دراسات شرعية
النفاق
حقيقته، أنواعه، صوره
-2 -
د. محمد عبد الله الوهيبي
تمهيد:
تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى تعريف النفاق في اللغة والاصطلاح،
وبين معنى النفاق الأصغر وأنه نوع من الاختلاف بين السريرة والعلانية مما هو
دون الكفركالرياء، وبين أن النفاق الأكبر الذي هو إظهار الإنسان إيمانه بالأركان
الستة للإيمان، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه.. وفي هذه الحلقة يواصل
الكاتب المزيد من الإيضاح لجوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
صور النفاق الأكبر:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض هذه الصور، فقال: فمن النفاق
ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبيّ
وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به أو بُغْضه، أو عدم
اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو
ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومازال بعده، بل هو بعده أكثر منه على
عهده ... ) [1] .
وقال في موضع آخر: (فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه،
أن لا يرى وجوب تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به، ولا يرى
أيضاً وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر علماً
وعملاً وأنه يجوز تصديقه وطاعته لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان
المعبود واحد، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته،
إما بطريق الفلسفة والصبر، أو بطريق التهود والتنصر ... ) [2] .
ونقل هذه الأنواع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال: ( ... فأما
النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به
الرسول، أو بُغْض الرسول أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين
الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل
الدرك الأسفل من النار) [3] .
فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان بعد دمج الأنواع المتشابهة أو المتقاربة
خمس صفات أو أنواع هي:
1- تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو تكذيب بعض ما جاء به.
2- بغض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بغض ما جاء به.
3- المسرة بانخفاض دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو الكراهية
بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- عدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر.
5- عدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر.
وبالنظر إلى الآيات التي ذكرت أحوال المنافقين، وكلام المفسرين حولها،
يمكن أن يضاف إلى هذه الصفات صفات أخرى، وهي:
6- أذى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عيبه ولمزه.
7- مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين.
8- الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم وطاعتهم لله ولرسوله.
9- التولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالوقوع في أي صفة من هذه الصفات يُخرج من الملة، وهذه الصفات أكثرها
متعلق بحق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
( ... فالنفاق يقع كثيراً في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته ... ) [4] .
وسأشرح بعض هذه الصفات باختصار ذاكراً أدلة نفاق صاحبها:
1- أذى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عيبه ولمزه:
وهذا داخل في سبه -صلى الله عليه وسلم- لأن السب: «هو الكلام الذي
يقصد به الانتقاص والاستخفاف ... » [5] والعيب، واللمز فيه انتقاص.
قال تعالى: [ومنهم من يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم
يعطوا منها إذا هم يسخطون] [التوبة: 58] .
نزلت هذه الآية في ذي الخويصرة التميمي حينما جاء إلى النبي -صلى الله
عليه وسلم- وهو يقسم غنائم حُنين (فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن
يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه فإن له
أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرميّة ... قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي -
صلى الله عليه وسلم- قال: فنزلت فيه [ومنهم من يلمزك في الصدقات] ) [6] .
قال الإمام الشوكاني في تفسيرها: (قوله: ومنهم من يلمزك) ، يقال: لمزه
يلمزه: إذا عابه، قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين
ونحوها، ... ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات: أي في تفريقها
وقسمتها) [7] .
وقال في آية أخرى: [ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن، قل أذن
خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون
رسول الله لهم عذاب أليم] [التوبة: 61] ، إلى قوله سبحانه: [ألم يعلموا أنه من
يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداْ فيها ذلك الخزي العظيم] [التوبة: 63] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن
ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم
يكن الكلام مؤتلفاً، ... ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أن له نار
جهنم خالداً فيها ... ) [8] ، وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: (قوله:
«ومنهم» هذا نوع آخر مما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم، وذلك أنهم
كانوا يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه الطعن والذم هو أذن، قال
الجوهري: يقال رجل أذن: إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد
والجمع ومرادهم أقمأهم الله أنهم إذا آذ وا النبي -صلى الله عليه وسلم- وبسطوا فيه
ألسنتهم، وبلغه ذلك اعتذروا له وقَبل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة، لأنهم
سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأن جملته أذن سامعة، ... وإيذاؤهم له
هو قولهم «هو أذن» لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين
الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم وصفحه عن خباياهم كرماً وحِلماً
وتغاضياً....) [9] .
وهذه الآية والتي قبلها ذكرهما شيخ الإسلام ضمن الآيات الدالات على كفر
شاتم الرسول وقتله [10] .
وذكر أن إيذاء الرسول ولمزه من الصفات الدالة على نفاق صاحبها، فقال
رحمه الله: (وذلك أن الإيمان والنفاق، أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من
القول والفعل فرع له ودليل عليه، فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم
عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي -صلى الله عليه وسلم-، والذين
يؤذونه من المنافقين، ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، ومعلوم أنه إذا
حصل فرع الشيء ودليله حصل أصل المدلول عليه، فثبت أنه حيث ما وجد ذلك
كان صاحبه منافقاً سواء أكان منافقاً قبل هذا القول، أو حدث له النفاق بهذا ...
القول) [11] ، وهذا السب من الإيذاء واللمز والاستخفاف مناف لعمل القلب من الانقياد والاستسلام (ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً ولكن لم ينقد للأمر، ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافراً) [12] .
2- التولي والإعراض عن حكم الله ورسوله:
ذكرت هذه الصفة عنهم في سورتي النساء والنور، قال تعالى: [ويقولون
آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين،
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون] [النور: 47، 48] ، يقول الحافظ ابن كثير في تفسيرها: (يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يقولون قولاً بألسنتهم [آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك] أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: [وما أولئك بالمؤمنين] ، وقوله تعالى: [وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم] أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، وهذه كقوله تعالى: [ألم تر إلى الذين يزعمون ... ] [13] ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا) [14] ، وقال سبحانه في سورة النساء: [ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ]
[النساء: 60، 61] ، لا شك أن هؤلاء المعرضين ممن يدعون الإيمان هم المنافقين [15] ، (فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى ... الرسول فصد عن رسوله كان منافقاً) [16] .
وهذا النوع من النفاق مما ينافي عمل القلب من القبول والاستسلام.
3- مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين:
وهذه من أخص صفات المنافقين، فهم في الظاهر مع المؤمنين، لكنهم في
الحقيقة مع الكفار عيوناً وأعواناً لهم، يكشفون لهم عورات المسلمين وأسرارهم،
ويتربصون بالمؤمنين الدوائر.
قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين
في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين]
[المائدة: 51، 52] .
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية بعدما ذكر الخلاف في
المعني بهذه الآية: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره
نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان
بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله
والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله
ورسوله منه بريئان) [17] .
ومن الآيات الصريحة دلالتها في اتصاف المنافقين بهذه الصفة قوله تعالى:
[بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاْ] [النساء: 138، 139] .
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: ( ... أما قوله جل ثناؤه:
[الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين] ، فمن صفة المنافقين، يقول
الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي، والإلحاد في ديني
«أولياء» يعني أنصاراً وأخلاء «من دون المؤمنين» يعني من غير المؤمنين،
«أيبتغون عندهم العزة» أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من
دون أهل الإيمان بي؟ ، «فإن العزة لله جميعاً» يقول: فإن الذين اتخذوهم من
الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء ... ) [18] .
ومعلوم أن موالاة الكفار مراتب مختلفة [19] ، منها ما يصل إلى درجة الكفر
الأكبر، ومنها دون ذلك، وما نشير إليه هنا هو الموالاة المخرجة من الملة التي
يختص بها المنافقون وهي اتخاذهم أنصاراً وأعواناً على المؤمنين، أو الموالاة
التامة لهم بالرضى عن دينهم أو تصحيح مذهبهم ونحو ذلك، يقول الإمام الطبري
رحمه الله مبيناً ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: [لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء
من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة]
[آل عمران: 28] ، قال رحمه الله: (لا تتخذوا أيها المؤمنين، الكفار ظهراً
وأنصاراً توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين،
وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك [فليس من الله في شيء] يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ... ) [20] ، وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ضمن نواقض الإسلام (الثامن:
مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: [ومن يتولهم
منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين] [21] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى [ومن
يتولهم فأولئك هم الظالمون] : (وذلك الظلم يكون بحسب التولي فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً من دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ،
وما هو دونه) [22] .
وهذه الموالاة تدل على فساد في اعتقاد صاحبها، وبخاصة من جهة منافاتها
لعمل القلب من الحب والبغض، فالحب والبغض كما هو معلوم أصل الموالاة
والبراءة، فمحبة المؤمنين تقتضي موالاتهم ونصرتهم، وبغض الكافرين يقتضي
البراءة منهم ومن مذاهبهم وعداوتهم ومحاربتهم، فإذا عادى المرء المؤمنين
وأبغضهم، ووالى الكافرين وناصرهم على المؤمنين، فقد نقض أصل إيمانه.
4- المسرة بانخفاض دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو الكراهية
لانتصار دينه:
وهذه الصفة ذكرها الله عز وجل عن المنافقين في أكثر من موضع، فهم
بسبب موالاتهم للكافرين يسعون معهم لإضعاف المسلمين وإثارة الفتن بينهم
والتخذيل ويسيئون الظن بوعد الله ونصره، ويحبون ظهور الكفار وانتصارهم على
المسلمين ويفرحون بذلك، وبالمقابل يصيبهم الهم والغم حينما ينتصر المسلمون.
قال عز من قائل: [إن تصبك حسنة تسؤهم، وإن تصبك مصيبة يقولوا قد
أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون] [التوبة: 50] ، قال الإمام الشوكاني
رحمه الله: (إن تصبك حسنة) أي حسنة كانت بأي سبب اتفق كما يفيده وقوعها في
حيز الشرط، وكذلك القول في المصيبة، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في
القتال كما يفيده السياق دخولاً أولياً، فمن جملة ما تَصْدُق عليه الحسنة، الغنيمة
والظفر، ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام، وهذا نوع آخر من
خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من أعظم ما
يدل على أنهم في العداوة قد بلغوا الغاية) [23] ، ويقول الإمام ابن حزم رحمه الله:
(وأما الذي أخبر الله تعالى بأنه إن أصابت رسوله عليه الصلاة والسلام سيئة
ومصيبة تولوا وهم فرحون، أو أنه إن أصابته حسنة ساءتهم فهؤلاء كفار بلا
شك) [24] .
والذين يسوءهم انتصار دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- حكمهم حكم من
يسوءه انتصار الرسول نفسه، ولذلك ورد في الآية السابقة: [إن تمسسك حسنة
تسؤهم ... الآية] ، وفي آية أخرى، يقول سبحانه وتعالى: [إن تمسسكم حسنة
تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاْ، إن الله بما يعملون محيط] [آل عمران: 120] .
وما أكثر ما نلاحظ هذه الصفة في المنافقين المعاصرين من الساسة
والإعلاميين وغيرهم، حيث يصيبهم الهم والغم والحزن، ويظهرون الكراهية
حينما ينتصر المسلمون في بلد من البلدان، وبالمقابل يظهرون الفرح والسرور
والتشفي بما يصيب المؤمنين من هزيمة ومصائب ومحن، وقد يبررون هذا السلوك
بوجود انحرافات وأخطاء لدى بعض المؤمنين، وهذا المبرر أو التأويل وإن عُذر
به المتأولون المجتهدون، فلا عذر لكثير من هؤلاء لأنه لا يعرف عنهم حرص
على التدين أو غيرة على الدين، وإنما يحرصون على ما يرضي أولياءهم
الحقيقيين من اليهود والنصارى ونحوهم، وهذا السلوك المشين يدل على فساد في
عمل القلب من الحب والفرح أو البغض والكراهة، نسأل الله تبارك وتعالى السلامة
والعافية.
ويمكن أن نذكر صنفاً آخر من أصناف المنافقين، الذين عُرفوا على مدار
التاريخ بالكيد للسنة وأهلها ومعاونة الأعداء عليهم، والحزن لظهور السنة وعلوها،
والفرح بانهزام أهل السنة وانكسارهم، وهؤلاء هم الرافضة وقد صور شيخ الإسلام
حالهم هذا أحسن تصوير، فقال: ( ... فالرافضة يوالون من حارب أهل السنة
والجماعة، ويوالون التتار، ويوالون النصارى، وقد كان بالساحل بين الرافضة
وبين الفرنج مهادنة، حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين
وسلاحهم، وغلمان السلطان، وغيرهم من الجند والصبيان، وإذا انتصر المسلمون
على التتار أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا الفرح
والسرور، وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة، وقتل أهل بغداد، ووزير
بغداد ابن العلقمي الرافضي هو الذي خامر على المسلمين، وكاتب التتار، حتى
أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة ونهى الناس عن قتالهم، وقد عرف العارفون
بالإسلام: أن الرافضة تميل مع أعداء الدين ... ) [25] .
فهل يعي المسلمون بعامة، والمنتسبون إلى الدعوة بخاصة، هذه الحقيقة؟
وهل يعي هذه الحقيقة من لايزالون يدافعون عن القوم ويحسنون الظن بهم أو
يتحالفون معهم ويعلقون عليهم الآمال لنصرة الدين؟