دراسات شرعية
د. محمد بن عبد الله الشباني
مدخل:
تمثل السيرة النبوية والسنة القولية والفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم-
مصدراً مهماً لفهم التشريع الإسلامي على مستوى العلاقات الاجتماعية والسياسية،
وبخاصة عند تحديد كيفية التعامل مع الأعداء.
وفي هذا العصر الذي بلغت فيه الهزيمة النفسية مدًى واسعاً يستدل بعض من
يدافع عن واقع الهزيمة التي تجذرت في نفوس بعض من يتولى توجيه الأمة سياسياً
وفكرياً بـ (صلح الحديبية) دليلاً شرعياً يُسَوّغُ به تسليم أرض المسلمين في
فلسطين إلى اليهود والتمكين لهم فيها، وبذل مال المسلمين لتقويتهم.
إن غزوة الحديبية وما تم فيها من صلح بين رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وبين أعدائه من مشركي العرب تحتاج إلى وقفة متأنية ودراسة منهجية حتى
لا يُعمَد بحسن نية أو بسوء نية إلى تزيين التخاذل والاستخذاء والاستسلام لأعداء
الأمة.
إن تلك الغزوة وما حصل فيها من مواقف متعددة في التعامل مع المشركين
لَدروسٌ ينبغي فهمها واستيعابها من قبل أفراد الأمة، لما في ذلك من أهمية في
مكافحة الغزو الثقافي وما يتبعه من هزيمة نفسية هي أشد ألماً وتأثيراً في كينونة
الأمة من الاحتلال العسكري ولما لذلك من تأثير على استمرار قدرتها على المجابهة
إلى أن يأذن الله لها بالفرج، وتتوفر لها أسباب عدم الاندثار والزوال والذوبان في
الأمم والثقافات الأخرى.
ويرتبط فهم المواقف التي حدثت في غزوة الحديبية ومعرفة مدلولاتها بفهم
الظروف التي صاحبت هذه الغزوة التي قاد فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم-
طلائع الجيوش المسلمة، آملاً أن يكون فيما سأتطرق إليه من مفاهيم ودروس لهذه
الغزوة ما يوضح الحقيقة التي يراد نسيانها أو تناسيها.
أحوال ما قبل الصلح:
*مكانة (مكة) في قلوب المسلمين:
إن مكانة مكة في قلوب العرب تمثل بقايا قيم وتعاليم نبي الله إبراهيم (عليه
السلام) ، ولهذا: فقد كان العرب يفدون إلى مكة لأداء النسك في شهر ذي الحجة،
وقد حرّموا بينهم شهور ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، فلم يبيحوا القتال في تلك
الأشهر، لكي تتمكن القبائل العربية من الوفود إلى مكة لأداء مناسك الحج، ولذا:
فقد كانت مكة محط أنظاره -صلى الله عليه وسلم- هو وصحابته الكرام الذين تهوي
دائماً أفئدتهم إليها.
*تضعضع مكانة قريش:
وإن من أهم الظروف التي سبقت صلح الحديبية والتي تساهم في فهم معطيات
وأسس الصلح الذي تم بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش: تضعضع
مكانة قريش العسكرية بعد غزوة الخندق، التي انتصر فيها رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، مما أدى إلى تفكك التجمع المناهض للدولة الإسلامية، وقيامه -صلى
الله عليه وسلم- بالقضاء على اليهود الذين كان لهم دور فاعل ومؤثر في تأليب
العرب المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان لهذا الواقع أثره
في بروز القوة الإسلامية في المدينة وظهورها قوةً جديدة قادرة على مجابهة جميع
القوى في الجزيرة العربية آنذاك.
*فرض واقع جديد:
ويتضح من الأسلوب الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خروجه
إلى مكة معتمراً رغبته -صلى الله عليه وسلم- في الحصول على الاعتراف من
قريش بالمجتمع الجديد الذي قام في المدينة، وأن له الحق كبقية القبائل العربية في
زيارة مكة، مما يساعد القوة الإسلامية الجديدة على الامتداد والانتشار في الجزيرة
العربية، وبالتالي: إضعاف مركز قريش، وقد أعلن -صلى الله عليه وسلم-
للناس أنه لا يريد الحرب ولا يسعى إليها [1] ، بل خرج مُحرِماً سائقاً للهدي معظماً
لشعائر الله، فلم يأخذ معه سلاحاً إلا السيوف مغمدة.
فلم يخرج -صلى الله عليه وسلم- من أجل الجهاد وتأديب أعداء الله، وإنما
خرج لأداء شعيرة من شعائر الله، ولكن هذه الخطوة وضعت قريشاً أمام خيارين
أحلاهما مر؛ فإما أن يمنعوه ص؛ فتهتز مكانتهم الأدبية والاجتماعية بين العرب
لكونهم يصدون عن بيت الله الحرام، وإما أن يقبلوا دخوله -صلى الله عليه وسلم-، فتهتز مكانتهم السياسية وهيبتهم العسكرية بين العرب؛ لأنه سيقال: إن قريشاً
سمحت للمسلمين بدخول مكة لعدم قدرتها على مواجهتهم ومنعهم.
بين صلح الحديبية ومعاهدات السلام! :
يمثل صلح الحديبية الأساس الشرعي لكيفية التعامل مع الأعداء، وكيف يتم
التهادن معهم، والقواعد التي ينبغي مراعاتها؛ أخذاً بالظروف العسكرية التي تم
على ضوئها الصلح، وفهماً لما احتوت عليه نصوص الصلح من قواعد يجب فهمها
على ضوء قوة المسلمين، وليس على ضوء الضعف والاستخذاء واللجوء إلى العدو
للحماية وطلب النصرة.
إن المعطيات والأحداث المصاحبة والسابقة واللاحقة لصلح الحديبية توضح
القواعد التي تحكم سلوك المسلمين مع الأعداء، وتحدد الإطار الذي يمكن على
ضوئه أن يتم التعامل معهم سلماً أو حرباً، لهذا: فلابد من استعراض أهم الأحداث
والمواقف التي سبقت التوصل إلى عقد الهدنة وليس الصلح، فهناك فرق كبير بين
الهدنة التي تمت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصلح كما هو حادث الآن
مع اليهود المغتصبين لأرض المسلمين؛ فالصلح الذي تم مع بعض قادة الدول
العربية إنما هو استسلام كامل وإقرار للمغتصب باغتصابه، بل ومكافأة للعدو بفتح
البلاد العربية والإسلامية ليغزوها وينهب خيراتها من خلال: التمكين له اقتصادياً،
والتطبيع السياسي الكامل معه، مع العمل على مسخ العقل المسلم وسلبه مقومات
وجوده الثقافي والفكري فيما يعرف بـ «التطبيع الثقافي» ، هذا الصلح الذي يتم
ويطلق عليه اسم (عملية السلام) ، وترتفع عقيرة الداعين و (المطبلين) له بزعم أن
ما يتم الآن من صلح إنما هو تطبيق لما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-
واتباع لمنهجه! ، بل إن من المضحكات المبكيات أن يستشهد حاملو لوائه بقوله
(تعالى) : [وإن جنحوا للسلم فاجنح لها] بعد نزعها من سياقها في الآية وفقاً
لقاعدة: (لا تقربوا الصلاة..) .
كيف نفهم صلح الحديبية؟ :
إن الأحداث السابقة لتوقيع الصلح مع قريش التي توضح الظروف المساعدة
لحصول الصلح تمثلت في الأمور التالية:
أولاً: حينما علمت قريش بمقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثار ذلك
حميتها؛ فجمعت قواها من أجل محاربته -صلى الله عليه وسلم-؛ فاستعانت
بحلفائها من الأحابيش وثقيف، فتدافعوا خارج مكة لملاقاة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وفي مقدمتهم الفرسان بقيادة «خالد بن الوليد» بمئتي فرس، وقد عمد
«خالد» بأن وقف أمام المسلمين في قبلتهم لغرض الانقضاض عليهم عند قيامهم
بأداء الصلاة، ولهذا: فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائد فرسانه «
عباد بن بشر» (رضي الله عنه) فتقدم ووقف إزاء «خالد» وَصفّ أصحابه خلف
المسلمين لابسين الإحرامَ، وبعد أن حان وقت صلاة الظهر أذن «بلال» (رضي
الله عنه) وأقام الصلاة، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم، ولهذا: فقد
وضع المشركون خطتهم في الصلاة الثانية على أن يهجموا على المسلمين أثناء
صلاتهم للعصر، ولكن الله أمر نبيه وشرع له صلاة الخوف، فأفسد ذلك على
قريش خطتها [2] ، إذ كان من أهم الدروس التي حصلت من تشريع صلاة الخوف
توجيه الانتباه إلى (العنصر العقدي في الصراع مع العدو) الذي يراد إبعاده بالصلح
مع العدو في عصرنا الحاضر، فإبراز شعيرة الصلاة خلال المواجهة مع العدو
والإصرار على أدائها إنما هو توجيه للأمة بعد رسولها بعدم التهاون في أي مبدأ،
حتى في أحلك الظروف المواجهة العسكرية فما بالنا في عقد هدنة أو معاهدة؟ ! ؛،
فأي صلح أو معاهدة تبرم مع الأعداء تتضمن في أبعادها وشروطها تنازلاً ولو
ضمناً عن القيم والمبادئ الإسلامية، تعتبر هذه المعاهدة أو الصلح اتجاهاً فاسداً،
مثل شرط ضرورة (التطبيع الثقافي) الذي يصر اليهود والنصارى على مطالبة
المسلمين بتنفيذه؛ وذلك من خلال محاربة (مفهوم الولاء والبراء) بطمس الشخصية
الإسلامية، وفصل الدين عن الدولة، ومحاربة أي توجه لتثبيت ركائز التميز
الإسلامي.
ثانياً: استشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من معه من المسلمين:
ماذا يفعل بعد أن خرجت قريش لمنعه من أداء شعيرة العمرة؟ ، فأشار عليه
الصديق (رضي الله عنه) قائلاً: «يا رسول الله، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد
قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه» ، لقد أخذ الرسول -
صلى الله عليه وسلم- بهذا الرأي فقال: «امضوا على أمر الله» [3] ، فساروا،
وتجنب -صلى الله عليه وسلم- المواجهة مع قريش كما تحكي تفاصيل ذلك كتب
السيرة لا لضعف وعجز حيث لم يخرج من المدينة بقصد فتح مكة وانتزاع الزعامة
من قريش بل ليظهر للناس أن ما يدعو إليه إنما هو امتداد للدين الذي كان عليه
العرب منذ «إسماعيل» (عليه السلام) ، والذي من أهم شعائره تعظيم مكة حيث
بيت الله الحرام، وهذا الأسلوب الذي عمد إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
سيدفع كثيراً من العرب إلى إعادة النظر في العداء تجاه هذا الدين؛ لهذا: ندرك
سر قَسَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيقبل بأي صلح يضمن حقن
الدماء وتحقيق تعظيم الحرمات [4] ؛ ولهذا: لا يجوز الصلح مع الأعداء إذا لم يكن
فيه تطلع إلى وضع أفضل للدعوة أو الأمة.
ثالثاً: أسلوب المفاوضات الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع
قريش، وكيفية التعامل مع العدو لتحقيق ما يصبو إليه المفاوض المسلم: فمن
الأمور التي أبان عنها أسلوب المفاوضات الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- الذي ينبغي اتباعه: تحديد الغاية والهدف من الصلح على أن يرتبط الهدف
بخدمة المنهج الاعتقادي لدولة الإسلام والمسلمين؛ فلو نظرنا إلى غاية الصلح الذي
عقده الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قريش نجد أنه قد حقق غاية وهدف
الصلح، وهو: اعتراف قريش لرسول الله بحق المسلمين في تعظيم البيت وزيارته، وقبول قريش لأن يعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت، وذلك اعتراف
بالدعوة التي ينادي بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعودة إلى أصل دين «
إبراهيم» و «إسماعيل» (عليهما السلام) ، وإزالة ما علق به من شرك وعبادة
للأوثان، ولكن خوف قريش على مكانتها الدينية جعلها تتعصب ضد السماح
للرسول -صلى الله عليه وسلم- بدخول مكة لأنها في حرب معه، وسبب هذه
الحرب معروف لدى العرب؛ فالسماح له يعني بالضرورة الاعتراف بقوة الدين
الجديد؛ لهذا: حاولت قريش إيجاد المخرج فيما أوقعها فيه رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فأخذت تبعث الرسل من حلفائها، فبعثت «الحليس بن علقمة» سيد
الأحابيش، وقد كانت هذه القبيلة في حلف مع قريش، وهم معروفون بشدة تعظيمهم
للبيت، ولهذا: فقد عمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما علم بقدومه إلى
ممارسة سياسة إضعاف ارتباطه بقريش، وذلك بهز مشاعر التأله لديه؛ فقد قال -
صلى الله عليه وسلم- حينما رآه: «إن هذا من قوم يتألهون وفي لفظ: يعظمون
الهدي، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه» [5] ، فلما رأى «الحليس» الهدي
يسيل عليه بقلائده من عرض الوادي، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله،
واستقبله الناس يلبون قد شعثوا، صاح وقال: «سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن
يُصدوا عن البيت، وأن يحج لخم وجذام ونهد وحَمْير ويمنع» ابن عبد المطلب «!! هلكت قريش ورب الكعبة، إنما القوم أتوا عُمّاراً» [6] ، وبمجرد أن رأى هذا المشهد رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إعظاماً لما رأى، ورجع إلى قريش يدعوها إلى السماح للمسلمين بالاعتمار ومهدداً لها بالخروج من الحلف معها.
لقد كان لهذا الموقف تأثير في زعزعة التحالف بين قريش والأحابيش، وإن
ما قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجاه «الحليس» يمثل منهجاً لقادة
الأمة عند عقد الصلح والهدنة مع الأعداء بالاستفادة من التناقضات الاجتماعية
والثقافية في معسكر الأعداء لتحقيق الغاية من الهدنة.
ثم عمدت قريش إلى بعث عدة رجال، منهم: «عروة بن مسعود الثقفي»
زعيم ثقيف و «سهيل بن عمرو» الذي تم على يديه الصلح، ومن جانب
الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد بعث عدداً من الرسل، ومن أهمهم: ...
«عثمان بن عفان» (رضي الله عنه) الذي اختاره -صلى الله عليه وسلم- لمكانته في قريش، وبعث معه كتاباً إلى أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب وإنما جاء معتمراً، وقد بقي «عثمان» في مكة وشاع لدى المسلمين بأنه قُتل، ولهذا: اتخذ الرسول القائد قراره بالقتال، وحتى يضمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تماسك الصف المسلم، وحتى لا يدخل حرباً مع قريش إلا بعد أن يضمن قبول صحابته بدخول الحرب، طلب صالبيعة من المسلمين على الموت.
رابعاً: محاولة قريش التحرش بالمسلمين بهدف إثارة الحرب، وذلك من
خلال إرسال مجموعات من الرجال لمهاجمة المسلمين، وكان موقف الرسول -
صلى الله عليه وسلم- التأني والمصابرة؛ لتحقيق الهدف الذي جاء من أجله،
وإفشال هدف قريش من دعواهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما جاء
محارباً؛ وقد وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجموعة من أتباعه بقيادة «
محمد بن مسلمة» (رضي الله عنه) لحراسة المسلمين، وكان من يقظته أن تمكن
من إفساد خطة قريش؛ حيث تمكن (رضي الله عنه) من القبض على من أرسلتهم
قريش إلا «مِكْرَز» الذي أفلت، وقد حبسهم رسول الله صحيثُ ثارت ثائرة قريش، فجاء جمع منهم ورشقوا المسلمين بالنبل والحجارة، وقد كانت غاية قريش من
هذه المحاولات سبر قوة المسلمين وتحديد مدى استعدادهم.
ولهذا: فإن من أهم الأمور التي ينبغي الانتباه إليها عند الرغبة في تحقيق
هدنة أو صلح لخدمة الأهداف الاستراتيجية للأمة: إشعار الخصم بالقوة والاستعداد
والحيطة بقصد إضعاف الجانب النفسي لدى العدو، فشعور العدو بالتفوق والقدرة
على تملك زمام الأمور يجعل الصلح يخدم مصلحته.
وكذلك فإن الهدف الذي يمكن فهمه من أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم-
البيعة من أصحابه على الموت وليس على مجرد القتال هو: إدخال الوهن في
قلوب قريش، حيث أوضح ذلك لهم أن الرسول صلن يرجع إلا وقد ناجزهم وأن
أتباعه الذين بايعوه بيعة الموت لن يتراجعوا؛ لأنه لا يمكن أن يُهزم قوم استحبوا
الموت على الحياة.
إن قرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحرب عندما ظهرت من قريش
بوادر خيانة لدرس عملي ينبغي فهم مراميه وغاياته، فالهدنة أو الصلح مع العدو إذا
لم يكن من مركز القوة فإن حقوق الأمة ومقدراتها تصبح هدراً، ومن هذا: ما فعله
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإعلان الحرب على العدو حينما شاع أن
«عثمان» (رضي الله عنه) ومن استأذنه من الصحابة في الذهاب إلى مكة قد
قتلوا، فهو لم يتردد في إعلان الحرب، لكن في زمن الانهزام يقوم العدو بالقتل الجماعي والتشريد والهدم للمنازل بعد توقيع الصلح أو ما يعرف
بالسلام! ! فتمتد الأيدي الذليلة التي بعدت عن منهج الله إلى العدو الذي تقطر أياديه بدماء الرجال والنساء والأطفال، ويستمر في سرقة الأرض والقيم بدون أن ... تثور الكرامة في النفوس، فتجابه العدو بما يستحقه، ولكن بدلاً من ذلك تتوجه إلى سفك دماء شعبها وبالأخص الوجوه المتوضئة التي تعلن أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنحرفين والخائنين ممن يتكلمون بلغتنا وهم من جلدتنا يمارسون النفاق بدون حياء! ! .
إن الصلح مع العدو إن لم يقترن بالقوة الحامية له ويخدم مصالح الأمة القريبة
والبعيدة فإنه صلح محرم شرعاً، وليس له إلزام، ولا يمكن الاستشهاد بأي وجه
بصلح الحديبية والادعاء بأن في الاستسلام أسوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمثل هذا الرأي فيه مساهمة في إذلال الأمة ووضع القيود عليها، وإضعاف
روح المقاومة لديها، وممارسة التحريف المتعمد لعناصر تكوين شخصيتها المسلمة.
خامساً: لقد كان من نتيجة البيعة أن أرسلت قريش جمعاً من زعمائها بقيادة «
سهيل بن عمرو» أتوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتذرون له
ويوضحون حقيقة الأمر، ويطلبون إرسال من أسرهم الرسول -صلى الله عليه
وسلم-، فأصر -صلى الله عليه وسلم- على فك أصحابه أولاً، فبعثوا بمن كان
عندهم، فأطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراح من أسرهم.
في هذه الواقعة إشارة وتأكيد إلى الحزم والقدرة على تحديد مسار الصلح
ليكون لصالحه، وليس كما فعله الذين يصالحون اليهود مع بقاء الآلاف من
المعتقلين في سجون العدو، واستمرار المداهمات والقتل ونسف بيوت المرتهنين في
فلسطين؛ فتُهدم عليهم وتصادر أملاكهم، ومع ذلك يتم التوقيع على الصلح الذي
تصرح كل كلمة فيه بأن ما يجري ليس صلحاً ولكن استسلاماً وخيانة وتفريطاً في
حق الأمة.
سادساً: لقد كانت أجواء محادثات الصلح وما تم فيها من مناقشات وردود
الأفعال في معسكر المسلمين على ما تم التوصل إليه، توضح أمرين:
الأول: أن الصلح يخدم الاستراتيجية الخاصة بتحقيق الأهداف التي ترغب
الأمة في تحقيقها، وأن شروط الصلح غير متضاربة مع الأهداف والغايات العليا
للسياسة العامة للدولة المسلمة، بحيث يستخدم الصلح للتمكين للأمة.
الثاني: أن التنازلات التي تُمنح لا تتعارض ولا تتناقض مع مصلحة الأمة
على أن تكون هذه التنازلات شكلية أكثر منها فعلية وإن ظهرت في بادئ الأمر أن
فيها تنازلات كما سنوضحه عند الحديث عن محتويات الصلح.
وإن من المبكيات أن اليهود في هذا العصر عندما وقعوا «الصلح» ! ! مع
العرب فيما عرف بـ «كامب ديفيد» ، أو ما عرف بـ «الحكم الذاتي» ، أو «
الصلح مع الأردن» ، قد انتهجوا في استراتيجيتهم في وثائق الصلح ما استخدمه
الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قريش، حيث حققوا مكاسب أمنية استراتيجية
مع عدم تقديم تنازلات تؤثّر على أمنهم أو هويتهم.
إن قراءة مكونات الصلح مع أي طرف من الأطراف العربية لتبدي مدى بُعْد
النظر والدهاء اليهودي الذي قابله استهتار واستخذاء من قِبَل الطرف العربي.
ومما يلاحظ: أن من أهم الأمور التي ركزت عليها قريش: إبقاء نوع من
الهيبة الزائفة لواقعها؛ فقد طلبت أن لا يدخل المسلمون مكة هذا العام على أن يعود
المسلمون العام القادم لأداء العمرة، وهذا ما فعله اليهود مع العرب بإعطائهم مكاسب
شكلية، مثل: انسحاب عن أراضٍ مجردة من السلاح وتقع تحت مراقبة قُوى تحت
السيطرة والنفوذ اليهودي، أو سلطة شكلية يتحكم فيها اليهود، أو استئجار لأرض
وبقاء اليهود مستغلين لها.
وللحديث بقية ...