مجله البيان (صفحة 1888)

مقال

هل يموت المجتمع؟

د/ خالص جلبي

أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد رآه واقعاً، بل إن حقيقة الموت لنا

كأفراد لا تفارقنا يوماً واحداً، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو

استشارة، كما أننا سنودع هذه الحياة بمثل ذلك، ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو

نستوعب موت مجتمع ما، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي

يموت به الفرد، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد لا يموت؟ أو أنه كائن من نوع

غير (بيولوجي) إلا أنه يموت ككل الكائنات التي تولد فتموت؟ وإذا كانت (سنة أو

قانون) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذى نسميه (المجتمع) وتشكل مصيره،

فقدبات علينا معرفة هذا (البعد الجديد) في الحياة الإنسانية، أي: تشكل المجتمع،

ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكيف يتم ذلك؟ وبأي آلية؟ وفي

أي ظرف؟ وتحت أية شروط؟ [ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ] .

حوار حول الموضوع:

اعتدل الدكتور (ماجد) في جلسته، ثم حدق فيّ النظر مليّا وقال - وفي وجهه

علامات اليأس والألم -: إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع

العربي: أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو في حكم الميت، وفي

قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم.

صدمت وبعمق، فهذا الإنذار المرعب (PROGNOSIS) [1] ، يشكل

حالةً متقدمة حتى عن وضع السرطان، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء

منه، ومع هذا يبقى المريض مريضاً، أي أنه مازال حياً يرزق، ولو أنه محكوم

عليه بالإعدام.

لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد، واعتَبَرَ أن المجتمع في

حكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لأفراده! ! فمن أين جاء بتحليله هذا يا

ترى؟ ؟ إنه - وهو الباحث في العلوم الإنسانية والتربوية - عنده عددٌ من

المشعرات (INعز وجلصلى الله عليه وسلمX) والمؤشرات إلى وضع المجتمع، ولادة أو موتاً، عافية أو

اعتلالاً، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص، (عز وجلIصلى الله عليه وسلمGNOSIS) فاعتبر الجسد

الاجتماعي (جثة) .

قلت له - معقباً ومتسائلاً في الوقت نفسه -: إننا معشر الأطباء عندنا من

المؤشرات ما فيه الكفاية على موت الفرد (عضوياً) : من انعدام النبض، وتوقف

ضربات القلب، وغياب التنفس، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد، أو توقف النشاط

الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة،

فتكون أولاً حارِّة لتصبح بعد ذلك باردة، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة

الخشب المتيبسة (الصمل الجيفي) ، ثم تبدأ في التعفن والتحلل، ويصبح القبر خيرُ

سترٍ لهذا الجسم المتهتك.

- نظر إليّ صديقي الدكتور متأملا ثم أجاب: بهذه الدقة من التحديد ليس

عندي جواب؟ -ومع هذا-، لنضع، لكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى

صموده وصلابته أمام التحليل؟ !

لا يمكن أن نفهم (موت المجتمع) ما لم نفهم ما هو (المجتمع) تأصيلاً؟ فإذا

استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن (النوعي) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته،

وموته من حياته، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو (شبكة علاقات) ، تنظم

نشاط الأفراد [2] ، فإذا أردنا تصور (الشبكة الاجتماعية) أو (النسيج الاجتماعي)

أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط

الشبكة، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل ما بين

هذه العقد، وتعطينا (البيولوجيا) مثالاً ممتازاً لهذا الوضع، حيث يترابط ما يزيد

عن مائة مليار خلية عصبية (النورونات -Nصلى الله عليه وسلمURONS) في، الدماغ من خلال

نسيج عصبي كثيف، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط، بحيث يشكل الدماغ

الذي يحمله كل فرد منا في رأسه؛ شبكة أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا،

وتتعاون هذه (النورونات) من خلال (نظام التحام) بين كل خلية وأخرى، تسري

فيها سيالة عصبية، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في

النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة، والنسيج الاجتماعي -أي شبكة

العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد - تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها،

ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد

الذين يحفظون هذه العلاقات أو يدمرونها. وينبني على هذه الفكرة أمران هامان:

1- الأمر الأول: أن قوة الشبكة الاجتماعية وإحكامها هي من قوة الأفراد

لأنها من صناعتهم.

2- الأمر الثاني: أن الأفراد قد يمزقون هذه الشبكة، فيما لو شُد الخيط أو

توتر بشكل زائد لمصلحة إحدى العُقَد، وهي (الظاهرة الورمية) ، حيث يؤدي

ضخامة الفرد (العقدة في الشَبكة الاجتماعية) ، إلى قطع الأوتار الاجتماعية،

وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وتضخمهم بظاهرة (السرطان) ، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص، غير عابئة بما يحصل للجسم، ولكن السرطان - كما عَلمنا في مثل القرد سيئ

الذكر في (كليلة ودمنة) الذي نشر غصن الشجرة القاعد فوقه - عندما يقضي على

البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية، يقضي على وجوده ذاته.

يقول مالك بن نبي: (بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسوراً نامياً، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى

هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده يتمثل

فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح

الفردية، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح

العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً) [3] .

تركيبة المجتمعات:

كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية، فالسكر

السداسي (الجلوكوز) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا، مكون من ذرات من الفحم

الأسود (الكربون) ، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد، مكون من ذرات من

(الكربون الأسود) المضغوط بشكل جبار، والذي منح اللمعان للذرات السوداء

القبيحة، هو طبيعة (التركيب الداخلي) لذرات الكربون، فأصبحت شديدة اللمعان

والمجتمع بدوره هو (طبيعة تراص) خاصة بين أفراده، فإذا بقي ذرات كان سخاماً

اسوداً قاتماً، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة، أو لمعان تفوق عبر

التاريخ.

فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة، وأعطى ذرة الألماس

الصلابة المخيفة، والتألق المدهش الفذ، هو طبيعة التركيب الداخلي، مع أن

ذرات الكربون في الأصل سواد وقتام، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية،

بل يعتبر الفحم (شبه معدن) وليس معدناً، فهو ليس في صلابة الحديد، أو ندرة

الذهب، أو ثقل الزئبق، أو إشعاع اليورانيوم، فالذي يعطي التركيب القوة

الضاربة، أو النوعية الممتازة، أو التميز والتفوق، هو كيفية (اجتماع) عناصره

الأولية، فالذي يَسِمُ المجتمع بالقوة أو الضعف، بالتميز أو السطحية، بالتفوق أو

الانحطاط، هو نوعية علاقة ذراته (أشخاصه) الداخلية، وبذلك تفوق المجتمع

الياباني وتأخر المجتمع العربي، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين

بالمجتمع الغربي كانت متقاربة، فارتفع المجتمع الياباني وحلق، في حين أن

المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة، ويعجز عن السيطرة على

حل مشاكله، وبين عامي 1960 - 1990م حقق المجتمع (الكوري) قفزة نوعية

وبقى المجتمع (الغاني) يتجرع غصص التخلف، مع أن مستوى دخل الفرد كان

واحداً في نقطة البدء! ! [4] .

إذاً فالمجتمع هو تركيب (STRUCTURصلى الله عليه وسلم) تماماً كما في التراكيب

الكيمياوية العضوية، وهو بالتالي ليس (مجموعة ذرات) و (كومة أشخاص) ونحن

نعلم من الكيمياء العضوية أن تغيير فاعلية مركب من وضع إلى وضع، يتم من

خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية، ويبقى (الكم الذري)

كما هو بدون نقص أو زيادة، فينقلب المركب الخامل إلى فعّال وبالعكس، والدواء

إلى سم زعاف، والسم إلى ترياق، كما حصل مع باول ايلريش (Pصلى الله عليه وسلمUL

صلى الله عليه وسلمHRLICH) بعد (606) مرات من المحاولات؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض

الأصبغة، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياق وعقار، لمعالجة داء فتك

بالجنس البشري كثر من (400) عاماً (الافرنجي - SUPHILIS) [5] .

المجتمع مرضه وموته:

كيف يمرض المجتمع إذاً؟ بل كيف يموت؟ . كل ذلك يحدث بالآلية نفسها

(تغير طبيعة العلاقات الداخلية بين العناصر الأولية) ، فإذا تورم الأفراد وتحولوا

إلى (قوارض اجتماعية) تلتهم الشبكة الاجتماعية، انحدر المجتمع صوب الفناء

والموت، وبالآلية نفسها التي يموت بها الأفراد، ولكن علينا أن نتأمل هذه الظاهرة

جيداً، فما الذي يحدث عند موت الفرد؟

دعنا نتأمل ظاهرة (الفك والتركيب) في أي موجود تحت أيدينا من مثل

الكرسي أو الطاولة أو السيارة.

كيف نسمي الطاولة (طاولة) ؟ أو السيارة (سيارة) ؟ إن هذا يرجع ليس إلى

(القطع أو الأجزاء) التي تشترك في تركيب الطاولة فضلاً عن السيارة! ! فلو

أمسكنا بالكرسي و (فككنا) الأجزاء عن بعضها، لم تعد الطاولة (طاولة) ولا السيارة

(سيارة) ؟ ! والسبب هو أن السيارة تأخذ (وظيفتها) و (شكلها) الذى يمنحها الاسم،

من (اتصال القطع) و (تلاحم الأجزاء) فتقوم السيارة بوظيفة محددة من مثل الحركة

لنقل الركاب والأمتعة، كذلك الحال في الكرسي الذي نجلس عليه، فإذا التأمت

قطعه، وتضافرت عناصره الأولية، لتؤدي وظيفة (الجلوس) عليه، استحال إلى

كرسي، أما قطعه الأولية فليس لها اسم، وأجسادنا هي تركيبٌ من هذا النوع معقد

للغاية، والذي يحدث في الموت، شبيه بما يحدث للكرسي عندما تتناثر قطعه،

وتعود إلى سيرتها الأولى، أو للسيارة عندما تُفكك وترجع إلى وحداتها الأولية،

وأشار القرآن إلى هذه الحقيقة عندما قال [قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ]

[ق: 4] .

فالجسد الذي يتحلل إلى عناصره الأولية لا ينقص منه شيء، وبدننا في

الواقع مكون من برميل ماء، ومقدار من الحديد يكفي لصناعة مسمار صغير،

وقبضة من الكلس، وكمية من الكبريت تكفي لرأس عود ثقاب، وحفنة من

الفوسفور، وآثارة من اليود والنحاس، وبقية تافهة من الفوسفور المتقد، وكمية من

الغازات التائهة! !

فنحن باعتبارنا (مواداً أولية) في (ثمننا) لا نساوي شيئاً مذكوراً، ولكننا في

تركيبنا الإنساني لا يصل إلينا (سعر) ، لذا فالذي يبيع نفسه بالذهب يعتبر تاجراً في

منتهى الغباء! ! وعندما يموت الفرد بيولوجياً فإن البدن يتحلل بعد فترة ليرجع إلى

دورة الطبيعة.

إن العنصر الواحد مثل حديد الدم، أو فوسفور المخ، أو يود الدرق، أو كلس

العظام؛ مصيره في النهاية إلى التراب، إلي دورة الطبيعة، ليعاد تشكيله

واستخدامه من جديد، في غاية جديدة، ونشأة مستأنفة وعالم محدث وخلق مبتكر،

قد يدخل في بشر من جديد، أو أنسجة حيوان، أو محتويات خلية نباتية، فأجسادنا

الزائلة خلقها الله من التراب، وهي تيمم شطرها مرة أخرى إلى التراب [مِنْهَا

خَلَقْنَاكُمْ وفِيهَا نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] [طه: 55] ، والذي حصل مع

الموت اتسم في الواقع بصفتين جوهريتين، سبقت إحداهما الأخرى، فأما الخلل

الأول بعد الموت والذي يطرأ على الإنسان فهو (توقف الوظيفة) فيتحول الإنسان

إلى صورة جامدة، لا يبكي ولا يضحك، لا يتألم ولا يحس، لا يتكلم ولا يسمع،

فإذا استقرت هذه الحالة انتقل إلى الحالة الثانية وهي (تحلل الشكل) فالميت مثل

النائم، يبقى في الفترة الأولى محافظاً على شكله، بل يبقى اللحم حاراً ولساعات

بعد الوفاة، كما تبقى بعض الخلايا حية، بل قد تنمو الأظافر شيئاً ما، ثم يسيطر

الموت فتبدأ (علاقات) الأنسجة بالتفكك و (ارتباطات) الخلايا بالتمزق النهائي، كي

يتفكك الجسم تماماً إلى وحداته الأولية.

والمجتمع عندما يبدأ في الانهيار في مرحلة الموت يمر بما يشبه هذه المراحل

من (شلل الوظيفة) لينتقل بعدها إلى مرحلة (اندثار الشكل ودماره الكامل) .. ليتحول

إلى (كومة) من الأناسي و (خردة) من البشر لا يجمعها رابط أو يضمها مثل أعلى

أو يحدوها قيم عليا أو ينظمها تنسيق مشترك، فيعيش كل فرد لنفسه، أو يتحول

الإنسان من (الشخص) إلى (الفرد) فيخسر ذلك (البعد) الذي منحه إياه المجتمع،

حينما أضاف إلى معادلته البيولوجية (المعادلة الاجتماعية) [6] ، ومن الملفت للنظر

أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين، فذكر موت (الفرد) [وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ]

كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات [ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ] [7] ، فالأجل هنا جماعي

وليس فردي، فالآجال إذاً نوعان: منها ما هو خاص بالفرد وما هو خاص

بالمجتمعات، كل من نوعية متباينة، وهذا يعني بعبارة أخرى أن الأمم تموت،

والدول تنتهي [8] والشعوب تفنى [9] والحضارات تباد وتنهار [10] .

إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ، وبقيت الأهرامات تشهد

على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ، لم يمت أفراد ذلك المجتمع (بيولوجيا) ، ولم تغب عناصره الأولية في التراب، ومازال الإنسان الفرعوني (المصري)

يعيش، ولكن باعتباره عنصراً أولياً شارك في حضارات مختلفة، فعندما مات

المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و (طوب) أو (لبنات) امتصها

مجتمع زاحف نام متفوق، كون بها نفسه من (لبنات) المجتمع الميت، الذي يلفظ

أنفاسه الأخيرة، وهكذا تحول المجتمع (الفرعوني) إلى مجتمع (روماني) ، ثم مات

بدوره ليتحول إلي مجتمع (إسلامي) وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات [ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً

آخَرِينَ] [11] مثل المجتمع اليوناني والقرطاجني والأزتيك والإنكا والوبيخ والفرعوني.. إلخ، [هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً]

[مريم: 98] .

السلسلة الذهبية. ما هي؟

ومن خلال البانوراما التي استعرضناها من القرآن والتاريخ وعلم الاجتماع

والكيمياء العضوية والبيولوجيا بل وحتى علم الأدوية، نتوجه لتسليط الضوء على

فكرة (السلسلة الذهبية) كي نفهم في ضوئها معنى الموت الاجتماعي، وتقطع شبكة

الربط الحضارية! !

ما معنى أن (معاملة) ما في أي قطاع اجتماعي لا تمشي إلا بطريقة (الدفع،

المتتابع المستمر) مع شيء من المقبلات من (الوساطة) ؟ ! إن هذا المرض خطير

للغاية، وهو مؤشر لأزمة اجتماعية، فالعملية الاجتماعية أياً كانت هي -إن شئنا أم

أبينا، وحتى تنجز- تتكون من سلسلة من الأفعال الاجتماعية، يقودها الأفراد

الاجتماعيون، من خلال معادلة (حق - واجب) أي: إن الواجب الذي يؤديه فرد

في سلسلة (أ) سيكون له حقاً في سلسلة (ب) مثل العلاقة بين (علاج طبي لمريض)

و (استخراج رخصة قيادة سيارة في مصلحة المرور) و (نقل رسالة بريدية) فالعملة

أي (الخدمة الاجتماعية) هي عملة ذات وجهين (حق - واجب) فما كان حقاً لفرد هو

واجب للتأدية في ذمة آخر.

هذه العملية الاجتماعية مهمة في كل (حلقات السلسلة) بما فيهم الفرّاش وحامل

الأوراق، لأنه يكفي أن (تنام) المعاملة في (درج) موظف، حتى تضطرب السلسلة

كلها وتحل الكارثة! ! وهذه الحقيقة القاسية والمؤسفة هي لب العملية الاجتماعية،

فإذا كانت (السلسلة الاجتماعية) مكونة من عشر حلقات بين الرئيس، ومساعده،

والسكرتير، والموظف المتلقي، وحامل الأوراق، والمدقق، والناسخ، والضارب

على الآلة الكاتبة، وصاحب الكمبيوتر، والجالس خلف سنترال التلفون، يكفي أن

تضطرب (حلقة واحدة) - حلقة واحدة فقط لاغير- من هذا السلسلة كي يختل العمل

بأكمله، وهذه المشكلة هي أس الأسس في التركيب الاجتماعي، فعندما يكون

الموظف متسللاً بدون إذن [13] ، والساعي مهملاً، والمدقق نعساناً، والناسخ

فوضوياً، والجالس على الكمبيوتر جاهلاً، والقاعد خلف السنترال نائماً يكفي الخلل

في (حلقة مفردة يتيمة) - ولو كانت كل (السلسلة) من الذهب الخالص

(24 قيراط) - أن تحل الكارثة وتقع المصيبة، وتتوقف السلسلة أن تمر بها (السيالة الكهربية) الاجتماعية، وبذا ينطفئ الضوء الاجتماعي، ويذهب نوره، ويبدأ المجتمع في التحول إلى مجتمع (نفسي نفسي) .

إن النزول إلى ساحة العمل الاجتماعي مرهق إلى أبعد الحدود، مزعج إلى

حد المرض، مضيعة للوقت بدون مبرر (لأننا ملوك الزمان) بل ويأكل الكرامة

الإنسانية أحياناً، فلا موظف يبقى خلف طاولته، ولا عامل يبقى مرتبطاً بعمله،

والدخول إلى الطرقات هو النزول إلى ساحة الحرب يحمد الفرد فيها الله في نهاية

المطاف على السلامة، وملاحقة المعاملات جولة في بلاد (أليس للعجائب)

و (عبقر) للجن، وإنجازها كأنه إزاحة جبل، والسر في هذا هو تقطع (نقط الاتصال

والالتحام الاجتماعية) بين (حلقات) السلسلة الذهبية التي أشرنا إليها، فلا تعود

ذهبية بل تتحول إلى سلسلة تنك، وحديد صدأ، والصدأ على كل حال يعني التفكك

والعودة إلى حال (الخام الطبيعي) ، فإذا اضطربت (السيالة الكهربية) الاجتماعية،

وتقطعت حلقاتٌ متعددة من سلاسل شتى، كان ذلك مؤشراً خطيراً لتدمير النسيج

الاجتماعي، وكان معناه أن المجتمع بَعُدَ أن يكون مجتمعاً، بل بدأ يتحول إلى

(مُجمِّع هزيل) و (مافيات اجتماعية) وحوضٍ مرعبٍ لسمك القرش وقنافذ البحر

والأخطبوط الاجتماعي، وهذا المرض لن يقف عند هذا الحد بل سيقضي في

النهاية حتى على تلك الجزر الطافية هنا وهناك في الأوقيانوس (المحيط) غير

الاجتماعي المتخبط، كما كانت حالة الامبراطورية الرومانية في العصور الوسطى، وفي النهاية يصبح المجتمع أمام طريق مغلق، وعليه أن يولد من جديد، إما

بحزمة قيم جديدة بالولادة الروحية الجديدة كما فعل الإسلام مع (البشر الخام) في

الجاهلية، حيث لم يكن يهم (طرفة بن العبد) إلا قدحٌ من الخمر، وقتالات

وممارسات طائشة [14] ، أو الذوبان والاختفاء الكامل في مجتمعات قوية متفوقة،

واندثار ثقافة المجتمع [وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]

[محمد: 38] وقد حدث هذا في التاريخ ومازال يحدث.

أنواع المجتمعات:

ما الفرق بين مجتمع ومجتمع آخر؟ ؟ هناك ثلاثة أنواع من المجتمعات فيما

لو أردنا استخدام المصطلحات العصرية! ! مجتمع (مضخة الماء) والمجتمع

(الكهربائي) والمجتمع (الإلكتروني) ، فعندما لا تمشي المعاملات إلا بطريقة (الدفع

المتتابع المستمر) ! ! فهي تعود إلى مجتمعات (مضخة الماء) فالماء يتدفق طالما

بقيت اليد ملتصقة بالذراع الحديدي، فاذا توقفت عن (الدفع) انقطع الماء وتوقف

الخير! ! وهكذا فالمعاملة التي تقف مباشرة قبل هدفها بمليمتر واحد؛ لا تصل إلى

هدفها بدون (الدفعة الأخيرة) ويعتبر كل جهد سابق وكأنه لا شيء، فلا تولد أو ترى

النور بدون الحقنة الأخيرة! ! أما المجتمع (الكهربي) فهو الذي يتحرك بكبس

الأزرار، فتمشي المعاملة وحدها بدون متابعة إلى مقرها الأخير، بسبب قوة كل

حلقة من (السلسلة الذهبية) وهكذا تولد كل معاملة وصاحبها مطمئن إليها طالما

حركَّها، وهو الذي لمسناه في الماكينة الاجتماعية الغربية أثناء العيش بينهم، وهي

من أسرار تفوقهم وقوتهم، فلا تحتاج أي معاملة إلى متابعة أو ملاحقة، فضلاً عن

نشوء مؤسسات خاصة في المجتمع لمثل هذه الوظائف الطفيلية (تخليص

المعاملات - متابعة الجوازات - تحصيل الديون الفوري!) أما المجتمعات المستقبلية مجتمعات (النبض الإلكتروني) فهي تلك التي تتربع على عرش الإلكترونيات، ويفتح لها القرن الواحد والعشرين ذراعيه للاحتضان، من مثل المجتمع الياباني [15] ، وحتى يمكن نقل المجتمع من عصر (مضخة الماء) إلى (الفعل الكهربي) فضلاً عن (التوهج الإلكتروني) فإن ذلك يتوقف على اتصال عناصر العملية الاجتماعية، فإذا أدى أحد (حلقات) السلسلة عمله بفعل (جذبي بانتكاس داخلي) قعد المجتمع وشُل، وإذا تحول إلى روح (الواجب وضمن المراقبة المتقابلة المزدوجة وبآلية النقد الذاتي) تحول إلى مجتمع (حركة الكهرباء) فإذا قفز إلى روح (المبادرة) أصبح بسرعة الومض الإلكتروني ... ولله في خلقه شؤون! !.

مع تمزق شبكة المجتمع تدفع كل عناصر المجتمع الثمن مع كل فوائده

المركبة، حتى من هم في قمة الهرم الاجتماعي، والسبب بسيط هو أن (الماكينة

الاجتماعية) لا تعمل، حتى الأوامر التي تأتي من فوق تفقد حرارتها كلما نزلت إلى

أسفل، فتتباطأ ويتوقف الإنتاج، وكأنها مثل القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية، فهي تبرد مع الوقت، والتحرك باتجاه المحيط، أي: إن الفعل الاجتماعي يتحول

من فعل (واعٍ إرادي) إلى عمل (فيزيائي) وشتان بين الإرادة والمعدن، والحي

والجماد، والفعل والانفعال، والطبيعة والإنسان، في حين أن المحافظة على

الشبكة الاجتماعية تجعل الحياة سهلة لكل واحد فيها، ممتعة لكل فرد، حلوة لكل

من يشارك في نشاطها، ولعل هذا هو الذي قصده القرآن حين ربط بين مفهوم

(الاستقامة) والفائض في الحياة الاجتماعية (غدقاً) [وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ

لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً] [الجن: 16] .

يقول المثل الإنجليزي: إن هناك قصة طريفة جرت لأربعة أشخاص

أسماؤهم: (كل واحد) و (أي واحد) و (لا أحد) والرابع كان اسمه (بعض الناس) ،

وكان هناك أمر مهم يجب أن ينجز، فسُئل (كل واحد) كي ينجزه، إلا أن (كل

واحد) كان يتوقع من زميله (بعض الناس) أن يقوم به، إلا أن (بعض الناس)

غضب لأن المهمة كانت مهمة الزميل (كل واحد) ، إلا أن (كل واحد) فكر أن (أي

واحد) يمكن أن يؤديها، ولكن الزميل (لا أحد) تحقق أن (أي واحد) يمكن أن يفعلها، وبذلك كانت المحصلة أن (كل واحد) لام (بعض الناس) لأن (لا أحد) فعل ما كان

يجب أن يفعله (أي واحد) ! !

وتحكي القصة أن ملكاً أراد اختبار محبة شعبه له، بأن نصب في الميدان

الطعام للبلد حوضاً كبيراً، وطلب من كل فرد عربوناً لحبه قدحاً صغيراً من العسل، وفي اليوم التالي كان الحوض فارغاً، لأن كل واحد فكر بنفس الطريقة: (وما

الذي سيؤثر في الوعاء الكبير أن ينقص منه قدحي الصغير؟ ! !) [*] .

من الأحاديث الضعيفة الواردة في رمضان

حديث: (نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه

مستجاب وذنبه مغفور) وهو ضعيف رواه البيهقي والديلمي وابن النجار..

حديث: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من

صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت نورا بين عينيه يوم القيامة) وهو ضعيف؛

أخرجه البيهقي والطبراني والدارقطني.

حديث: (صوموا تصحوا) وهو ضعيف، رواه الطبراني في معجمه، ورواه

ابن عدي في الكامل ...

حديث: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان) وهو ضعيف،

رواه البزار ...

(عن كتاب مخالفات رمضان للشيخ عبد العزيز السدحان بتصرف)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015