دراسات حديثية
محمد بن عبد الله الأحمد
من المحاسن الواضحة لهذه الصحوة المباركة، ومن سماتها الظاهرة:
حرصها على صفاء المورد وسلامة الطريق، مما أثمر اهتماماً بالسنة النبوية تحقيقاً
ونشراً، ودراسة وفقهاً، وقبل ذلك وبعده، التزاماً ودعوة ومشاركة في هذه المسيرة
الراشدة. وهذه الأسطر تعرض موضوعاً مهماً للمشتغلين بدراسة الأسانيد، وهو:
العمل عند اجتماع الجرح والتعديل في الراوي الواحد، وهو موضوع أغفله عدد من
الباحثين - خصوصاً المعتمدين على كتاب «تقريب التقريب» .
وأتمنى أن يكون في هذه الأسطر بيان لأهمية هذا المبحث في الحكم على
الرجال وتصحيح الأحاديث وتضعيفها، فهو مع علم العلل أساس الحكم على
الأحاديث.
وفي ثنايا هذه الأسطر تذكير بمنهج أسلافنا في التعامل مع أهل العلم وآرائهم، وإنزالهم المنازل التي يستحقونها، دون إفراط أو تفريط، فلا عصمة لعالم،
وليس أخو علم كمن هو جاهل، عسى أن نعي منهجهم فنسير على دربهم.
وقد سلك العلماء في هذا الموضوع ثلاثة طرق:
1- الجمع بين الأقوال ما أمكن:
وذلك بتنزيل كل قول على أمر خاص، وأوجه الجمع كثيرة يصعب حصرها، منها ما يتعلق بأحوال الراوي في شبابه وكهولته، سفره وإقامته، ضبط صدره
وضبط كتابه، بالنسبة لشيوخه وتلاميذه ... وهكذا، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن
رجب في آخر شرحه «لعلل الترمذي» فصولاً نافعة في هذا الباب.
2- الترجيح:
وهو اعتماد أحد الأقوال جرحاً أو تعديلاً وطرح ما عداه، واعتماد أحد
الأقوال لا يكون جزافاً أو هوى، بل بناءً على أسس وقواعد، منها:
(أ) التثبت من النقل عن الناقد، والتأكد من عبارته:
قال الحافظ ابن حجر: ونقل ابن الجوزي من طريق الكديمي عن ابن المديني
عن القطان أنه قال: لا أروي عنه يعني أبان العطار، وهذا مردود؛ لأن الكديمي
ضعيف.
وقال في ترجمة بشر بن شعيب الحمصي: قال ابن حبان: كان متقناً ثم غفل
غفلة شديدة؛ فذكره في الضعفاء، وروى عن البخاري أنه قال: تركناه.
وهذا خطأ من ابن حبان نشأ عن حذف؛ وذلك أن البخاري إنما قال في
تاريخه: تركناه حياً سنة اثنتي عشرة، فسقط من نسخة ابن حبان لفظ حياً، فتغير
المعنى.
(ب) النظر في حال الناقد:
من وجوه: تشدداً وتساهلاً، مرتبته في هذا العلم، ومعرفته به، معاصرته
للمتكلم فيه زماناً أو مكاناً، مصادره في هذا النقد، مذهبه الاعتقادي، اصطلاحاته
النقدية.. إلخ.
ومن الأمثلة: قول الحافظ في ترجمة أحمد بن شبيب الحبطي: ولا عبرة
بقول الأزدي لأنه ضعيف، فكيف يعتمد في تضعيف الثقات؟ ! .
وقال في ترجمة خثيم بن عراك: وغفل أبو محمد بن حزم فاتبع الأزدي
وأفرط، فقال: لا تجوز الرواية عنه، ومادرى أن الأزدي ضعيف فكيف يقبل منه
تضعيف الثقات؟ ! .
وقال في ترجمة محارب بن دثار: وقال ابن سعد لا يحتجون به، قلت: ...
ولكن ابن سعد يقلد الواقدي، والواقدي على طريقة أهل المدينة في الانحراف على
أهل العراق.
ومما يتعلق باصطلاح الناقد: ما قاله الحافظ في ترجمة يزيد بن عبد الله
الكندي، قال: عن أحمد أنه قال: منكر الحديث، قلت: هذه اللفظة يطلقها أحمد
على من يغرب على أقرانه؛ عرف ذلك بالاستقراء من حاله. أ. هـ.
ومن ذلك اصطلاح البخاري في عبارة: منكر الحديث وفي إسناده نظر.
ومما يتعلق بمعرفة المتكلم بالراوي ما نقله الحافظ في تهذيبه عن أبي أحمد
الحاكم أنه قال: وربما يقع له الغلط يعني البخاري لا سيما في الشاميين، ونقله
مسلم من كتابه فتابعه على خطئه. [ترجمة أبي عمران الأنصاري] .
(ج) معرفة سبب الكلام جرحاً أو تعديلاً:
وهذا عنصر مهم في الترجيح؛ فقد ردت أقوال أئمة كبار لما عرف سبب
كلامهم، فقد يكون السبب اختلاف المذهب بين الناقد والمتكلّم فيه وهذا باب واسع
ينبغي تأمله، أو ما يكون بين الأقران من المنافسة التي تؤدي إلى نوع من الميل
على الآخر، أو وقوفه على نص أو فعل للمتكلم فيه ولم يفهمه الناقد على وجهه
الصحيح، أو يكون كلامه نتيجة ظن مرجوح ... إلى أسباب كثيرة.
وهاك جملة من الأمثلة وهي من مقدمة الفتح أيضاً:
حميد بن هلال العدوي، قال يحيى القطان: كان ابن سيرين لايرضاه. قال
الحافظ: بيّن أبو حاتم الرازي أن ذلك بسبب دخوله في شيء من عمل السلطان وقد
احتج به الجماعة.
وهذا إسماعيل بن إبراهيم القطيعي، وثقة ابن معين وأخرج له الشيخان، قال
الحافظ: وغمزه أحمد لأنه أجاب في المحنة.
وهذا إمام الصنعة شعبة بن الحجاج يترك المنهال بن عمرو الأسدي، ومع
ذلك يوثقه عدد من الأئمة ويخرج له البخاري، ذلك لأن شعبة لما سُئل عن سبب
تركه له قال: أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت طنبور فرجعت ولم أسأله،
قال وهب بن جرير: فهلا سألته عسى كان لا يعلم.
وهذا الإمام مالك بن أنس وهو أشهر من عرف بانتقائه للرجال، فإذا حدث
عن رجل فهو ثقة لم يقبل أهل العلم توثيقه لعبد الكريم ابن أبي المخارق. قال ابن
عبد البر: لا يختلفون في ضعفه، غرّ مالك سَمته ولم يكن من أهل بلده.
وقد أعتذر مالك عن روايته عنه، فقال: غرني بكثرة بكائه في المسجد
[الميزان2/646، 647] .
أما رد كلام الناقد نتيجة لأنه لم يفهم فعل أو قول الراوي على وجهه الصحيح، فالأمثلة كثيرة، منها:
الحسن بن مدرك السدوسي، قال أبو داود: كان كذاباً يأخذ أحاديث فهد بن
عوف فيقلبها على يحيى بن حماد.
قال الحافظ: إن كان مستند أبي داود في تكذيبه: هذا الفعل، فهو لا يوجب
كذباً، لأن يحيى بن حماد وفهد بن عوف جميعاً من أصحاب أبي عوانه، فإذا سأل
الطالب شيخه عن حديث رفيقه ليعرف إن كان من جملة مسموعه، فحدثه به أولاً،
فكيف يكون بذلك كذاباً، وهذا الراوي خرّج له البخاري وحدّث عنه أبو زرعة وأبو
حاتم ووثقه النسائي.
وهذا زيد بن وهب الجهني، وثقة الجمهور، وقال الحافظ: وشذ يعقوب ابن
سفيان الفسوي، فقال: في حديثه خلل كثير، ثم ساق من روايته قول عمر في
حديثه: «يا حذيفة، بالله أنا من المنافقين؟ !» ، قال الفسوي: وهذا محال.
قلت [الحافظ] : هذا تعنت زائد، وما بمثل هذا تُضعف الأثبات، ولا ترد الأحاديث
الصحيحة، فهذا صدر من عمر عند غلبة الخوف وعدم أمن المكر، فلا يلتفت إلى
هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات.
ومن ذلك: تكذيب هشام بن عروة لمحمد بن إسحاق، ولما سئل عن السبب
قال: حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر وأدخلت علي وهي بنت تسع، وما رآها
رجل حتى لقيَت الله (تعالى) .
وقد رد هذا التضعيف عدد من الأئمة منهم أحمد بن حنبل؛ قال: فلعله سمع
منها في المسجد أو سمع منها وهو صبي، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب،
فأي شيء في هذا؟ ! [الميزان 3/470، 471] .
ولذلك ذهب المحققون من أهل الحديث إلى تقديم الجرح المفسّر عند
تعارض الجرح والتعديل في الراوي، وشرطه: كون التفسير يُعتدّ به ومعتبراً
وخفي على المعدّل، لأن مع الجارح في هذه الحالة زيادة علم، والله أعلم.
3- التوقف حتى يأتي مرجح:
وقد ذهب إلى هذا المسلك عدد من النقاد، منهم: الحافظ أبو حفص عمر بن
شاهين في الجزء المطبوع من كتابه «ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث
فيه ... » ، وهو مطبوع في آخر «تاريخ جرجان» للسهمي.
فهو يتوقف حينما يتكافأ النقاد عدداً أو مكانة، كما في ترجمة أبي الأشهب
جعفر بن الحارث وترجمة حميد بن زياد وزكريا بن منظور، وقد توقف في خالد
بن أبي مالك، مع أنه ذكر عن أحمد بن حنبل وأحمد ابن صالح توثيقه، ونقل عن
يحيى بن معين تضعيفه.
وقال في الخليل بن مرة: وهذا الخلاف في الخليل بن مرة يوجب الوقف فيه، لأن الخليل بن مرة روى أحاديث صحاحاً وروى أحاديث منكرة، وهو عندي إلى
الثقة أقرب.
وبعد هذا الاستعراض الموجز الذي لم أقصد به الاستقصاء والدراسة العلمية
أرجو أن يكون قد تحقق ما قصدته من التذكير بهذا الموضوع وإثارة الاهتمام به،
حتى يحظى من الإخوة الباحثين بمزيد عناية نظرية، وممارسة عملية، ليستفيدوا
من هذا المنهج في نقد وتقويم واقعهم الدعوي ورموزه ... والحمد لله رب العالمين.