دراسات شرعية
د. جلال الدين محمد صالح
ترتبط الأخلاق بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً يفوق حد التلاحم والتمازج ويستحيل معه
تصور انفكاك إحداهما عن الأخرى بحيث يمتنع تخيل أخلاق مجردة عن العقيدة،
أو عقيدة مجردة عن الأخلاق، مما يجعلنا نوقن أن كل الخصائص الأخلاقية
المنحرفة هي - لا محالة - إفراز عقائد منحرفة، بينما الأخلاق النبيلة تظل دليلاً
ساطعاً على انبثاقها وانبعاثها من وحي عقيدة نقية نائية عن التحريف وإيحاءات
القصور البشري، وفي الوقت ذاته: توقن أن الأخلاق المنحرفة برهان على وجود
الأخلاق المستقيمة كالنقود المزيفة تكون دليلاً على وجود النقود الصحيحة.
والسرد القرآني للقيم الأخلاقية يُعَضِّدُ هذه الرؤية، ويبين بداهتها ونصاعتها
لكل متأمل يتلو آيات القرآن بتدبر وتفكر، حيث نجد نعوت الكمال الإنساني
وخصال أخلاقه الحميدة محاطة بصفاء العقيدة ونقاء التصور ووضوح العبودية لله
رب العالمين، بينما تأتي مفردات الأخلاق الذميمة وموبقاتها مقرونة بالانحراف
العقدي والتشوش الفكري والارتكاس في مفاهيم الشرك؛ حيث: تقديس الأحجار
والأشجار والأبقار والطواغيت، والانحدار دوماً إلى ما دون المكانة الإنسانية،
فالشرك في حد ذاته صفة أخلاقية تستجمع كل الشرور، وتتولد عنها كل الأخلاقيات
الهابطة، وكل السلوكيات المنحرفة، لأنه منهج استكباري يستنكف صاحبه أن
يكون عبداً لله، وقد كان أول سلوك من هذا القبيل ما جاهر به إبليس أمام الله
(سبحانه) [وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الكَافِرِينَ] [البقرة: 34] .
وهكذا أضحى الاستكبار على الله، ومن ثم التعالي على عبادة قريناً للشرك
ورديفاً له، والذي تجلى في موقف إبليس مع الله (عز وجل) يتجلى لنا أيضاً في
السلوكيات التي أبداها قوم نوح (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) معه حين جعلوا
أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا، وبهذا النهج
الأخلاقي بات المنحرفون يتواصون حتى صار من دأبهم توارث الاستكبار على الله
والاستخفاف بالعباد وإرادة العلو والإفساد في الأرض، وهو دأب تعرضه علينا
آيات القرآن كلما صورت لنا واقعاً عقدياً منحرفاً تنعته بالطغيان تارة، والاستكبار
والعلو في الأرض تارة أخرى [اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى] [النازعات: 17]
[إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً] [القصص: من آية 4] ،
[قَال الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ] [الأعراف: 76] .
وكل هذه النعوت صفات أخلاقية مقيتة لا يمكن أن تكون إلا مع الانحراف
العقدي والارتداد عن عبادة الله (سبحانه وتعالى) ، تتكاثر عنها كل الشناعات
الأخلاقية من: قتل، وهتك، ونهب، وظلم، وإشاعة الفاحشة بين العباد، ففي
مجتمعات الكفر وأنظمة الشرك تسود الطبقية، وتوطأ إنسانية الضعفاء، وتسخر
طاقاتهم لخدمة الطغيان واستكبار الملأ، وفي مجتمعات الكفر والشرك تستشري
الفاحشة بين الأفراد وتجد الحماية والرعاية، فما فعل قوم لوط سوى ممارسة غير
أخلاقية ساقطة ظهرت ونمت في ظل الانحراف العقدي حيث كان قوم لوط أول
مجتمع كافر مارس هذه الفعلة القبيحة، ونافح عنها وتعامل معها وكأنها خلق إنساني
رفيع لا تستهجنه النفس البشرية ولا تأباه الفطرة السوية، وفي مجتمعات الجاهلية
استساغ الناس وأد البنات، واضطهاد الضعفاء، وإكراه الإماء على البغاء،
وتعاطي الربا والقمار والتآزر على الباطل حتى قال شاعرهم: (من لا يظلم الناس
يظلم) ، وشعارهم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) (بالمعنى الجاهلي) *
السلوك الأخلاقي عند أهل الكتاب:
وأهل الكتاب - الذين كان الأجدر بهم أن يكون لهم فضل الإصلاح الأخلاقي
بما استحفظوا من كتاب الله - فقدوا هذه الخاصية بما كسبت أيديهم من تحريف لما
أوحي إليهم ونسيان لما ذكروا به، فصاروا هم أشد ضلالاً وأعظم انحرافاً وأكثر من
يسعى في الأرض فساداً.
فالتزييف اليهودي للتوراة كان وراء تشبع الروح اليهودية بسفاسف الأخلاق
التي نالت من قداسة الأنبياء وطهارتهم حين رمتهم بسلوكيات لا تليق بهم، متهمة
نوحاً (عليه السلام) بالسكر ومضاجعة بناته، ومتهمة داود (عليه السلام) بالافتتان
بزوجة أحد قواده والتآمر عليه، والتحريف اليهودي للتوراة كان وراء العقلية
اليهودية في تأصيل أخلاقيات التزوير، وطمس الحقائق، وكتمانها [الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ]
[البقرة: 146] .
والتحريف اليهودي للتوراة كان وراء استباحة اليهود لأموال غيرهم وشعورهم
بالتميز العرقي على الآخرين تأسيساً على اعتقاد كاذب، يزعم أنهم أبناء الله
وأحباؤه، وأن كل من سواهم حمير خلقوا لخدمتهم، من هنا صار اليهود رسل
الفساد يسيحون في الأرض بنظرياتهم السلوكية المدمرة، التي تدعو علناً إلى
الانسلاخ من كل ما له صلة بأخلاقيات الطهر والعفاف، وساهمت أقلامهم وأدمغتهم
في ابتداع وسائل غير أخلاقية شريرة، فأوجدوا أندية العراة، وشواطئ الانحلال
والتفسخ الأخلاقي، وبنوك النهب والاستغلال، وساندوا نمو الدعوات الساعية إلى
خنق كل سلوك أخلاقي يصون كرامة الإنسان ويعصمه من المنحدر الحيواني،
وأخذوا على أنفسهم أينما وجدوا ألا يدخروا وسعاً في تفريغ الذات البشرية من كل
إيمان يُعمق في أحشائها أخلاقيات التزكي والتطهر، إدراكاً منهم أن الانحراف
العقدي والفراغ الديني أفضل مناخ مناسب لتزايد الانحراف الأخلاقي، لهذه الغاية
كان اندساس اليهود في الكيان النصراني، وإعمال يد التحريف في العقيدة
النصرانية على يد شاؤول المعروف عند النصارى (ببولس الرسول) مما نجم عنه
تحول المجتمعات النصرانية إلى مجتمعات الضلال الأخلاقي حيث تعفنت أديرة
الرهبان وكهوفهم بكل القاذورات الأخلاقية، وبهذا: لم يعد مجتمع النصارى صالحاً
لأن يكون مصدر إشعاع أخلاقي يتحقق به خلاص النفس الإنسانية وسعادتها،
فالإنجيل المحرف بما تضمنه من معتقدات ساذجة وباطلة دفع معتنقيه إلى نبذه
وإدارة الظهر له، والانطلاق في الحياة بلا قيود أخلاقية، والاستعاضة عنه بأخلاق
وضعية هي أخلاق الرأسمالية الأوربية والاشتراكية الماركسية.
الرأسمالية والأخلاق:
والأخلاق الرأسمالية هي نتاج طبيعي للواقع العقدي المنحرف، ولذا جاءت
هذه الأخلاق أشد فتكاً بالإنسان وأكثر تهديداً له، وإنها مهما بدت ملاذاً آمناً فلن
تكون حلاً للمعضلة الأخلاقية التي تلوي اليوم عنق أوروبا، لأنها هي في حد ذاتها
جزء من المشكلة التي جاءت لحلها، ولأنها تسير على النهج الانحرافي نفسه؛
يروي الأستاذ (محمد قطب) عن شقيقه (سيد) (رحمه الله) أنه أثناء زيارته لأمريكا
كان ذات مرة جالساً في حديقة فاقترب منه رجل أبيض، وسأله: من أين أنت؟
فأجاب سيد (رحمه الله) : من مصر، فرد عليه قائلاً: إذن أنت مسلم، قال: نعم،
قال: إذن حدثني عن الإسلام، فأخذ سيد (رحمه الله) يحدثه عن الإسلام، والرجل
منصت باهتمام حتى أنهى سيد حديثه، عندها قال الرجل: جميل ما قُلته ولكن
الدولار هو الإله الوحيد الذي أعرفه! ! .
هكذا حولت الرأسمالية الإنسان إلى عبادة إله جديد هو الدولار، فزادته تعاسة
على تعاسة، قال: -صلى الله عليه وسلم- (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار..) ، ولقد ديست كل المكارم الأخلاقية فاختفت عن الوجود الفعلي بقايا الأخلاق
الربانية المتناثرة في صفحات الإنجيل المحرف مغمورة بما يعرف (بأخلاق النتائج)
وأصبح الرأسمالي لا يرى حرجاً من إبادة شعوب وأمم بأكملها كما فعل بالهنود
الحمر بحثاً عن الذهب الأصفر، وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث
اقتاد منهم الألوف - بعد أن نهب خيرات أوطانهم - مكبلين بالأغلال في الأعناق
والأيدي والأقدام استغلالاً لسواعدهم وقوة أجسامهم في استثمار اقتصادي لا يعود
نفعه إلا إلى الرأسمالي ذاته، ثم من وحي أخلاقه الرأسمالية اعتمد معيار اللون
والثراء في التفاضل؛ فالنازية في ألمانيا، جعلت العرق الآري أفضل من وجد على
الأرض، والرجل الأبيض عموماً في أوروبا وأمريكا وأفريقيا مارس أخلاقيات
التفريق العنصري، واصطفى ذاته لتكون في القمة، واضطهد السود -لمجرد أنهم
سود - في أمريكا، وحتى وقت قريب في جنوب إفريقيا، ولم تنعتق هذه الشعوب
من قبضته واضطهاداته إلا عبر تضحيات باهظة التكاليف ونضالات عنيدة
ومتواصلة حتى انتزعت من بين فكيه شيئاً من حقوقها، ثم في تناقض صارخ كثيراً
ما نسمع ضجيجه عن حقوق الإنسان، مصاغة وفق اختياراته واستحساناته،
منطلقة من جذور عقائد محرفة، وأهواء قاصرة، وأخلاقيات نفعية، تساير الظلم
وتسانده إذا ما رأت فيه مبتغاها.
إن مفردات العدالة والحرية والإنسانية، تعدم محتواها الأخلاقي الرباني عندما
تُحشى بمحتويات المفاهيم الرأسمالية المتمخضة عن مصالح الرجل الأبيض،
والهائمة وراء عبادة الدولار! الذي أوحى إلى عابديه إباحة كل الشناعات الأخلاقية
قرباناً له، فلا حرج في وحي ذلك الإله المزعوم أن يعبد في محراب القمار وبنوك
الربا وأسواق الاستغلال ومواخير الفساد والانحلال الخلقي، ولا بأس من أن يتقرب
إليه عابدوه بأخلاقيات الظلم والغش والاحتكار، والعبث بإنسانية الإنسان بسن
تشريعات لا أخلاقية بهيمية تعقد لها المؤتمرات وتنفق عليها الأموال كالمؤتمر
السكاني الأخير، ليقر بنود وثيقة تقدمت بها هيئة الأمم المتحدة وتضمنت أقبح
الفظائع الأخلاقية، ومن أبرز ما فيها: -
1- إباحة الإجهاض لكل الأعمار.
2- الحرية الجنسية للمراهقين والأطفال حرية مطلقة.
3- حق المراهقين في أن تكون لهم حياة خاصة ومعلومات سرية لا تنتهك
حتى من الوالدين..
4- يعاون المراهقون والأطفال على احترام الحقوق السابقة من الحكومات
ومن المؤسسات الأخرى، وعلى الوالدين احترام حقوق هؤلاء.
وهذا غاية الإفساد في الأرض الذي يتم بدعم من القوى الرأسمالية وهيمنتها
التي يراد من البشرية أن تَرِد معاطنه وترتوي من مستنقعاته الآسنة، وهو شقاء
أخلاقي سبق أن سلب الإنسان الأوربي سعادته وألجأه إلى نمط أخلاقي آخر هو نمط
الأخلاق الاشتراكية، نمط نكد لا يخرج إلا ما كان نكداً، يستمد كل تنظيراته
الأخلاقية في شتى جوانبه الحياتية من أصوله الإلحادية، ويقرر أن سعادة الإنسان
تكمن في أخلاقيات الصراع الطبقي التي تدفع به - حسب زعمهم - إلى حياة الرفاة
والرغد في مجتمع شيوعي تغيب عنه الدولة وتختفي فيه شارات الشرطة ويحكمه
قانون (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) ، وهو نهج يرفض في نظمه
الأخلاقية كل سلوك يعيق تقدمه أياً كان مصدره وينعته بالأخلاق البرجوازية، وقبح
الشيء وحسنه يتحدد فقط بالنظر إلى مردوده على طبقة البروليتاريا على حد
تعبيرهم.
وانطلاقاً من هذه النظرة سلك القادة الشيوعيون كل شعاب السلوكيات المتردية
فأشاعوا حالة الخوف الدائم، وأفسدوا بالمرتبات الكبيرة والامتيازات رجال الجيش
والبوليس والأجهزة السياسية والأفراد المطيعيين من طبقة المثقفين، وأسكتوا قمعاً
كل صوت مقاوم.
وفي كتاب مدرسي عن الأخلاق الماركسية معد للمدارس الثانوية في المجر
سنة 1978 م، يقول: (إن الطفل ابناً كان أو بنتاً لا يصح بحال أن يُقدم على قتل
أمه إلا إذا أصبحت خائنة للطبقة العاملة..) [1] .
وخيانة الطبقة العاملة هي إبداء النقد لسلوكيات الفكر الاشتراكي وأئمته أو
التعامل معه بشيء من الحذر والحيطة، والأمانة الأخلاقية في زعمهم هي الفناء في
شخصية القيادة الماركسية، والدينونة لمقولاتها، وتكريس عبادتها، ولعلنا لاحظنا
جميعاً كيف أن الشعب الكوري الشمالي أحتشد حول صنم الزعيم الكوري غداة
هلاكه ساجداً راكعاً، بل إن من الحجارة من اكتسب شيئاً من القداسة في كوريا
لكونه حظى بجلسة من رائد الفكر الاشتراكي الكوري؛ ففي تابوت زجاجي بساحات
أحد المصانع بكوريا الشمالية عرض حجر بداخله، ومكتوب عليه هذه العبارة:
(الحجر الذي جلس عليه الرفيق الحبيب المبجل عندما كان يتحدث) [2] ، ومن
البداهة أن تعلن هذه المعتقدات كسادها، وتترك اللاهثين خلفها في العراء حيارى
وقد خلت أفئدتهم من كل معتقد صحيح وخلق رفيع، ذلك ما كان من النمط
الاشتراكي البديل للنمط الرأسمالي على يد (جورباتشوف) في أطروحته المعروفة
(بالبيرسترويكا) ، ولم يكن هذا الإعلان انتصاراً للنقيض الرأسمالي بقدر ما كان
تأكيداً لتخبط أهل الكتاب، وعجزهم عن انتشال البشرية من ورطتها وتخليصها من
مأزقها بتقديم أخلاقيات وضعية يزعمون أنها تسعد حياتها وتعظم إنسانيتها.
إنه انتصار فقط للعقيدة الإلهية الداعية إلى عبادة الله وحده [قُلْ يَا أَهْلَ
الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
[آل عمران: 64] .
الأخلاقيات في الإسلام:
إنه انتصار للإسلام الذي ينطلق في إصلاحاته الأخلاقية من حقيقة العبودية لله
(عز وجل) ، فطرة الله التي فطر الناس عليها - وهي حقيقة لا يضارعه فيها أحد،
وقد تميز بها عن غيره - فيثير في النفس الإنسانية مكامن التدين ويوقظ فيها مواطن
الفطرة، ومعاقل الإيمان ويعتقها من الخضوع لغير الله حتى إذا ما تخلصت من
الشرك وشوائبه، وأيقنت أن الوحيين هما مصدر التلقي وهما مصدر التحليل
والتحريم، انساقت دونما تلعثم أو تعثر لأخلاقيات الدين، فيضبط مسار حياتها،
ويوجه حركاتها وسكناتها.
وهذا النهج نراه في دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونراه في
دعوة من قبله من الأنبياء، فقد كان الإصلاح النبوي في الرسالات السماوية يتوجه
قبل كل شيء إلى تمكين مفاهيم العقيدة الصحيحة وتصويبها أولاً ليعقبها بعد ذلك
تلقائياً تلقي أخلاقيات الإسلام والانصياع لها بنفس ملؤها الرضى والاطمئنان كما
كان ذلك من جيل الصحابة (رضوان الله عليهم) لحظة تحريم الخمر، فالنهي عن
كل خلق مشين لا يمكن أن يؤتي ثماره مالم يُسْبَق سلفاً بتعميق العبودية لله (تعالى)
وتثبيتها في الوجدان، لذا، نلاحظ التوجيه الرباني في القرآن الكريم يجعل مسألة
تصحيح الانحراف العقدي والبراءة من الشرك في مستهل الأخلاقيات الضرورية
التي يلزم التعهد بالتزامها عند إرادة الانضمام إلى مجتمع الإسلام [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا
جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الممتحنة: 12] .
ولا يفصل الإسلام تقريراته الأخلاقية عن قضية العبودية لله رب العالمين،
لتنال عظمتها وقدسيتها من عظمة هذه القضية [وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [الإسراء: 23] .
فالخصائص الأخلاقية الحميدة التي تضمنتها سورة الإسراء من: طاعة
الأبوين، وإقامة المكيال والميزان بالقسط، والبعد عن: الإسراف والتقتير، والقتل، والزنا، وأكل مال اليتيم، والتقول على الناس، والسير خيلاءً ومرحاً، وما
أمرت به من الوفاء بالعهد، هي نموذج لكثير من الآيات القرآنية التي تعالج قضايا
الأخلاق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في إطار العقيدة، وهي خصائص
تتعرى عن قيمتها الأخلاقية إذا أقصيت عن محيطها العقدي، أو طرحت في قوالب
عادية، أو قدمت ضمن توجيهات دين محرف، وتضعف هذه المعاني الأخلاقية في
النفس تبعاً للوهن الذي يعتري العقيدة (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) .
ولهذا كان من أخلاقيات النفاق - كما ورد في السنة -: الكذب في الحديث،
والإخلاف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهد، والفجور في
الخصومة، كما أن الفِرَق المبتدعة التي انحرفت عن مسار أهل السنة والجماعة
تنفرج عندها زاوية الانحراف الأخلاقي بقدر انحرافها عن منهج العقيدة الصحيحة،
ففي التصوف المنحرف نجد الوله بالمردان، والافتراء على الله ورسوله، وفي
منهج الرفض يتضخم التدين بازدراء الصحابة، ويتبوأ التخلق بأخلاقيات الكذب
باسم التقية مكاناً علياً، كما أن كل أموال الناس - بزعم استحقاق الخمس - يعد من
صميم المعتقد الرافضي، وعلى قسط من هذه الأخلاقيات ينطوي التوجه الخارجي
القائم على قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.
وفقه الأخلاق ينبغي أن يكون على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة، حيث
يثير في النفس مكامن الدين ويوقظ فيها مواطن الفطرة ويجعل خضوعها لله وحده،
وذلك كله ضروري لنجاح مسيرتنا الدعوية، وأهدافنا الإصلاحية، وإن أي توجه
دعوي لا يعي هذه الحقائق ولا يوليها اهتماماته حري به أن يعيد النظر في مفاهيمه.
والله الموفق ...