مجله البيان (صفحة 1913)

آمال المسلمين.. والمنظمات الدولية

[كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه]

عثمان جمعة ضميرية

مدخل:

موقف الغرب والشرق من قضايا المسلمين موقف واضح للعيان: إهمال

واستهتار وسلبية مطلقة، وسبق أن تطرقت المجلة لمواقف العالم ممثلاً في هيئة

الأمم من قضايا المسلمين بشكل مفصل في مقال سابق، وفي تناول المجلة لأحوال

وقضايا بلاد المسلمين بعامة.

وهذا المقال رؤية تاريخية قريبة لمنطلقات هيئة الأمم وسابقتها عصبة الأمم،

وأنهما إنما أنشئتا للسيطرة واستعباد الدول الكبرى لغيرهم وتمرير ما يريدونه من

مواقف وقرارات كما أشار إلى ذلك كثير من الباحثين والمتخصصين كما سنرى.

-البيان-

1- عندما خلق الله (تعالى) الإنسان جعله ينزع إلى الحياة مع الآخرين

والالتقاء بهم، إذ إنه لا يستطيع أن يعيش منعزلاً بمفرده عن بني جنسه، يستوي

في ذلك الأفراد والجماعات والأمم والدول، ومن هنا نشأت العلاقات بين الأمم

البشرية.

وقد جعل الله (تعالى) الناس شعوباً وقبائل وميّز بينهم ليكون هذا التمايز سبباً

للتعارف والتعاون، فقال (سبحانه) : [وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا]

[الحجرات: 13] .

ومن هنا كان للأمم في علاقاتها مع غيرها قواعد مرعيّة ومبادئ تعارفت

عليها منذ العصور الغابرة، وعليها بنت أساس العلاقات في حالي السلم والحرب،

حتى قال مونتسكيو: ما من أمة من الأمم إلا ولها في حقوق الدول نظام، حتى

قبائل (إركوا) الذين يأكلون أسراهم لهم نظام من هذا القبيل؛ فإنهم يرسلون رسلهم

ويستقبلون رسل غيرهم ويعرفون أحكام السلم والحرب، ولكن من سوء أمرهم أن

نظام حقوقهم غير مبني على الصحيح من الأصول [1] .

2- وجدت هذه القواعد بوجود الجماعات الإنسانية ذاتها، وقبل أن تكتسب

صفة الدولة كما يعرفها القانون أو النظام الدولي الحديث فكان ذلك بداية لنشأة

القانون الدولي على تسامح وتجاوز في التعبير لأن القانون الدولي بمعناه الحديث لا

يتجاوز عمره ثلاثة قرون؛ منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي، على إثر

المنازعات الأوربية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا سنة 1648م التي تعتبر

فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية، والنقطة التي يبدأ عندها تاريخ القانون الدولي في

وضعه الحالي حيث نشأ القانون الدولي الحديث أصلاً في أوروبا ثم امتد سلطانه

خارجها إلى الدول التي تأثرت بالمدنية الأوروبية، ويؤكد علماء القانون الوضعي

النشأة الكاثوليكية للقانون الدولي، وأن حركة التأليف والبحث والنشر في القانون

الدولي كانت مطبوعة منذ نشأتها بالطائفية والانحياز، وسادتها المصالح الرئيسة

للدول النصرانية، فبدت أحكام هذا القانون مسُودة لا سائدة، ومسوّغة لتصرفات

الدول الاستعمارية، مصبوغة بالإقليمية والطائفية والعنصرية [2] .

وكانت هذه النشأة للقانون الدولي مرتبطة بنشأة الدول الأوروبية واستقلالها

عن سلطة البابا الدينية، وبالتحولات الاقتصادية والسياسية التي واكبتها حيث

ظهرت فكرة العائلة الدولية وهي تعني مجموع الوحدات الدولية، وأهمها الدول ذات

السيادة التي يقع عليها إلزام القانون الدولي، وليست هذه الجماعة من الوجهة

القانونية مستقلة عن الدول الأعضاء فيها، وإنما هي تعبير عن صلاتٍ يربط بينها

أنواع من الترابط.

وسبب نشوء هذه العائلة الدولية هو تمكين الدول النصرانية وحدها من أن

تمتلك أراضي الجماعات غير النصرانية وأن تبطش بها وتستنزف خيراتها، فلذلك

كوّنت فيما بينها عائلة دولية أوروبية مسيحية [3] .

3- وفي هذه المرحلة كانت النصرانية هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات

الدولية، ولذلك أعلن التحالف الديني في المؤتمر الأوروبي المقدس! عام 1815م

عزم المتعاقدين القوي على ألا يتخذوا لسياستهم وتسيير شؤونهم إلا قواعد

النصرانية؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم مندوبين عن العناية الإلهية لمباشرة الحكم وأنهم

أسرة واحدة، رغم أنهم يحكمون بلداناً متعددة ويتبوّءون عروشاً متفرقة، ومن هنا

قال المعتمد البريطاني في مصر أيام الاحتلال الإنجليزي: إن واجب الرجل

الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية (!) على رأس هذه البلاد مصر هو تثبيت

دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن، وإن كان من الواجب منعاً لإثارة

الشكوك ألا نعمل رسمياً على تنصير المسلمين، وأن نرعى المظاهر الزائفة (!)

للدين الإسلامي كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك.

وفي هذه المرحلة أعطى البابا بركاته! لكل نصراني يحاول أن ينتقم من

الكفرة المسلمين! ، واستهدفت حركة الكشوف الجغرافية تفريق العالم الإسلامي

واكتشاف طرق للتجارة مع الشرق لا تمرّ بالعالم الإسلامي، وهكذا برّر رجال الدين

النصراني المد الاستعماري بهدف ديني هو القضاء على الإسلام، ولم يكن عندهم

أي حرج من توجيه أي ضربة للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية للدول الإسلامية

والاستيلاء على أراضي الدول غير النصرانية واستعباد أهلها، لأن الأوروبي يشعر

أنه سيد العالم.

ومن ناحية أخرى كان التحالف المقدس! امتداداً للحروب الصليبية، إذ إن

التحالف نصّ على تثبيت قواعد الأخلاق النصرانية، وقام عمل الدول النصرانية

شاهداً على ذلك، حيث تدخلت الدول النصرانية لمساعدة اليونان في ثورتها على

الدولة العثمانية، كما ساعدت وساندت حركات الانفصال التي قامت بها أيضاً:

رومانيا، والصرب، وبلغاريا وكانت ولايات في الدولة العثمانية.

ومن أقوى الأدلة على ذلك أيضاً: ما كتبه أحد ساسة فرنسا في عهد لويس

الرابع عشر حيث قال: إن على فرنسا أن تنتهز فرصة السلام الذي تنعم به أوروبا

بعد حرب السنوات السبع، وتنقضّ على الإمبراطورية العثمانية لتقيم صرح

المسيحية وتستخلص الأراضي المقدسة، وإن مشروع قناة السويس مشروع صليبي، ويجب أن تكون ملكاً مشتركاً للعالم المسيحي [4] .

4- ثم في مرحلة تالية اتخذت الدول الأوروبية أساساً جديداً للعلاقات الدولية،

وهو المدنية، بمعنى أن الدول المتمدّنة يصح أن يعترف لها بالشخصية الدولية وأن

يكون لها حق التملك وأن تكون عضواً في العائلة الدولية، وذلك لأنها اضطرت

لاعتبارات تتعلق بالتوازن الدولي إلى قبول الدولة العثمانية في معاهدة باريس

(1856م) عضواً في العائلة الدولية، فتشارك الدول النصرانية في الحقوق

والواجبات الدولية على أساس المساواة، غير أن هذه العضوية ظلت ضعيفة بالنظر

إلى استمرار نظام الامتيازات الأجنبية فيها، وبعد نصف قرن من الزمان سنحت

الفرصة أيضاً لليابان، ويومها قال دبلوماسي ياباني مخاطباً العالم الغربي بتهكم:

حينما تحقق لكم أننا على الأقل نتساوى معكم في علوم الدمار سمحتم لنا بالجلوس

على موائدكم باعتبارنا متحضرين! وكان ذلك عقب انتصار اليابان على روسيا

القيصرية [5] .

ولكن لم يكن يبلغ هذا الضرب من المشاركة على الصعيد الدولي أن يكون حقاً

للدول غير النصرانية، بل كان منتهى أمره أنه عطاء تمنحه الدول النصرانية

لغيرها بشروط، أهمها: أن تكون الدولة التي لا تدين بالنصرانية ذات حضارة

ومدنية بمفهومها النصراني؛ فما زال الفكر الأوروبي أسير الرواسب الاستعلائية

التي ورثها عن الأجداد (الإغريق والرومان) التي ظلت عميقة تحت التربة

الأوروبية تكشفها عوامل التعرية من حين إلى حين، كما في تصريح رئيس

الحكومة الهولندية حيث يقول عام 1956م: إن الدول المسيحية وحدها هي التي

تستطيع أن تميز بين العدل وغير العدل، وبين الحرب المشروعة وغير المشروعة

وتساءل عما إذا كان المسلم أو الهندي يستطيع أن يعي معنى العدوان، لأن إدراك

مثل هذا المعنى قاصر على الدول ذات الثقافة المسيحية! [6] .

واستغلت الدول النصرانية الأوروبية شعار المدنية لترتكب به أفظع الجرائم

على البشرية، فاحتلت أقاليم الدول الأخرى، وراحت تستغلها أبشع استغلال،

فتفسد عقائدها وأخلاقها، وتستنزف خيراتها ومواردها، وتسخر أبناءها في العمل

والصناعة.

وكانت هذه الدول تتسابق فيما بينها على التسلط لتحصل الدولة الكبرى منها

على أوسم قطعة في الفريسة الصريعة (من بلدان الشرق الأدنى والأوسط والأقصى)

وأذكى ذلك نيران الأخذ بالثأر، فاندلعت الحرب العالمية الأولى (1914م) التي

تعرضت فيها البشرية لأهوال قاسية، ولما هدأت العاصفة واجتمعت الدول الأوربية

في مؤتمر باريس (1919م) ، لإعادة بنيان الدول الذي كان على وشك الانهيار،

عندئذ أصبحت النغمة الجديدة هي السلام الذي يخفي وراءه ما يخفي، حيث جاء

نظام الانتداب ليُطْلَى به نظام الاستعمار القديم وليخاتل الأمم والشعوب التي وُعدت

بالحرية والاستقلال، فمصر تحت الانتداب الإنجليزي، وكذلك فلسطين.. وسورية

ولبنان تحت الانتداب الفرنسي ...

5- وكان من نتائج مؤتمر باريس السابق النص على إنشاء عصبة الأمم

المتحدة لتكون أداة لحفظ السلام العام ولتوطيد العلاقات بين الدول، وتعود الجذور

التاريخية لنشوء عصبة الأمم إلى المدرسة الكاثوليكية في الفكر الأوروبي، التي

تعكس الروح أو الطبيعة الرومانية القائمة على العنف وعبادة القوة المادية والتعصب

العقدي والروح الصليبية ضد العالم الإسلامي، ومن دعاة هذه المدرسة بيير ديبو

من رجال القانون الفرنسي، ففي كتابه استرداد الأرض المقدسة يدعو إلى تكوين

عصبة أمم تكون قاصرة على الدول الأوروبية وقادرة على محاربة العالم الإسلامي

لاسترداد فلسطين من أيدي المسلمين لتكون في يد الأوروبيين.

ثم جاء الوزير الفرنسي سالي سنة 1603م بمشروعه لإنشاء جمهورية

مسيحية كبرى تضم شعوب أوروبا المسيحية ما عدا الأرثوذكسية، ثم جاء مشروع

الفيلسوف الألماني ليبتي لتكوين اتحاد بين الدول الأوروبية حتى تتمكن من محاربة

الدولة العثمانية واقتسام ممتلكاتها بين الدول الأعضاء [7] .

6- ولئن فشلت عصبة الأمم فيما زعمته من حفظ السلام الدولي، وعصفت

بها الأعاصير السياسية الدولية، فإن التركة آلت إلى هيئة جديدة بعد انتصار الحلفاء

في الحرب العالمية الثانية حين منحت دول مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945م

شهادة ميلاد هيئة الأمم المتحدة لتكون محط آمال العالم أجمع، يتطلع إليها راجياً أن

تحقق للمستقبل ما أخفقت عصبة الأمم في تحقيقه في الماضي، ولكن الهيئة الدولية

الجديدة جاءت لتكوين ديكتاتورية من الدول الكبرى لتسيير السياسة العالمية، ويشهد

لهذا: أن الدول الخمس ذات التمثيل الدائم في مجلس الأمن (وهي: الصين وفرنسا

وبريطانيا وأمريكا وروسيا) لكل منها حق الاعتراض على أي قرار يصوت عليه

في مجلس الأمن، وعندئذ يمتنع المجلس من إصداره، ويصير القرار كأن لم يكن،

مهما تكن أغلبية الأصوات التي وافقت عليه في الأصل، وواقع الحال كما هو

مشاهد منذ نشأتها يؤيد هذا، فكم من المشاريع والقرارات التي اتخذت من أجل

بعض قضايا المسلمين في العالم وما أكثر هذه القضايا! أو صوت عليها، فكان أن

أخرج أحد الأعضاء الكبار لسانه لذلك القرار فأصبح كأنه لم يكن! وكم تواطأ

الجميع على قضايا المسلمين وتآمروا ضدهم بصورة من الصور، بل بكل الصور،

أبَعد هذا كله وبعد معرفة أصل ونشأة هذه المنظمات الدولية وجذورها التاريخية

والفكرية والسياسية يمكن أن يعلق المسلمون عليها الآمال لتحل مشكلاتهم أو

لتنصفهم من المعتدين عليهم؟ !

وهذه قضية فلسطين، وقضية البوسنة والهرسك التي يصورون فيها القضية

أنها صراع بين المسلمين والصرب (هكذا.. الصرب وليس النصارى! وحتى في

وسائل الإعلام العربية والإسلامية) ، فهذه القضية شاهد ناطق على تآمر الجميع

على قضايانا تحت مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولي والشرعية الدولية وحفظ

السلام، ونحن مساكين كم نتهافت على هذا السلام الذليل الرخيص؟ ، وتلتقي قمة

الإمبريالية مع ذروة الشيوعية في هذا التآمر، فيكتب الرئيس الأمريكي السابق

نيكسون في مجلة الشؤون الخارجية قائلاً: روسيا وأمريكا يجب أن تعقدا تعاوناً

حاسماً لضرب الصحوة الإسلامية [8] .

7- ولكن متى يمكن للمسلمين أن يكون لهم كلمتهم ودورهم في هذه المنظمات

الدولية؟ ومتى يحملون الآخرين على احترامهم وهيبتهم؟ .. إن ذلك لا يكون إلا

عندما يعود المسلمون عودة صادقة إلى مصدر قوتهم وعزتهم، وهو دينهم الذي

يأمرهم بإعداد القوة بكل معانيها العقدية والأخلاقية والمادية، عندئذ يُرهبون عدو

الله وعدوهم وآخرين من دونهم، ويقولون كلمتهم المسموعة جهاداً مباركاً في سبيل

الله لتحرير البشرية كلها، مع جهادهم بقتال أعداء الله، وأظنهم يدركون ذلك كما

يدركه غيرهم من الأوروبيين على ما يرويه بعض الكتاب المسلمين الذين التقوهم

في مؤتمر دولي سنة 1956م حيث قال مسؤول أوروبي كبير وكان جرح فلسطين

حاراً جداً قال: يا سيدي! أنتم العرب أذكياء، ولكنكم قوم لا تُخيفون، حينما يوجد

عندكم علماء قادرون على تدمير الأرض في (59) دقيقة كما ادعى الإنجليز بدلاً من

(60) دقيقة كما ادعى الأمريكان، عندئذ يحسب لكم حساب، أما إذا كنتم بحاجة إلى

ألف بندقية لتوزيعها على رجال الشرطة وكنتم مضطرين لشرائها من بلجيكا ثم

تَنكُل بلجيكا عن الصفقة وتبقى شرطتكم بلا بندقيات، فليس من حقكم أن تسألوا

العالم أن يعيد إليكم فلسطين! ! .

وصدق الله العظيم: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..] [الأنفال: 60]

[والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه

وما هو ببالغه] [الرعد: 14] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015