دراسات اقتصادية
من المنظور الإسلامي
د. محمد بن عبد الله الشباني
في اليوم الخامس من شهر سبتمبر لعام 94م افتتح في القاهرة المؤتمر العالمي
للسكان والتنمية الذي قصد من عقده كما يدّعون معالجة النمو السكاني وكيفية
مواجهة الانفجار السكاني، لقد أثار هذا المؤتمر ردود فعل معارضة من قبل علماء
المسلمين لما طرح فيه من برامج لمعالجة مشكلة التزايد السكاني تصادم القيم
الإنسانية ومبادئ وأسس الاعتقاد بالله الرب المعبود.
إن الإطار الفكري الذي قام عليه المؤتمر، وما طرح فيه من أفكار ومناهج
ووسائل للحد من النمو السكاني، يقوم على الفلسفة الجدلية المادية التي من
مقتضياتها أن الإنسان مالك لتصرفاته بشكل مطلق، وأنه المتحكم في أموره كلها
وبالتالي فهو المسؤول عن توجيه الحياة على هذا الكوكب، وعليه أن يستخدم
قدراته وما أتاحه له التقدم العلمي من وسائل لمجابهة النمو السكاني من خلال فلسفة
العبثية القائمة على إنكار وجود الخالق جلا وعلا، وأن المادة هي المُوجدة لنفسها
ولغيرها من الظواهر المادية المشاهدة، وبالتالي فإن الإنسان بحكم ماديته قادر على
أن يتحكم في الحياة ضمن إطار ما أشار إليه القرآن الكريم من وصف هذه الفئة من
البشر الذين يعتبرون أن البعد الزمني للمادة هو المتحكم في مسيرة الحياة كما في
قوله تعالى: [وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما
لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون] [الجاثية: 24] .
أهداف المؤتمر:
تمثلت المجابهة الفكرية لمؤتمر السكان في إنكار توحيد الربوبية من خلال
العمل على تأكيد أن الطبيعة المادية للكون هي المالكة لمعطيات الحياة، وهي
محدودة وذاتية التأثير، وبحكم أن الإنسان جزء من هذه الطبيعة فعليه أن يسعى إلى
تأكيد دوره في السيطرة على المعطيات المادية، فالكون محدود الموارد وبالتالي فإن
محدودية موارده بحكم الطبيعة المادية الحاكمة لذاتها سوف يتغير ميزانها، ولا
تتمكن من توفير احتياجات الإنسان الذي تزايدت أعداده، فعلى الإنسان أن يتحكم
في تكاثره بتقليص نموه حتى تتلاءم الأعداد البشرية مع المعطيات المتاحة للأرض.
هذا المفهوم للعلاقة بين الموارد المتاحة للبشر على وجه الأرض وبين التكاثر
السكاني مفهوم قائم على جحود ربوبية الله بإنكار أن للكون خالقاً يدبر شؤونه.
إن البرنامج الموضوع لمجابهة التكاثر السكاني قائم على هذه الفلسفة فجميع
الوسائل العملية المطروحة في البيان الصادر عن المؤتمر تهدف إلى خفض تزايد
السكان من خلال الدعوة إلى الإكثار من مراكز تنظيم الحمل ونشر الثقافة الجنسية،
والمطالبة بنظامية الإجهاض، بدعوى حماية حقوق المرأة وتأخير سن الزواج مع
جواز ممارسة العلاقات الجنسية خارج الزواج ... كل هذه الوسائل المطروحة
والمقرة من قبل المؤتمر بدون اعطاء أهمية لتأثيرها على بناء الأسرة وعلى فشو
الانحلال الخلقي لأفراد الأمة، لأن القيم والأخلاق خارجة عن التفكير المادي العبثي
الذي من أجله عقد المؤتمر.
إن معارضة ما ورد من طروحات في المؤتمر العالمي الثالث للسكان لأسس
العقيدة الإسلامية يتمثل في إنكار ربوبية الله للعباد، وإنكار صفات الله المرتبطة
بتوحيد الربوبية، فالله يقول في كتابه: [والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم
جعلكم أزواجاْ وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص
من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير] [فاطر: 11] ، وقوله تعالى:
[وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم]
[العنكبوت: 60] ، وقوله: [يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون] [فاطر: 3] ، وقوله: [قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون] [الأنعام: 151] ، وقوله: [ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا] [الإسراء: 31] .
إن جميع هذه الآيات ترد على أولئك المؤتمرين الذي يريدون أن يبدلوا كلام
الله، كما أنها تكشف حقيقة الترابط بين القيم الأخلاقية ومحاربتها وبين عملية
الإنجاب والرد على دعوى الخوف من عدم كفاية الموارد، وأن الخوف من الجوع
نتيجة للإنجاب إنما يعود في أصله إلى إنكار ربوبية الله للخلق، وإلى ما قذفه
الشيطان في نفوس الجاحدين من كفر بخالق الكون والإنسان.
هذه منطلقاتهم:
لقد قام المؤتمر على فكرة نبذ القيم والنظم الاجتماعية القائمة على عقيدة
الإيمان المطلق بربوبية الله للخلق، وأنه لا يعزب عن قدرته وملكوته مثقال ذرة في
السموات ولا في الأرض، وأن اقتلاع هذه العقيدة من نفوس الناس أمر غير ممكن
لمجافاتها الفطرة، لهذا تفادى المؤتمر الإعلان عن أهدافه الفكرية بشكل صريح،
ولكنه انتهج أسلوب تحطيم الخلية التي تمثل الإطار الخاص لفطرة الإنسان القائمة
على الإيمان بالله، والمتمثلة في هدم البناء الأسري وما يلزم لهذا البناء من
سلوكيات أخلاقية تحقق تلاحمه وتماسكه، بجانب هذا الهدف فإن للمؤتمر غايات
مادية أخرى يرغب في تحقيقها لصالح دول الشمال التي تمتلك القدرة العلمية
والمادية، بخلاف دول الجنوب التي تمتلك مصادر المواد الخام حيث تأخذ دول
الشمال هذه المواد بأبخس الأثمان لتعيدها بعد التصنيع إلى دول الجنوب بأغلى
الأثمان، ومن أجل هذا الهدف تزعم دول الشمال التي هي أكثر غنى في العالم أن
مشكلة العالم الثالث أو مشكلة دول الجنوب في عدم النمو إنما تعود إلى القنبلة
الديمغرافية (السكانية) ومن أجل ذلك قدمت دراسات مضللة تزعم أن الأرض لن
تستطيع أن تُطعم سبعة بلايين من السكان حسب التوقعات لسنة 2010م، وأن الماء
سينضب من العالم، وأن كثرة السكان في دول الجنوب هي السبب في تلوث الهواء
وازدياد حرارة المناخ. [*]
التكاثر السكاني لا علاقة له بالمجاعات:
إن الحقائق الإحصائية تُكذب ما يزعمه الزاعمون، فقد ذكر برنامج الأمم
المتحدة للتنمية أنه في عام (91م) كان خُمس سكان الكرة الأرضية في الدول الغنية
يسيطرون على 7. 84% من موارد العالم الطبيعية، بينما سكان قارة إفريقيا
الأكثر فقراً لا يملكون سوى 4. 1% من هذه الموارد.
إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في حماية تجارتها قد أجبرت أوروبا
على تعطيل 15% من أراضيها الصالحة للزراعة، كما أن أوروبا تكدس جبال من
اللحم والزبدة والحليب المجفف من خلال شرائها ومنع بيعها إلا بالأسعار التي
ترغب فيها، أما في الجانب الاستهلاكي فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل
5% من سكان العالم تستهلك ربع الإنتاج العالمي من الطاقة.
إن المال المهدر في إنتاج أدوات الهلاك قادر لو وجه إلى تخصيب الصحارى، وبناء السدود، وحفر الآبار، وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي على معالجة
مشكلة الفقر في العالم وتوفير المياه اللازمة لذلك فمثلاً: تكلفة حاملة طائرات مجهزة
بست وثمانين طائرة يبلغ 5. 1 بليون دولار أمريكي وهو مبلغ يكفي لتوفير شبكة
مضخات مائية تحركها حابسات مياه تعمل بواسطة الطاقة الشمسية لدولة كالهند، أما
بالنسبة لتلوث البيئة فإن واحد من سكان الولايات المتحدة يساهم في ازدياد حرارة
الأرض ستة أضعاف مواطن واحد في المكسيك و 190 ضعف مواطن في أندونيسيا
فزيادة السكان ليست السبب في تلويث البيئة.
وعلى ضوء هذه المعلومات يتضح أن دعوى التكاثر السكاني ليست هي العلة
في المجاعات ولا في انخفاض مستوى الدخول، وإنما المشكلة تكمن في سوء
استغلال الموارد، والفكر المادي الذي يوجه السياسات الاقتصادية والاجتماعية
للدول الغنية.
إن علاقة التنمية بالسكان علاقة تلازم، فالسكان هم مصدر القوى العاملة التي
تمثل أهم عنصر من عناصر الإنتاج، ولكن مؤتمر السكان أغفل أمر النمو النوعي
للإنسان (أي تنمية قدراته وإمكانياته) واهتم بالنمو الكمي للمنتجات بدون ضوابط
أخلاقية، فالنمو حسب المفهوم السائد في المجتمعات الغربية الرأسمالية هو العمل
على تزايد الإنتاج لأي شيء سواء أكان مفيداً أو غير مفيد، مضراً أو مميتاً، مثل
إنتاج الأسلحة والمخدرات كالكحول والسجائر، وغير ذلك من المنتجات التي لا
تنفع الإنسان.
دور الإنسان المسلم في التنمية:
الإسلام يعطي أهمية كبيرة للتنمية، كما أنه لا يهمل دور الإنسان في النمو
ضمن إطار مفهوم: أن الإنسان خُلق وأسكن على هذه الأرض ليشقى ويتعب
وينصب، وأن شقاء الإنسان المادي مرتبط بسلوكه الاعتقادي، لكن حقيقة وجود ما
يكفي البشر المخلوقين من الاحتياجات المادية التي تقوم عليها حياة الإنسان مكفولة،
فالله قد تكفل برزق جميع من على وجه الأرض وليس فقط الإنسان كما في قوله
تعالى: [وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها] [هود: 6] لكن النقص
في الأموال وعدم كفايتها في فترات زمنية معينة لا يرتبط بعدم كفاية ما خلق الله،
وإنما يعود ذلك إلى أمرين:
الأمر الأول: أن النقص ناتج عن عقاب للإنسان إما بسبب الكفر أو بقصد
الابتلاء والامتحان، يقول تعالى: [ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص
من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا
لله وإنا إليه راجعون] [البقرة: 155، 156] ، وقوله تعالى: [وضرب الله مثلا
قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله
لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون] [النحل: 112] .
الأمر الثاني: الابتعاد عن منهج الله سبب للشقاء المادي سواء أكان بعدم
الامتثال لما أمر الله به أو بعدم اتباع شرعه الذي شرعه في تنظيم حياة البشر يقول
تعالى: [ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] [الأعراف: 96] .
يعترف الإسلام بالعلاقة التي تربط التنمية حسب المفهوم الاقتصادي وبين
السكان، فالتنمية هي عملية تفاعل مجموعة من القوى خلال فترة من الزمن ينتج
عن هذا التفاعل حدوث تغيرات جوهرية بقصد إحداث تغيرات معينة في الاقتصاد
القومي، ويقصد بتلك المتغيرات ما يحدث في عرض عوامل الإنتاج لذلك فالتنمية
هي عملية المساعدة في إيجاد التفاعل بين المصادر الإنتاجية والقوى العاملة للمجتمع
فتجعل منها طاقة محركة فاعلة ومتفاعلة.
إن مكونات التنمية والعوامل الفاعلة فيها تتمثل في حصيلة التفاعل بين
الإنسان والموارد الطبيعية واستخدام الزمن في استغلال عنصري الإنتاج (الإنسان
والموارد الطبيعية) ، فحصيلة التنمية تتمثل في الوصول إلى التفاعل بين عنصري
الإنتاج والزمن، وهذا التفاعل لا يتم إلا بوجود المحرك المتمثل في الفكر الفاعل.
إن علاقة التنمية بالسكان تتمثل في أن الإنسان يأخذ مركز الثقل، فإما أن
يدفع بحركة التغيير إلى الأفضل وإما أن يعيق ويعطل حركة التغيير، وإن حركة
التغيير للإنسان تمر من خلال عملية توجيهه من خلال الثقافة والعمل ورأس المال،
فما هو موقف الإسلام من هذا الجانب؟ ! .
هذا ما سيكون محور الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله.