مجله البيان (صفحة 1835)

في دائرة الضوء

لم لا نفكر..؟!

دعوة إلى المزيد من المنهجية

بعيداً عن الرتابة والتقليد

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

(?)

إن طرق المعرفة البشرية أياً كان نوعها متعددة، وهذه الطرق تؤثر غالباً

على صحة المعلومة أو بطلانها، وبقدر ما تنضبط هذه الطرق بالمنهج العلمي يكون

القرب من صحة المعلومة ودقتها، والقدرة على التفكير الصحيح هي الطريق

الأمثل للنمو والنضج، فالفكر هو حياة الإنسان وبه يتميز عن بقية الكائنات، وهو: «الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة» [1] .

ومن أخطر العوامل المؤثرة سلباً على طريقة التفكير والتحليل بناء المعارف

العلمية على العادة والأعراف التي ينشأ عليها الإنسان، فهو يعتقد صحة المسألة

لكثرة تكرارها وتداولها في بيئته التي نشأ فيها، فهي معارف مبنية على التقليد

والاقتباس وليس على التفكير والتدبر، فهو لا يستطيع أن يتجاوز الموروث

الاجتماعي أو الفكري.

وبعض الموروثات الاجتماعية أو الفكرية أو الدعوية قد تكون صحيحة لا

غبار عليها، لكنها تكتسب صحتها عند قوم لأن الدليل الشرعي قد دل عليها وعند

آخرين لأنها موروثات ألفوها وأخذوها عن آبائهم وأشياخهم، وشتان بين المنهجين!

وكثيراً ما نعتقد صحة فكرة ما من الأفكار وتصبح لدينا مسلمة من المسلمات

لا تقبل المناقشة، حتى إذا خرجنا إلى بيئة أخرى واطلعنا على معارف جديدة،

واكتسبنا خبرات إضافية، تبين لنا بطلان ما كنا نؤمن به، وقديماً كان يقال: «لا

يعرف الإنسان خطأ شيخه حتى يجلس عند شيوخ آخرين» .

إن الشعور بالسلامة المطلقة للبيئة التي يعيش فيها الإنسان، واعتقاد هـ بكمالها

وخلوها من الأمراض، يقوده إلى التبعية وحبس العقل عن التدبر والتأمل، وسوف

يؤدي ذلك إلى الضمور والتآكل، وأما الإحساس بضرورة النمو والتحسين وليس

بالضرورة الخطأ فإنه يقوده إلى الإبداع والتجديد وتطوير الطاقات، فالتفكير المبدع

هو الذي يحول الركود والرتابة والتلقائية إلى حركة حية منتجة تتطلع دائماً إلى

المزيد، وكما قال الفضل: «التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك» [2] ، وقال

ابن القيم: «التفكر والتذكر بذار العلم، وسقيه مطارحته، ومذاكرته تلقيحه» [3] .

إن التفكير الصحيح وسيلة من وسائل الانعتاق من آسار العادة والاتكال على

تفكير الآخرين، وكسر لطوق الرتابة والاجترار الذي يتربى عليه الناس كابراً عن

كابر، ولهذا تضمنت دعوات الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام دعوة للتفكر

والنظر، والتخلص من إرث الآباء والأجداد، قال الله تعالى: [قل إنما أعظكم

بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) ] سبأ: 46 [.

والتأثر بالعادة أو البيئة له أشكال متعددة، منها التأثر بالبيئة الاجتماعية التي

ينشأ فيها المرء، أو التأثر بالتجمع الحزبي الذي ينتمي إليه.. ونحو ذلك.

أذكر أنني قبل سنوات كنت في زيارة لأحد الإخوة الدارسين في بريطانيا

فرأيته يساهم في توزيع بيان لتأييد الثورة الإيرانية، فقلت له: هل أنت مؤمن بما

جاء في هذا البيان؟ ! فقال: لا، ولكن..! فقلت: ولكن بهذا أمرت.. فاحمر

وجهه خجلاً، وسكت..!!

تعجبتُ كثيراً من هذا الموقف، وعلمت أن التربية الحزبية أفضل طريقة لوأد

العقول وإماتة البصائر، هذه التربية التي تبنى على ضرورة التسليم والانقياد، دون

النظر والتفكير، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً، ومثل هذا الموقف له نصيب وافر

من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نصر قومه على غير الحق، فهو

كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه» ] 4 [.

لقد نجحت التربية الحزبية في صناعة الببغاوات والقطعان الهائمة التي لا

تجيد إلا فن التصفيق والإشادة واجترار الشعارات، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في

بناء العقول الحية المبصرة، القادرة على بناء المواقف وصناعة الأحداث وأخزى

الله التبعية العمياء الصماء كم قتلت من الطاقات، وسحقت من الشخصيات..! !

(?)

ومن العوامل المؤثرة أيضاً على طريقة التفكير أن معرفتنا للحق تتأثر بأقوال

الرجال وشهرتهم، فنحن نحاكي الرجال في أقوالهم واعتقاداتهم لمجرد إمامتهم

وشهرتهم، حتى إن عقل الإنسان ينغلق ويصبح وقفاً على ذلك الشيخ حتى لا يرى

حقاً إلا ما جاء عن إمامه الذي آمن بقدراته وإمكاناته، فهو يقبل ويرفض، ويصدق

ويكذب، ويأخذ ويعطي، بناء على قول الشيخ وتوجيهه بدون النظر إلى الحجة أو

البرهان، وبدون أن يكون له حظ من التعقل أو التفكير وما مثل هذا الإنسان إلا:

«كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه وهو لا يدري» ] 5 [.

ومن طرائف المقلدة ما نقله الماوردي حيث قال: «ولقد رأيت من هذه

الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان

جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم

يذكره الشيخ لا خير فيه! فأمسك عنه المستدل متعجباً! !» ] 6 [.

وشدة إعجابنا بإمام من الأئمة تجعلنا في بعض الأحيان نتحرج من سؤاله عن

الحجة هذا إذا فكرنا في السؤال! وأذكر في مناقشة لأطروحة علمية أن الباحث

تبنى مسألة واستدل لها بقول لشيخ الإسلام ابن تيمية، فسأله الأستاذ المناقش: وما

حجة ابن تيمية؟ ! فكأن الباحث ارتبك ولم يخطر بباله هذا السؤال، ولم يفكر فيه ...

على الإطلاق؟!

قال محمد بن عبد الله بن الحكم: «ما رأت عيني قط مثل الشافعي، لقد

قدمت المدينة فرأيت أصحاب عبد الملك الماجشون يعلون بصاحبهم، يقولون:

صاحبنا الذي قطع الشافعي، فقلت: إني لأحب أن أنظر إلى رجل قطع الشافعي،

قال: فلقيت عبد الملك، فسألته عن مسألة، فأجابني، فقلت: أي شيء الحجة؟

قال: لأن مالكاً قال كذا وكذا..! فقلت في نفسي: هيهات أسألك عن الحجة،

فتقول: قال معلمي، وإنما الحجة عليك وعلى معلمك!» ] 7 [.

ولهذا قال ابن تيمية: «معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك

عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر» ] 8 [.

وما أجمل قول أبي يوسف: «لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا» ] 9 [.

(?)

إن الخطاب الإسلامي ليس خطاباً وعظياً مجرداً، وإنما هو في أصله خطاب

برهاني يعتمد على البيان التفصيلي الدقيق للحجج والبراهين، وبخاصة في القضايا

الكلية للاعتقاد، فأساسه قول الله تعالى:] قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [

] البقرة: 111 [، وقوله تعالى:] ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن

كنتم صادقين [] الأحقاف: 4 [.

وتتوالى النصوص الشرعية للتأكيد على ضرورة التعقل والتدبر والنظر في

ملكوت السموات والأرض، وتستحث العقل البشري على ضرورة البحث

والمراجعة والتأمل، وتنعى على المقلدة منهجهم، وتذمهم على جمودهم وعجزهم

وقصورهم، قال الله تعالى:] أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها

أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [

] الحج: 46 [.

ويأتي اليوم الذي يتحسر فيه أولئك القوم ويندمون على منهاجهم وطريقتهم،

قال الله تعالى:] وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [

] الملك: 10 [، وقال تعالى:] وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [] الأحزاب: 67 [.

وحينما زعم بعض الفلاسفة أن الطريقة القرآنية طريقة خطابية، رد عليهم

شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة، منها قوله: «وليس الأمر كما يتوهمه

الجهال الضلال، من الكفار المتفلسفة وبعض المتكلمة، من كون القرآن جاء

بالطريقة الخطابية، وعري عن البرهانية أو اشتمل على قليل منها، بل جميع ما

اشتمل عليه القرآن هو الطريقة البرهانية، وتكون تارة خطابية، وتارة جدلية مع

كونها برهانية.

والأقيسة التي اشتمل عليها القرآن هي الغاية في دعوة الخلق إلى الله ...

ولهذا اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة التي توجد في كلام جميع

العقلاء، من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم، ونزهه الله عما يوجد في كلامهم من

الطرق الفاسدة، ويوجد فيه من الطرق الصحيحة ما لا يوجد في كلام البشر

بحال» ] 10 [.

إن الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على

التفكير والإبداع، وعلى المربي أن يستشعر أهمية ذلك فيحيي هذه الملكة في نفوس

أتباعه، فلأن يقود أسوداً متوثبة يقظة، خير له وأنفع من أن يقود قطيعاً من

الخرفان التي لا تعي ولا تدرك، ولن يقوى المربي على ذلك إلا إذا كان أسداً، فهل

من أسود؟!

تأمل حال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما يقول على المنبر: «إذا

أصبتُ فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني» ، فقال له رجل من بين الناس: «إذا

أخطأت قومناك بسيوفنا..!» ، عمر بن الخطاب لا يرضى بتعبيد الناس للناس

ومصادرة عقولهم، وتغييبهم عن الساحة، بل يطالبهم بالمشاركة والناس لا يرضون

بالتبعية والعجز، وهكذا تبنى الأمم.

وأكاد أجزم بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الفكري والمنهجي الذي تمر به

الصحوة الإسلامية هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط مهمة آحاد من الناس أما

البقية فهم متفرجون، لا يتجاوز دورهم تكثير السواد..!

وإن تحرير العقول من العبودية للأحزاب، ومن الذوبان في أقوال الشيوخ،

مطلب رئيس للنهوض بالعمل الإسلامي من الرتابة والاجترار والدوران حول الذات، ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي أن تستحث تلك الطاقات الكامنة

الخاملة، إلى النظر والتأمل، وفق الأسس والموازين الشرعية، فلأن تفكر الأمة

بمائة عقل خير لها وأنفع من أن تفكر بعقل واحد..!!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015