر عن
خطئه إن وقع، بل والحرص على أن يخرج الحق على لسانه، فقد رُوي أن الإمام
أبا حنيفة (رضي الله عنه) رأى ولده حماداً يناظر في المسجد فنهاه، فقال له ولده:
أما كنت تناظر؟ قال: بلى، ولكن كنا كأن على رؤوسنا الطير من أن يخرج
الباطل على لسان الخصم، بل كنا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم
كذلك فافعلوا! ! [5] .
وهذه هي سيماء سلفنا الصالح في حواراتهم، فقد ذُكِر عن حاتم الأصم أنه
قال: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي، قالوا: وما هي؟ قال: أفرح إذا
أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه، فبلغ ذلك الإمام
أحمد بن حنبل (رحمه الله) فقال: سبحان الله! ما كان أعقله من رجل [6] .
.. نعم، ما أعقله من رجل يحب أن يُظْهر الله الحق على لسان أخيه،
ويحاول رؤية الحق من أي وعاء خرج، ومن أي جهة سطع.
إن من طلب الحق فأخطأه لا يمكن تسويته بمن طلب الباطل فأدركه، فطالب
الحق وإن أخطأ نتجاوز عن خطئه، ونغفر له تجاوزه، وإن كان ثمة عتاب
فبالمودة والإخاء والقول الحسن.
وتأمل معي ما جاء في سيرة علي بن الحسين (رضي الله عنه) : لقد كان بينه
وبين ابن عمه حسن شيء، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله، وعلي ساكت، فذهب
حسن، فلما كان الليل، أتاه علي فقال: يا ابن عمي إن كنت صادقاً فغفر الله لي،
وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، والسلام عليكم. فالتزمه حسن، وبكى حتى رثي
له [7] .
إن الحوار جلسة بدء علاقة يظللها الحب والتغافر، ولسان حال المتحاورين:
من اليوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا
فلا كان ولا صار ولا قلتم ولا قلنا
5- الصدق والوضوح:
الصدق مع كونه ضابطاً من ضوابط الحوار هو خلق نبيل لا خيار للمسلم في
التحلي به،.. والوضوح في الفكرة هو وسيلة قبولها من الطرف الآخر..
والوضوح في المواقف له أكبر الأثر في تصفية القلوب وإعادة الود.
ومن هنا كان الصدق والوضوح هما طريق التآلف وحصول البركة، قال
رسول الله ص: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما [8] .
وكما أن البيع المبني على الصدق والوضوح هو بيع مليء بالبركة، كذلك
الحوار القائم على الصدق والوضوح هو حوار مبارك ييسر الله تعاون أطرافه على
البر والتقوى، ويبارك جهودهم المتعاونة على نصرة الحق.
ومن هنا وجب علينا في كل حواراتنا أن نتجنب الكلمات الغامضة التي تؤدي
إلى سوء الفهم، ونتجنب أساليب المغالطات والدفاع عن الأوضاع الخاطئة التي
تؤدي إلى إثارة الحقد، وإيغار الصدور والقلوب، وذهاب الود بين طرفي الحوار،
ومن ثم تكون النتيجة هي فشل الحوار في تحقيق أهدافه.
6- العلم والعدل:
الحوار الناجح هو حوار يضبط العلم مساره، ويوجه العدل موقف كل طرف
فيه تجاه الآخر.
فأما العلم، فإنه لا يستقيم حوار بدونه، بل في غيابه يصبح ضرر الحوار
أكثر من نفعه، لأن جهود المتحاورين في هذه الحال تذهب سدى وتضيع بلا ثمرة
تذكر.. روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن
نفراً كانوا جلوساً بباب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا
وكذا؟ قال: فسمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج، فكأنما فُقئ في
وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أمرتم؟ ! ، أو بهذا بعثتم، أن تضربوا القرآن
بعضه ببعض؟ ! إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به
فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه [9] ، يقول ابن تيمية (رحمه الله)
في التعليق على هذا الحديث: وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل
إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه [10] .
وأما العدل فهو الطريق إلى اعتدال أخلاق المتحاورين بين طرفي الإفراط
والتفريط، وهو الحامل لهم على قبول الحق من الخصم، بل من العدو المبين! !
لقد روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكله بحفظ زكاة
رمضان، فأتاه آت فجعل يحثو من الطعام، فأمسك به ثم خلى سبيله، ثم عاد
الثانية والثالثة، إلى أن قال في الثالثة: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قال:
قلت: ما هن؟ ، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية [الله لا إله إلا هو الحي
القيوم] [البقرة: 255] حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا
يقربنك شيطان حتى تصبح. فلما أخبر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
له: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟، قال: لا، قال: ذاك شيطان [11] .
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمتنع من قبول الحق من أعدى
أعدائه، بل ممن يعلم أنه كثير الكذب.. وذاك غاية العدل.
إن طريق الوصول إلى الحق عبر الحوار هو الاتصاف بالعدل والعلم وحسن
القصد، وأما الجهل والظلم وسوء القصد فهو الطريق إلى التنازع والفرقة والقطيعة
بين أهل المنهج الواحد، بل بين ذوي الرحم.
ولا تزال قلة الإنصاف قاطعةً بين الأنام وإن كانوا ذوي رحم
7- التحاور العملي:
المتأمل في حواراتنا يجد أنها تحوي في أكثرها هوة كبيرة بين ما نتحاور له
وما يترتب عليه من أعمال في الواقع.. وهذه كارثة.. لأن الحوار يجب أن يكون
حول ما ينبني عليه عمل وفيما ترجى من ورائه مصلحة أو منفعة، أما عدا ذلك:
فالخوض فيه: خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي في الكتاب أوالسنة
أو عمل سلف الأمة.
فأما الكتاب فآيات كثيرة؛ منها: قوله (تعالى) : [يسألونك عن الأهلة قل
هي مواقيت للناس والحج] [البقرة: 189] حيث جاء الجواب بما تعلق به العمل،
مع الإعراض التام عما قصده السائل من السؤال عن الهلال من كونه يبدو في أول
الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود إلى حالته الأولى.
وأما السنة فأحاديث كثيرة؛ منها: (أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه
وسلم-: متى الساعة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وما أعددت لها؟ فكأن
الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صيام ولا صلاة ولا
صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال -صلى الله عليه وسلم-: أنت مع من
أحببت [12] ) [13] .
وأما عمل السلف الصالح فكثير أيضاً، نذكر منه: خبر عمر بن الخطاب
مع صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، فقال عمر: سبيل محدثة
أي: بدعة جديدة ثم أرسل إلى رطائب من جريدة نخل فضربه بها حتى ترك ظهره
دبرة أي: قرحة ثم تركه حتى برئ ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود،
فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني،
فقد والله برئت، فأذن له عمر أن يذهب إلى أرضه.
إن تحاورنا يجب أن يكون هو الخطوة التمهيدية الأولى في طريق أعمالنا
المشتركة التي نتعاون على إتمامها.. ولذلك: فإنه من الضروري أن نتعرف قبل
التحاور على الأهداف العملية للحوار، ونتبين ما هي الدوّامات الفكرية الطارئة
والمنعطفات النظرية العارضة التي قد تلفتنا عن أهدافنا العملية لتنحرف بحواراتنا
إلى أمور نظرية شكلية ليس لها أدنى تأثير في مسيرة العمل، ولا يترتب عليها إلا
استنفاذ طاقاتنا في غير طائل وبغير ثمرة.
وثمة ضوابط أخرى للحوار لا يسعنا الوقوف عندها تفصيلاً حتى لا نخل بأحد
ضوابط الحوار وقواعده الضرورية، وهي:
8- الحجة الرأسية:
الحوار الناجح هو حوار يخلو من الإطالة الزائدة عن الحد، التي تُحَوّل
الحوار إلى خطبة يتشدق فيها كل طرف من أطراف الحوار ويتفاصح بكثرة الكلام،
بل وغرابته أحياناً! ! ، وهو ما كرهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقوله:.. إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ ، قال: المتكبرون، والثرثار: كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فيه بالكلام، ويتوسع فيه، ويغرب به تكبراً وارتفاعاً، وإظهاراً للفضيلة على غيره [14] .
إن الإطالة والتكرار والإسهاب وهو ما نطلق عليه الحجة الأفقية لا ينتج عنه
إلا دفن الفكرة الرئيسة للحوار وسط هذا الكم الكبير من الكلام، ومن ثم: عدم قدرة
الآخر على اكتشاف ما نقصد فضلاً عن فهمه وتدبره؟ !
وإذن: فالمحاور العاقل هو من يحاول الوصول إلى هدف الحوار من أقرب
طريق، ولا يضيع وقته ووقت الآخر في تكرار الكلام والإسهاب في المقدمات التي
لا فائدة فيها، بل يقتصر في الألفاظ والكلمات على قدر الحاجة ويوضح فكرته
بأقرب عبارة وأوجز لفظ، وهو ما نطلق عليه الحجة الرأسية حيث يذكر المحاور
فكرته الرئيسة، ثم ينتقل بعد ذلك لتدعيمها بالأدلة، في إجمال غير مخل، وتفصيل
غير ممل.
إن من فقه الحوار وذكاء المتحاورين: أن يتحرزا عن إطالة الكلام في غير
فائدة، وعن اختصاره اختصاراً يخل بفهم المقصود منه [15] ، وأن يحققا التوازن
الدقيق بين جفاف الحوار بسبب قلة الأدلة أو غموضها، وبين غرق الحوار بسبب
الإسهاب والتكرار غير المفيد.. وللحديث بقية، والله من وراء القصد.