مجله البيان (صفحة 1907)

الكتابة بوصفها فعلا بحسبها مقاومة

كتابة

الكتابة بوصفها فعلاً

بحسبها مقاومة

د. مصطفى السيد

إن المجرمين إذ يطالعون النص المكتوب، فإن براعته وقوته تفعل في

نفوسهم وعقولهم فعلاً فاتكاً وإذ هم على الفور يفصحون عن سوء ما صنعوا، وقد

يُقلعون عن سوئهم أيضاً.

ليس على الأرض أخطر ولا أقوى من كاتب يعيش من أجل فكره، فهو

يُركز كل وجوده في فكره كما تتركز أشعة الشمس في عدسة ليستطيع أن يُحْدث

مثلها نوراً وهّاجاً ساطعاً.

تُعَدّ الكتابة في عصرنا بل وفي كل عصر إحدى أهم الوسائل التي يمكن من

خلالها قراءة مجتمع ما بتفاصيله وهمومه؛ تقرأ حياة الناس اليومية وأحلامهم،

وتحاول أن تشير إلى مواضع الخلل والألم، لأنها لا تخاف القضايا الساخنة أو

الحرجة، وإنما تلج إلى أعماقها، والكتابة حين تنهض بهذا الدور تقول الكثير،

وتعطي الكثير، إذ تصبح كالمرآة التي يرى الشعب فيها نفسه، والإنسان حين يرى

نفسه بوضوح لابد أن تتحرك طاقاته ومشاعره ليصبح أكثر وعياً. هذه إحدى

الرسائل التي تتطلع الكتابة إلى توصيلها لأن النص المكتوب ليس إلا رسالة باتجاه

القارئ، فإذا فقد مضمونه الجاد ألغى نفسه وقارئه.

إن إيماننا راسخ بأن الكتابة قوة خفية آسرة، تدفعنا إلى الاكتمال الصعب في

مواجهة النقص الملازم للعاجزين والكسالى، إنها الملاذ الذي نشيده لنرفع به القبح

والحصار والتشتت، وكم هو مدين الكاتب لهذا الإيمان الطامح الذي يدرأ عنا بفضل

الله الكثير من الأذى الذي يواجهنا.

إن الكتابة الأصيلة يكفيها أن تحول بيننا وبين الكتابة التي تكون حسب

الحجوم والأيام والمناسبات والمواسم.

الكتابة هي الهوية الفكرية للإنسان المثقف يُثبِتُ من خلالها وجوده، ويُبرز

عبر سطورها حضوره، هو يكتب فهو موجود، ولئن كان ميلاد الإنسان اللغوي

يَثْبُتُ بالكلام، فميلاده الفكري يُثَبّتُ بالكتابة.

والكتابة الصادقة تمتزج بمواقف الإنسان امتزاج الدم بالشريان وهي ليست

بياضاً في سواد، وصحفاً تقرأ أو لا تقرأ، بل هي شهادة على العصر، واستكشافٌ

لسبل التوصيل والتواصل مع طائفة من الناس جعلت من الحروف قَُوْتَها وقُوّتها،

تبتهج بالنص الجديد المضمخ بطيوب الواقع لا المتضخم بالحديث عن زائف الفواقع، النوازل المفجعة.

الكتابة الصادقة جُهْدٌ وجهاد لأنك:

لا تستطيع أن تكتب خارج دمك

نعبر النهر فنشمر عن سيقاننا

في الكتابة

لابد أن نشمر عن أرواحنا

لأن الكُتّاب الذين خافوا

أصبحوا كتبة

والشجعان مع الكرام البررة

عندما يضحي الكاتب بسلطته يغدو كاتبَ السلطة، كاتب الوظيفة والارتزاق

لا كاتب المواجهة والاستشهاد.

قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : وتجد أئمة أهل العلم من أهل البدعة

والفرقة ... يصنفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء ويتقربون إليهم

بالتصنيف فيما يوافقهم [1] .

مثل هذه الكتابة تكون كتابة اللحظة الطارئة بأعراضها وصدقها الواقعي،

ولكن أبعد ما تكون عن أن تعكس جوهر اللحظة وترسباتها السياسية والفكرية

والفنية التي تمنحها بقاءً شبه أبدي خارج اللحظة التي أنتجتها.

مثل هذه الكتابة مهضمات فكرية وليست غذاء، تمارس فيها عمليات

التنظيمات والتشذيبات الداخلية للخطاب، التي تنتهي في ظل ظروف من الإقصاء

وضروب من الاستعباد إلى إقامة مساحات الصمت والإضمار، وساحات من

الإفصاح والإعلان تحكم ما يجب أن يقال، وما يخضع للتجديد والكشف والابتكار

وما يتبع نظام التعقيب والتبرير والتكرار.

هذه الكتابة: تحصيل حاصل، كلام دون إشارة، قول دون دلالة، أصوات

بلامعان، كمٌ دون كيف، بدن بلا روح، مياه راكدة دون مصب، تنشد الأمان

والسلامة، مهنة رسمية، تمّحي الشخصية فيها، لا تتغير من زمان إلى زمان، ولا

تتبدل من مكان إلى مكان، ولا من شخصية إلى شخصية، ولا من قضية إلى

قضية.

هذه الكتابة: أدت إلى تضاؤل الاهتمام الشخصي والشعبي وفقدان الثقة في

الكاتب والمكتوب على السواء.

أما الكتابة الجادة فقد تفتح على المرء أبواب الجحيم عندما تلقي به بين أشداق

النقاد الذين لا يرقبون في مخلص إلا ولاذمة، ولكنها تبقى الكتابة التي تروي حقول

الانتظار بقطرات الأمل لأنها تهطل على النفوس بأشعة الوعي، فإذا لامست شغاف

القلب اهتزت وربت وأنتجت من تجاوب القراء بقدر ما تحمل من عناء الكاتب

وعنايته.

هذه الكتابة والموت فرسا رهان وقرنا ميدان، لأنها شهادة لله وشهادة على

الناس وشهادة في سبيل الله، حسبها من الأثر الحميد إشاعة تيار جديد من الأفكار

الحقيقية الصادقة، إنها ليست فن ارتياد إمكانات اللغة فقط، وليست كذلك دخول

الأبواب المفتوحة، بل فتح الأبواب المغلقة والعقول المقلقة أيضاً.

هذه الكتابة: لا تقف عند حدود التفسير فقط، بل تستشرف تخوم التغيير،

وآفاق الغد، لأنها ليست حذلقة فكرية، تدعي وجود عمق مفقود، أو تغطي خواءً

مشهوداً.

هذه الكتابة: يكون الكاتب فيها هادياً ومعلماً، ولا تكون منازلة في معركة

(دونكوشوتية) وهمية، إنها النص الضد لكتابة التسلية التي رفضها الكاتب الذي

صرخ مستقيلاً من قيودها.

سيداتي آنساتي سادتي:

سلبتكم عشرين عام

آن لي أن أرحل اليوم

وأن أهرب من هذا الزحام

وأغني في الجليل

للعصافير التي تسكن عش المستحيل

ولهذا: أستقيلْ.. أستقيلْ.. أستقيلْ.

الكتابة المسلية تطرد بحروفها قطرات الأمل لتؤسس لعبودية فكرية عمادها

نصوص تُرَص ولا تقول شيئاً، تسد خلة الكاتب إلى الشهرة الكاذبة وسحت المال،

وتسد عقل القارئ ونفسه لما حوته من ثقافة السخافة، وسخافة الثقافة.

الكاتب العضوي المنتمي إلى عقيدة الأمة لا يضع قلمه في يده فقط بل وفي

قلبه أيضاً، يفعل ذلك ليواجه كتائب المرتزقة، وفصائل ذوي الجعائل ممن

يقبضون أقلامهم عن نُصرة الحق وأهله، ويطلقونها تنهش في أعراض الرجال.

عندما نكتب يجب أن نكون نحن، وليس مصالح الآخرين المزيفة معكوسة

فينا، يجب أن نكون صوت من لا صوت له.

(عندما يخرس الإنسان في بلائه

يمنحني الله قدرة التعبير عن شقائه) .

إن من اضطر غير باغ ولا عاد أن يقول ما لا يقال، وأكْرِه وقلبه مطئمن

بحب الخير وأهله فلا تثريب عليه إن شاء الله، أما الذي يتبرع بالخضوع ويَطّوع

بالخنوع، فلن تقبل معاذيره، لأنها من لاغية القول، وسيحمل من أوزاره ومن

أوزار من يضلهم ما شاء الله له أن يحمل.

الكتابة حقاً لا تنفي ولا تصادر بل تحاور وتتسع لوجهات النظر، ولا تبتزّ

الخصوم بكل ما في المعجم من سوء الألفاظ والألقاب لأنهم خالفوها الرأي.

هذه الكتابة تحاور فتنقل المتلقي إلى آفاق أوسع، ولا تراوح مكانها، لأن

كاتب المراوحة لا يسطيع بدون تاء أن يَضُخّ في عقول القراء مبادئ المعرفة التي

توسع مداركهم إلا إذا كان تعلم بدوره مبادئ الحرية والأخلاق والتسامح والترفّع،

ففي ظلال هذه القيم الأربع يصبح الالتزام والحرية شيئاً واحداً وقيمة عظيمة أيضاً،

وتجعل من القارئ الذي ينتظر هذه المعرفة الطازجة شريكاً مهماً في محاولة

التأسيس لجيل متحضر شاهق الجباه ومن الأسْد الأباة، هدفه مقاومة السلبية

واللامبالاة التي سُجن في أبهائها وردهاتها كتاب كُثْرٌ ممن قَوْلَبوا المجتمع عبر

الكتابة المدجنة والأفكار المهجنة في أنماط من التفكير هشمت آمال الأمة وهمشت

دورها.

إن الكتابة التي تصادر فيها حرية الكاتب هي المدخل المؤدي إلى مصادرة

حرية الوطن والفكر معاً، وتقييد الكتابة يؤدي بشكل طبيعي إلى تدمير الوطن

والمواطن.

إن الكتابة التي تؤسس للحوار الهادف المسؤول وليس للهتاف المتحمس

المتهور هي بفضل الله ضمان مستقبل أفضل، والحوار مهما بهظ ثمنه واحتد

صوته يظل أرخص من نقطة دم تسفك وطي كشح على حقد.

إن حصار الكاتب رغبة أو رهبة ينتج حكماً وحتماً طبقة من الكتبة المدربين

على تقديم المعلبات الثقافة والأدبية والفكرية؛ يقدمونها بعد أن انتهت مدة صلاحيتها

لتصيب عقول القراء بالشلل، ولتنتج بالتالي ثقافة عاقراً عقيماً عبر مضغ الناس

ثقافة اللا أمة واللادور واللاقضية.

في مناخ المصادرة يقرأ الكاتب (النشرة الجوية) للكتابة ليتعرّف اتجاه الريح،

فإن كان عصر الاشتراكية فكراً وأدباً عكف على سير أعلام الخبثاء: ماركس/

انجلز/ ولوي التوسير (أحد كبار مفسري الماركسية في فرنسا قضى قبل سنتين)

وجاستون باشيلار، وتيري آجلنتون (ناقد إنجليزي ماركسي) / وبيار لوكاتش/ ولو

سيان جولدمان (من كبار نقاد الأدب الواقعي والماركسي) .

وإني لأقسم بكل قسم مباح وبكل يمين يعظم به الرب (سبحانه وتعالى) أن مثل

هؤلاء الكتاب في ظل الظرف السابق يصبحون يساريين؛ فيكتبون عن كل السابقين، ويمسون إذا اتجهت بوصلة السلطة إلى الإسلام إسلاميين فينشرون سيرة الإمام

الشافعي (رحمه الله تعالى) ويحدثونك عن شيوخه مثل مالك ومسلم بن خالد الزّنجي

ويتكلمون عن أصحابه وطلابه والمتمذهبين بمذهبه مثل القفال والربيع راوي الأم،

والنووي، والرسالة في الأصول، والشافعي في بغداد، والشافعي في القاهرة ...

إلخ، هؤلاء هم كتاب النشرة الجوية.

وأخيراً: فستبقى النصوص التي ينتجها كل كاتب بمفازة من الاهتمام وبمبعدة

عن القراء ما لم يُدخل العالَم بفتح اللام الأخيرة بوصفه نصاً والواقع بوصفه نصاً

أيضاً مالم يدخلهما في نسج الكتابة، وستظل كتابته محدودة الأمداء مالم تكن ذات

فضاء وأفق شاسع.

وإذا ما نفى الكاتب موضوعية الآخر بهوى النفس، واختزل العالم بفقهه

الخاص، ونقل الإبداع من حوار بين الكاتب والناس إلى حوار بين القلم الأخضر

وقوى الابتزاز والقرصنة بكل صورها فإن الكتابة حينئذ تكون قد فقدت مشروعها

ووأدت طموحها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015